• ×

د.عبدالرحمن الدهش

خطبة الجمعة بعنوان الكسوف 15-7-1432هـ

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  4.4K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

الحمد لله خلق الشمس والقمر، وجعل فيهما آيات وعبر وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحب ومعشر وسلم تسليماً كثيراً . أما بعد :- فحديثي إليكم عباد الله عن خطبة بليغة، وموعظة عجيبة، خطبها النبي صلى الله عليه وسلم إثر حادث عجيب، وصلاة عجيبة. أما الحادث العجيب: فكان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم في التاسع والعشرين من شهر شوال في السنة العاشرة من الهجرة، في يوم شديد الحر بعد أن طلعت الشمس- في ذلك اليوم وارتفعت قليلاً في الأفق تغيرت شيئاً فشيئاً فاسودت. فخاف الناس واستوحشوا من هذا الحدث العجيب، وقام النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً يخشى أن تكون الساعة، وبلغ من فزعه أنه صلى الله عليه وسلم- نسي رداءه حتى لحق به. أما الصلاة العجيبة فهي عجيبة في ندائها، فلا ينادى لها بالأذان المعروف، وإنما ينادى لها بـ"الصلاة جامعة". وهي عجيبة في كيفيتها، فهي أربع ركوعات وأربع سجدات، بأطول قيام وركوع وسجود. قال العلماء: والركوع المعتبر في إدراك الركعة هو الركوع الأول، وليس الثاني، فمن جاء للصلاة بعد أن رفع الإمام من الركوع الأول فليقض ركعة كاملة بركوعين . وأما حال الصحابة مع نبيهم صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة فقاموا معه، وبلغ من شدة قيامهم معه أن جعلوا يخرون. وهم القوم لم يكونوا مترفين لأنفسهم. ثم بعد أن فرغت الصلاة ، وتجلت الشمس خطب النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه خطبة عجيبة بيَّن فيها أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله يخوِّف بهما عباده. ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكر ثلاثة أشخاص بأعيانهم، وذكر أعمالهم التي أوجبت دخولهم النار. - ذكر عمرو بن لحي الخزاعي. - وذكر صاحبة الهرة . - وذكر صاحب المحجن. وهؤلاء الثلاثة إذا تأملت حالهم لوجدت كل واحد قد استقل بمعصية هي أصل في مجالها. أما الأول: وهو عمرو بن لحي الخزاعي فقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر قصبه يعني أمعاءه، يجرها في جهنم. وأما عمله: فبئس العمل، فهو أول من أدخل الشرك على أناس موحدين، جلب إليهم الأصنام ، ونصب لهم الأوثان، وسيَّب السوائب وهي الإبل ينذرونها لأصنامهم -. وفي هذا أشد التحذير أن يجعل الإنسان نفسه باب شر على الناس في عقائدهم أو أخلاقهم أو معاملاتهم. « وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلاَ يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ » [رواه مسلم(1017)]. فإن من جلب للناس شراً لم يعرفوه إلا عن طريقه، أو كانوا عارفين وفي غفلة عنه، يكون عليه إثمه وإثم من تأثر به إلى يوم القيامة. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم «لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، وَذَلِكَ لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ» [رواه البخاري (3335)، ومسلم(1677)]. وقال الله تعالى : ]لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ[ [ سورة النحل:25]. فاحذر يا عبد الله أن تكون باب شر على أهل بلدك أو على أهل بيتك. فتكون مذمة لك في الدنيا وإثماً عليك في الآخرة. فمن يوصل هذه المعلومة إلى دعاة الاختلاط، وإلى من يسهل قيادة المرأة للسيارة في بلد معافى من هذه البليات! والعجب أن من حمل لواء شيء من هذه الدعاوى المفسدة صاروا يتنصلون من وصفها بالمظاهرات فبدلا من قولهم (مظاهرة قيادة المرأة) وفي ذلك حرج شرعي ونظامي قالوا إنما ندعو إلى مبادرات. أو ما علموا أن من المبادرات ما حرم الله على صاحبها بسببها الجنة قال عز و جل " عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة " أخرجه البخاري فهنيئا لهم هذه التسمية الجديدة حيث وأما الثانية: فهي صاحبة الهرة . امرأة ربطت هرة عندها فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعاً. رآها النبي صلى الله عليه وسلم تُعذَّب في النار بسبب هذه الهرة. فهذه عاقبة الظلم وإن الله حرَّم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً. فلئن عذبت امرأة في ظلم هرة لا تعقل فكيف تَقَرُّ عينُ من ظلم عبداً من عباد الله فمنعه حقه الواجب أو اعتدى عليه. فأين بعضُ الكفلاء الذين ظلموا مكفوليهم فاستوفوا حقوقهم ثم ماطلوهم بمرتباتهم. وأين بعض الأزواج الذين ظلموا أزواجهم فلم يُمسكوهن بمعروفٍ ولم يسرحوهن بإحسان. استغلوا ضعفهن وتمسُّكَهنّ بهم لأجل ما بينهم من الأولاد فلم يعطوهن حق معاشرة، ولا واجب نفقة، وربما ضربوا ضرباً مبرحاً لأتفه الأسباب. و]إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ[. وأين بعض الآباء والأولياء الذين ظلموا أولادهم ففرقوا بينهم في المعاملة والعطية فوقعت بينهم العداوة والبغضاء. وأين بعض الآباء والأولياء الذين ظلموا بناتهم ولم يعطوهن الواجب من التربية والرعاية وربما منعوهن من الزواج من الأكفاء حتى لا ينقطع ما تَدُرُّه عليه بنته من مرتبها . ألا فليعلم هؤلاء أن هذه البنات الضعيفات إن لم يستطع أن يأخذن حقوقهن في الدنيا فإنهن خصمُك يوم القيامة. وليعلم كلُّ ظالم قد ظلم أحداً في هذه الدنيا مظلمة مالٍ أو عرضٍ أنه على خطر عظيم، وأن سنة الله أن يعجِّل للظالم عقوبته في الدنيا مع ما يوفره له من العذاب في الآخرة. ] ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ [سورة المائدة:33]. ولا تنس أيها الظالم أن بيد المظلوم سلاحاً يوشك أن يسلطه عليك فتندم حين لا ينفع الندم، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ» [متفق عليه] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ قَالَ ثُمَّ قَرَأَ ]وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهْيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ[»[متفق عليه]. وأما الثالث: فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم صاحب المحجن ، والمحجن هي العصا المحنيةُ الطرف، يسرق بها الحجاج فإن فَطِنَ له أحدٌ قال:" تعلَّق متاعك بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به، فهذا ذنبه تحايل مكشوف على أموال الناس بل على من قصد ما عند الله من حجاج بيت الله. فما ظنُّك بما سوف يكون مع الحاج وما ظنك بما سوف يتعلق من ماله بهذا المحجن. ولكن - يا عباد الله إن التطلع إلى ما في يد الآخرين والتحايل على أموالهم مرض تبتلى به بعض النفوس، فالحلال عندهم ما يحل في اليد، ولا تسأل عن وجهه وطريقه. فالغشُّ في السلع وإظهارُ الرديء بمظهر الجيد، وإخفاء العيوب ، أصبح حِذقاً ودليلاً على القدرة على تصريف البضائع. والرشوة يأخذها على عمل واجب عليه أصبحت أتعاباً وخدمة. وهكذا السلع عند الدلالين يتبايعونها بينهم، فلا يرجع صاحبها إلا بأقل ثمن. فاتقوا الله يا عباد الله واحذروا الظلم والتحايل. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم... أما بعد. فقد علمت يا عبد الله- بخبر نبيك صلى الله عليه وسلم الحكمة من حدوث الكسوف للشمس أو القمر، وأن ذلك تخويف من الله لعباده، فليس الكسوف عذاباً بذاته، ولكنه نذير عذاب انعقدت أسبابه هكذا فهمه النبي صلى الله عليه وسلم، وفهمه أصحابه عنه، ولا يعارض هذا وجود أسباب حسية قدَّرها الله، شأنُ الكسوف شأن غيره من الحوادث الأرضية والسماوية. ] إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ[ [سورة القمر:49]. فالمؤمن يعلم أن للكسوف أسباباً شرعية وحسية ، وأما الكافرون ومن تأثر بأقوالهم من الماديين فلا يرون إلا السبب الحسي. فصار همهم في أقوالهم ومقالاتهم حول الأسباب الحسية. ولا ينبغي للمسلم العاقل أن يردد كل ما يسمع بعيداً عن الميزان الشرعي والضابط الإلهي. فالمسلم لا يحتفي بالكسوف الذي وقع ليلة الخميس الماضية لأنه كسوف لم يقع نظيره منذ أربعين سنة، ولن يقع مثله إلا بعد ستين سنة . فهذه أمور من فضول العلم بمجردها لانزيد إيماناً ولا تصحح مسارا . أيها الإخوة: انكسف القمر فلم نجد لهذا الحدث الذي يخوف الله به عباده أثراً يذكر في نفوسنا، ولا فيمن حولنا، قام من وفقه الله ليصلي صلاة الكسوف فصلى . ومن عمل صالحاً فلنفسه . ولكن أين الفزع الذي يحدثه الكسوف في أناس عرفوا الله حق المعرفة . أين البكاء والنحيب، والجؤار في المساجد والبيوت من الرجال والنساء . أحوال ذهبت مع أصحاب القلوب الحية . أيها الإخوة : وحيث أشرنا إلى شيء مما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته فلا نغفل جملة عظيمة قالها أيضاً في تلكم الخطبة فعن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( يا أمة محمد ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته تزني يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ) رواه البخاري وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله ) رواه مسلم . قال ابن القيم رحمه الله : ولهذا كانت غيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه ولأجل غيرته سبحانه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن لأن الخلق عبيده وإماؤه فهو يغار علي إمائه كما يغار السيد على جواريه ولله المثل الأعلى ويغار علي عبيده أن تكون محبتهم لغيره بحيث تحملهم تلك المحبة على عشق الصور ونيل الفاحشة منها . وقال أيضا-رحمه الله : وفى ذكر هذه الكبيرة بخصوصها عقيب صلاة الكسوف سر بديع لمن تأمله وظهور الزنا من أمارات خراب العالم وهو من أشراط الساعة ... وقد جرت سنة الله سبحانه فى خلقه أنه عند ظهور الزنا يغضب الله سبحانه وتعالى ويشتد غضبه فلابد أن يؤثر غضبه فى الأرض عقوبة . قال عبد الله بن مسعود ما ظهر الربا والزنا فى قرية إلا أذن الله بإهلاكها ... أجل عباد الله : وإن وقوع هذه الفاحشة في المجتمعات لا تكون إلا بمقدمات يتساهل الناس بأسبابها يغضون الطرف عن مقدماتها . ألا وإن أعظم أسباب الزنا ومقدماته تساهل الأولياء في أمور نسائهم من البنات والأخوات وغيرهن . فقد ضيَّع كثير منا حق القوامة الذي جعله الله تشريفاً للرجال وهو حقيقة تشريف بتكليف . (الرجال قوام على النساء) وإلا كيف للمرأة الضعيفة أن تزاحم الرجال في الأسواق تجوبها عرضاً وطولاً بعباءة مخجلة ونقابات فاتنة . ولو كنا قائمين على النساء لم تستطع المرأة أن يكون بقاؤها خارج بيتها هو الأصل في بعض الأسر فتخرج لكل دعاية وتجيب كل ناعق تعددت الأسماء والسفور والتبرج واحد . وأيام الإجازة ليست منكم ببعيد، حينها تمتحن الأسر، ويشتد اختبار الأولياء في حفظ نسائهم . والمسؤلون عن الأنشطة الصيفية والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر لهم جهودهم المشكورة في حفظ الفضيلة، وقطع دابر الرذيلة. ولكن يبقى دورك أيها الولي، حزماً وتوجيهاً مع منهم تحت يدك لا تكن غافلاً ولا مغفلاً فالأسواق ليست على عهدك الأول، وبعض الباعة لم يعودوا باعة فقط، وبعض المتسوقين من الشباب، وغيرهم ليسوا متسوقين فقط بل لهؤلاء وهؤلاء أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، ولأجلها متلصصون متربصون . نسأل الله السلامة والعافية حمى الله نساءنا، وحفظ شبابنا، وهدى الضالين من أبنائنا وإخواننا. (أفحسيتم أنما خلقتاكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش العظيم) اللهم إنا نعوذ بك ...



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 09:18 مساءً الثلاثاء 1 يونيو 1446.