إن الحمد لله نحمده ونستعينه ...
أما بعد:-
فالدعواى من أسهل البضاعات قال الله تعالى (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناؤه الله وأحباؤه)
وسجل الله تعالى في كتابه حدثا عجيباً وقع في آخر عهد الدعوة النبوية قوم بنوا مسجداً، وأعظم ببناء المساجد من عمل صالح! (ومن بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة)
ولكن لا عبرة بالبنيان، ولا تغتر بجمال الجدران إذا كان بنيانه على شفا جرف هار .
أجل أيها الإخوة بنى طائفة من المنافقين مسجد في طرف المدينة، وقالوا نستعين به على الطاعة، ويكون قريباً ممن يشق عليه الحضور للمسجد النبوي فهو عمل رِفْقي !
هكذا أظهر أصحابه، ولكن المقاصد الظاهرة بل المظهر لا تكفي في قبول العمل عند الناس، فكيف يقبلها رب الناس ؟!
(والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وارصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل)
ثم تأتي الدعوى بعد ذلك مؤكدة بيمين مغلظة (وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى) .
ثم عاقبة ذلك كله كشف الله الذي يعلم السر والنجوى (والله يشهد إنهم لكاذبون)
وما العمل (لاتقم فيه أبدا) !
انتهى الموضوع، فلم تنجح الخطة، ولم ترج الدعوى، فأمر بالمسجد ليهدم، لأنه عمل غير صالح، وإنما يتقبل الله من المتقين .
ولهذا يأتي تأديب الله تعالى لعباده، وتعليمه لهم بقوله (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم، والله لا يهدي القوم الظالمين) .
هذا هو سر قبول العمل (على تقوى من الله ورضوان)
ما أسهله من معنى!
وما أصعبه من تنفيذ!
وفي أزمنتنا المتأخرين الدعاوى على قدم وساق، والمصلحون وهم مَصْلَحِيًّون كثروا في هذه الزمن!
واتخذوا من وسائل الاتصالات، وتقنية المعلومات عوناً لباطلهم، وترويجاً لمكرهم (ولايحيق المكر السيء إلا بأهله).
لئن ذكرنا في الجمعة السابقة قوله تعالى (ما فرطنا في الكتاب من شيء)
فإننا نجد لها تطبيقاً آخر في كلمات هذه الجمعة فالله تعالى يحكي في أطول سورة أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم وهي أول سورة مدنية يحكى عن قوم ادعوا الغيرة على مجتمعهم، وأنهم حريصون على مصالحه، ولكن يأبى الله إلا أن يحق الحق، ويبطل الباطل، فالدعوى التي أطلقوها شيء وواقعهم شيء آخر فلم يتطابقا!
حينها جاء النصح لهم تحقيقاً لقوله تعالى (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض)
فبادرت طائفة تبين لها خطر هؤلاء الأدعياء وقالوا لهم بخطاب ناصح (لاتفسدوا في الأرض) فأخذتهم العزة بالإثم وقالوا بخطاب فاضح: إنما نحن مصلحون.
ولكن ميزان الله غير هذا، يقول الله تعالى (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) .
في هذه الأجواء المضطربة، والشعوب التي تموج، والقيادات التي سقطت عليها عروشها، والأنظمة التي خرَّ عليها السقف من فوقها، وسحبت بُسُط العزة من تحتها.
في هذه الأيام العصبية، والأوقات المتوترة، والنفوس القلقة يأبى أناس إلا أن يجروا هذه البلاد إلى الدخول في ساحة الوغى، واستنشاق غبار الفوضى!
وقالوا يكفيكم ما تفيأتموه من نعمة الأمن، واغتبطتم به من وحدة الصف وجمع الكلمة على البر والتقوى .
يكفيكم ما تحقق فيكم سنين عديدة من قوله (أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم) .
هذه حقيقة الدعوى ضد هذه البلاد شاؤا أم أبوا ؟
وإن اختلفت النيات! وتعددت الوسائل !
وبعد بيان الحقيقة فإننا لا نهمل الدعوى الظاهرية، ونحن في زمن الدعاية والإعلان.
فالدعوة إلى مظاهرات في هذا البلد الكريم باسم الإصلاح، ورفع الظلم، والمنادات بالحقوق، ونحوها من الشعارات بعد أن تبين الحق والرشد من الغي والدجل فيها.
لم يعد ولله الحمد التحذير منها موجهاً لجميع أهل هذا البلد فالعقلاء يدركون أين يضعون أقدامهم؟
وكفى بالعقل رادعاً، فكيف إذا استنار العقل بالشرع، وفهم مراد الله، وتبصر بحكمته
(ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا)
وإنما تأتي هذه التنبيهات لمن قد يقع في قلبه شيء، ويستمليه خطاب أو بيان من هنا أو هناك .
وتأتي هذه الكلمات من باب الوقاية خير من العلاج .
بل إنها تأتي من باب قوله تعالى (فأنذرتكم ناراً تلظى)
نعم نار الدنيا بتسلط المفسدين مدعي الإصلاح .
نار الدنيا حينما يفرح علينا الأعداء، وتقر عين الحاسد بتخلخل الصف، ويبدي الرافضي المنافق قرونه، ويرفع العلماني رأسه، ويقدم أوراق مشاريعه في تغريب البلاد، فهذا يومكم الذي كنتم لها تنتظرون .
ويعود الحنشل الذين حدثنا عنهم آباؤنا وأجدادنا يعودونا إلى مواقعهم .
أما العدو العسكري فهو على أتم الاستعداد، وحجته واضحة، فحماية رعاياه، ووضع يده على ما يحفظ اقتصاده ومصدر طاقته...
ولا مانع عنده أن يغلف هذا كله بحفظ الحقوق ورعاية الحرية، والدعوة إلى الديمقراطية فلستم بأقل من غيركم.
كله هذه أوراق موقعة، وتنتظر الإشارة منكم إذا أذنت بشيء من العبث في الأمن بحجة مظاهرات، ومطالبات
حفظ الله علينا أمننا .... أقول قولي هذا ...
الحمد لله ...
أما بعد:-
فإن رأياً قد تبدو فيه البساطة بشيء كبير حينما يقول أو يظن أحد أن هذه المظاهرات التي يدعى لها هي مظاهرات سلمية لايحمل فيها سلاح ولا تدعو إلى إسقاط حكومة، ولا غير ذلك مما حصل في بعض الدول المجاورة، وإنما هي مطالبات صحيحة بأمور محددة ثم نرجع إلى أهلنا فكهين.
فأقول: هذه أحلام يقظة، وإن قليل الشر كثير لا سيما في أمور تفتح باباً بل أبواباً يدرك عاقبتها العقلاء .
ومن قال لك أمور المتظاهرين محددة، بل لن ترجع إلى أهلك، وإن رجعت سوف ترجع من النادمين .
كيف؟
اسمع كبف ؟
أيها المحتسب في تظاهره سوف يقف معك في مظاهرتك من يفجؤك بسلاح في جيبه، فهل ستقول له هي سلمية فأخف سلاحك، ولا تسيء إلى مظاهرتنا !.
فإن رفض، وحاول استعمال ما بيده، فسوف تتعارك معه، وتخاصمه، وتدعو الناس ليخرجوه، حينها سوف تفاجأ بآخر مثله وثالث ورابع!
إذا انكسر الباب ولم يعد هناك باب يفتح أو يغلق!
أتظنك بعد هذا تقول: انتهينا انتهينا ..
أسلوب المظاهرات أسلوب غربي لا يحقق مصالح، ويستغلها كل شاكلته .
لا أظن خط الرجعة مفتوحاً بعد ذلك بهذه السهولة!
فسوف يتظاهر من يشاء بالقضية التي يشاء !.
فسوف تأتي مظاهرات تنادي باسم التسامح الديني، وعدم التفريق الطائفي فمطالبها الإذن بالكنائس، والسماح بالحسينيات.
سوف تأتي مظاهرات تدعو إلى اختلاط التعليم، وقيادة المرأة للسيارة في أمور محسومة شرعاً.
وأخرى تظاهر ضد سفينة النجاة هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنهم أناس متشددون، تشددوا علينا في معرض الكتاب، وقالوا لا تبيعوا كتب الإلحاد والفساد.
ثم لا يطول بك زمن أن تجد مظاهرة تريد اختصار الطرق فتقول: القول بأن دستور المملكة هو الكتاب والسنة هذا نشاز في دساتير الدنيا، وأنظمة الدولة، ويسعنا ما يسمع دول العالم، فخطوا لكم دستوراً واستفيدوا مما شئتم من المراجع !
الله أكبر ما أسود تلك الأيام!
أبعد الله حصولها .
أيها الأخوة : إن إنكار المظاهرات، أو الاعتصامات التي اتفقت فيها كلمة ولاة الأمر من العلماء والأمراء فبيان هيئة كبار العلماء، ثم بيان وزارة الداخلية كلاهما أكدا منع ذلك شرعاً ونظاماً .
وحذرا من شق الصف، وإثارة الفتن، وأكدا على أن المفاسد تعالج بالأسلوب الشرعي الذي يفوت على المتربصين مرادهم .
إن تحريم ومنع المظاهرات لا يعني تزكية الحال، والرضى عن الوضع، والناس يشهدون خللا في الراعي والرعية.
وتجاوزات تؤذن بعقوبات عاجلة أو آجلة .
(فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) .
ولكن النصح واجب على القادر، وإن لم يستجب فالصبر واجب على الجميع .
ففي صحيح البخاري: عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَتَكُونُ أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ .
وفي حديث آخر ( ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض )
معاشر الحريصين على أمنهم واجتماع كلمتهم :
وقد تواتر أن وراء الدعوة إلى هذه المظاهرات أسماء لم تعرف بنصرة الدين، ولا الحمية على المسلمين ولكنها منخنقة ومتردية ونطيحة، وقد قال الله تعالى (إلا ما ذكيتم) فهذه لم ندرك ذكاتها حتى ينتفع بها، فماتت حتف أنفها في أفكارها الرديئة، ومنهم الرافضة خدمة أعداء الدين، وأعداء الفضيلة..
وقانا الله شرهم، وكف عنها أذيتهم .
اللهم احفظ علينا أممنا، واجمع على أمامنا كلمتنا ...
للإستماع للخطبة من هنا