إن الحمد لله ...
أما بعد:-
فحينما تغيب المثل العليا في مجتمع من المجتمعات، ويصبح الدخن هو الذي يعلو فوق رؤوس الناس، ويوشك أن تنقرض القدوات التي تعي معنى الصدق والأمانة يحتاج الناس حينها أن يردوا إلى جادة الصواب، ويبين لهم سبيل الناصحين الذين ذممهم أغلا ما يملكون، والخيانة أبعد ما عنها يكونون، فلا يغدرون ولا يغلون،
أيها الإخوة مما ربى النبي صلى الله عليه وسلم عليه أصحابه خلق الأمانة، وقد كان قدوة لهم في هذه الصفة العظيمة قبل البعثة، يوم أن كان الناس في جاهلية وشر، كان محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وسلم) يدعى بالصادق الأمين، لحكمة عظيمة أبرز الله هذه الصفة فيه، وهو ذو الخلق العظيم في كل مقام فشهد بهذه الصفة أعداؤه، ولقبوه بها من غير تردد، ولما بعث صلى الله عليه وسلم رسولا إليهم وكفر به من كفر لم يتجرؤا فيقولوا خائن، أو ليس بأمين، مع أنهم قالوا عنه ساحر كذاب، وقالوا عما جاء به من الوحي شعر وكهانة .
لماذا لأن الخيانة
هذا هو خلق النبي صلى الله عليه وسلم أدبه ربه عليه فأحسن تأديبه، ثم لم يزل هذا الخلق النبيل خلق الأمانة طبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم يشهده الناس مثلاً في تعامله مع أصحابه وأعدائه .
وهو يسعى صلى الله عليه وسلم ليربي أصحابه على هذا الخلق العظيم، يقرأ عليهم الوحي وفيه (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون)، (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)، و(إن خير من استأجرت القوي الأمين) ثم لم يزل يؤكد على أصحابه أهمية هذه الصفة، محذراً من فقدها يوم ترفع، وأن نزعها إشارة إلى نهايات العالم، وانقضاء الدنيا، ضارباً أمثلة لفقدها
في الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ يعني وسطها - ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ ... إلى قوله .. ويصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ\" .
ثم لا يزال النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد لأصحابه أهمية الأمانة في قصص عن أمم غابرة ليقول لأصحابه الأمين حقه أن يكرم بذكر أدائه للأمانة يقول أبو هريرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ فَقَالَ ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ فَقَالَ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا قَالَ فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ قَالَ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا قَالَ صَدَقْتَ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلَا فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ بِكَ وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِكَ وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ قَالَ هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ ؟
قَالَ أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ .
قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا\" أمانة تامة، ووفاء صادق.
أيها الإخوة الكرام: لا يقوي على الأمانة إلا قوي الديانة، فالذي علم يقينا أن الخيانة ستر رقيق، يستر لحين ثم تنكشف عورة الخائن وتبين سوأته، وتعظم فضيحته، ولا يزال الناس يذكرون خيانته ما جرى له خبر، وربما دعوا عليه بسيئ قدر.
والدعاء على الخائن دعاء فيه رخصة للداعي، لأن الخائن قد ظلم (ولا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم)
وحتى ينتفي الظلم لا بد من وضع الأمور عند أهلها، وتوكل أمور المسلمين إلى المخلصين الناصحين، فالناصح لا يخون، ولذا كان مما يبايع عليه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه هو النصح لكل مسلم.
فاستقامت أحوال الناس لما امتثلوا وأمن الناس على مصالحهم لأنها في أيدي أمينه، فالبائع قد أمن المشتري، والمشتري قد أمن البائع وخذ عجباً من أخبار القوم
فهذا جرير بن عبد الله البجلي صحابي جليل رضي الله عنه باعه رجل فرساً فقال: بكم تبيعني هذا الفرس؟ قال: بثلاثمائة، قال: أتريد فيه أربعمائة ؟
ثم نظر جرير فإذا هو يساوي خمسمائة، ثم نظر مرة بعد مرة حتى أوصل الثمن ثمانمائة، فقال: خذ هذه الثمانمائة، فإني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم، وأنا -والله- لك ناصح.
فأين هذا من حال من يشتري السيارة أو الأرض أو سلعة أخرى ثم يتبين له أنه قد غبن البائع غبناً مثله لا يتسامح به عادة فينقلب إلى أهله مسروراً.
وحمق منه أن يراجع بائعها، وقد سمعت أن جريرا رضي الله عنه عدَّ ذلك نصحاً لأخيك المسلم .
أيها الإخوة: أيها الموظفون: وظائفكم ولاية من الله لكم للنظر في شؤون عباده، ومسؤولية حملكم إياه ولي أمركم، وهي مصدر لرزقكم، فما حض الأمانة في هذه الوظائف؟
فاصدقوا المراجعين، وتعاونوا مع المحتاجين بما يسمح به مركزكم لا تظلمون ولا تظلمون .
قدر كبيرا يأتي إليك، وارحم صغيراً حاجته بين يديك.
استوف ساعات الدوام من غير تثاقل، ولا نقصان يحل لك مرتبك، وتكون ناصحاً لكل مسلم في عملك، حينئذ تحمد سريرتك، وتسلم في عاقبتك، وتكون قدوة لغيرك .
ولا يغب عنك ما روته عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : \" اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به \" . رواه مسلم .
أيها الإخوة : النصح لكل مسلم يكون من العمال في عملهم وأصحاب المقاولات، فالعامل الذي يستغل غفلة المسؤول عن العمل، أو غفلة الكفيل فيبخس العمل، ويأخذ منه أو يدخل فيه ما ليس من حقه لم ينصح لكل مسلم.
وإن فرح أنه خرج منها سالماً لم يدر عنه، ولم يكتشف غشه فالموعد يوم تبلى السرائر فماله من قوة ولا ناصر .
أقول قولي هذا ...
الحمد لله ...
إن أعظم أبواب الأمانة هو ما كان في الأمور العامة التي يتضرر بالإخلال بها خلق كثير .
وذلك حينما يقدم الإنسان مصالحه الخاصة على المصالح العامة .
فينتج ضرر على أحد من عباد الله، وربما كان تضييعه للأمانة سببا في كوارث مهلكة، ومصائب مميتة .
فما أعظم الجرم حينئذ ؟
وأي أرض تسعه أو سماء تظله وهو يري نتيجة خيانته، ويشهد عاقبة ظلمه وتقديمه مصالحه (وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا)
أين يواري وجهه وهو يشهد قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة، قيل: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة\" رواه البخاري .
يرى هذا الحديث قد انطبق عليه تمام الانطباق، وانطبق على من تستر عليه من مدير أو رئيس أو غيرهما .
فما أشد النكبة وأعظم بها من مصيبة !
كشفت الأيام الماضية أوراق خيانات دولية ثارت على إثرها شعوب وماجت، وقلبت أنظمة طالما استبدت!
وكشفت أيضا أوراق خيانات داخلية في أهم مرافق الناس، ومصالح سكنهم، وتصريف سيولهم فأسف الناس لها، وعجبوا من جرأة بعض الناس على ظلم بعض الناس، وهم يشاهدون مناظر المتضررين في بيوتهم وسياراتهم وأسواقهم .
وكيف أفلتت من أيدي المسؤلين الأمناء ؟ .
أمور مقدرة!
ولكن ما قدره الله يدفع بما قدره الله .
ونحن بحمد الله قد أقدرنا الله على شيء كثير، ولكننا ظلمنا أنفسنا وأكل خفيف الأمانة، أو معدمها حق غيره، وملأ بطنه بطعام لا يحل له (أيحسب ألن يقدر عليه أحد يقول أهلكت مالا لبدا أيحسب ألم يره أحد)
(ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين) .
وخطبة الجمعة ليس للتحقيق مع أحد ولكن ما ذكر ليتذكر من يسير على خطى الظالمين مضيعي الأمانة أن يصيبهم مثل ما أصابهم.
ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم .
اللهم إنا نعوذ بك من الخيانة فإنها بئس البطانة
اللهم عليك بالذين يظلمون عبادك، ويتسلطون على أموالهم، ويعطلون مصالحهم الله لا تبق لهم يداً على أمر من أمور المسلمين .
اللهم اكشف زيفهم وبصر ولاة أمرنا بخطرهم .
اللهم وفق ولاة أمورنا للبطانة الناصحة التي تعينهم على ما حملتهم
ربنا لا تجعلنا فتنة للظالمين، ولا مشمتة للحاسدين، وارحمنا برحمة يا أرحم الراحمين .
اللهم اكشف كرب المتضررين في جدة، وارحم من مات منهم واربط على قلوبهم وآمن روعهم .
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان في تونس ومصر واليمن وبلاد أنت أعلم بها منا ...
أيها المعلمون : أيام هذه أيام حصاد لزرع طالما سقيتموه فالأمانة الأمانة في وضع الأسئلة وتصحيحها ورصدها .
فما أغنانا عن نتائج لا تعطي الحقائق، ودرجات تقود الجيل إلى دركات !.
للاستماع للخطبة من هنا