الحمد لله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير إنه على كل شيء قدير
وأشهد ألا إله إلا الله العليم الكبير.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ....
أما بعد:-
فمن الأحداث ما لا يحتاج إلى إطالة حديث، وكفى بشاهد الواقع، وتأمل المتابع كفى بهما عظة وعبرة .
معاشر من يقرأ القرآن: في غير ما آية يأمر الله تعالى بالاعتبار والتفكر، وينعى على الذين يغلقون عقولهم عن النظر والتذكر .
(فاعتبروا يا أولي الأبصار)، (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)
(ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون)
تابع الناس عبر وسائل الإعلام ما جرى ويجري في قطر إسلامي، في تونس الخضراء، بلدٍ إسلامي، الإسلام فيه قديم، فتحه الصحابة، بجيش مسلم، سمي جيشهم بجيش العبادلة، لأنَّ كل قواده أسماؤهم عبد الله، فدخل الناس على إثر هذا الفتح في دين الله أفواجاً، دخلوا مغتبطين بهذا الدين، مقبلين على تعاليمه وعلومه فأعزهم الله بها الدين، وخرجت تلك البقعة علماء عاملين.
مضت على هذه البقعة سنون كثيرة وأطوار متطورة وأخرى متردية، تلفها دورة كونية، وسنن إلهية ربانية شأنها شأن كل خلق الله (وخلق كل شيء فقدره تقديرا)
حتى بلغت مراحلها في عصورنا الحاضرة، وأيامنا الراهنة ففتحت الدنيا عينيها على شعب ثائر، وموج من البشر هاتف سائر، لفظ رئيسه كراهية له، ورفضه حنقاً على حظه منه.
وفي ذلك عبرة للناظر، ودرس للقلب الحاضر...
ولنا وقفات في مجريات ما جرى في الأمور المتفق عليها، دون ما انفردت به بعض الأفهام، وشذت فيه تحاليل ساسة، وسطرته أقلام صحافة .
معاشر الإخوة: عظم الله شأن الظلم وقال الله تعالى (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا) .
سنة الله أنَّ للظلم نهاية، وللظالم أخذة من عزيز مقتدر، عقوبة عاجلة، ونكاية قاضية .
(إنه لا يفلح الظالمون) .
بالعدل قامت السموات والأرض، وبه صلح أمر الدين والدنيا، فإذا اختل هذا الميزان، وركب الإنسان لجة الطغيان، فالله يمهل حيئذ، ولا يهمل .
أمهل الله طاغوتاً قديماً، وأرسل إليه موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام لعله يتذكر أو يخشى، فأبي واستخف قومه فأطاعوه، وقال (ما أريكم إلا ما أرى) ، و(أنا ربكم الأعلى) فأخذه الله نكال الآخرة والأولى.
وجعله عبرة لمن يخشى، (وما أمر فرعون برشيد) .
ولا تزال هذه الجرأة في أحفاده ومن سار على طريقه، تعالياً على الله، واستضعافاً لعباد الله، لا تزال تتغير أساليب القمع والظلم، ويلبس الظالمون لكل زمن لبوسه، ويتلون الداعمون له، الساكتون عنه تصريحاً وتلويحاً، قرباً وبعداً.
والعجيب أن ابن آدم ينسى مُثُلا تشق الجبال، ويغيب عن باله مصارع المهلَكين، وعاقبةَ المنذرين، وكأنه على عهد من رب العالمين أنه لا يصيبه ما أصابهم (قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده، أم تقولون على الله ما لا تعلمون)،
أو أنه يظن نفسه في حرز مكين من أثر ذنبه والله تعالى يقول: ( فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)
ألا إنه لا بقاء للظالم وإن طالت مدته، وتخيل أنه استوى على سوقه، وتكاملت قوته.
فالظلم عدو للبقاء، والظالم إنما ينسج خيوطاً يوشك أن تلتف عليه، ويحفر بئراً ليكون أول ساقط فيه .
يقول شيخ الإسلام (رحمه الله) موضحاً هذه السنة الإلهية
(إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة، وإن كانت مسلمة، ويقال الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: \"ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم\" [1]...
وذلك أن العدل نظام كلِّ شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق\" اهـ
وصدق رحمه الله، لأن الله تعالى يقول: (ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون) .
أيها المبارك: هل يقوى أحد على الظلم بعد بيان الله، وبيان رسوله، ورؤية الآيات والنذر استمع لقوله تعالى (وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون)
(قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون)
أيها المبارك مرة ثانية حتى تكون العظة واعظة، والعبرة واصلة الظلم صفة في النفوس الإنسانية إذا خلت من الإيمان، ولم ترتبط بوحي من الرحمن (وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً).
والظلم ليس من خصائص الأقوياء، وكبار المسؤلين في الدول، بل يظلم من يرى له بعض سلطة من هو أقل منه!
ألم يحدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن امرأة دخلت النار بسبب هرة؟
لماذا؟
ظلمتها! لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.
فأين الذين يظلمون الناس في أعراضهم فيقعون في غيبتهم، ويلصقون بهم التهم، ويرفعون تقارير ظلم ليشوهوا سمعتهم فيمنعوهم حقاً وظيفياً، أو اجتماعياً، أو يؤخرونهم
أين الذين يظلمون الناس في أموالهم فيحتكرون السوق لهم، ليخرجوا صغار المستثمرين، والضعفة من عباد الله المسترزقين ؟.
أين من أخذوا أجورهم كاملة، على أعمال ناقصة، واستحلوا مرتبات، وخارج دوام على أشياء ؟
لو صدقوا الله لعلموا أنهم لا يستحقون عشر ما يأخذون، وأن ما زاد هو سحت يأكلونه في بطونهم، ويؤكلونه أولادهم في بيوتهم !.
أما أنت أيها القائم على ولاية مال أبيك في حياته، أو كنت وصياً عليه بعد وفاته، فإن أخرت حقاً عن صاحبه بلا عذر فأنت ظالم، وإن ماطلت في تقسيم التركة وإعطاء كل ذي حق حقه فأنت ظالم، عاق لوالدك بعد وفاته، فانظر ماذا ترى؟
فإن اقترضت مالا عندك للغير، أو أقرضته بغير إذنه، وقلت في نفسك إن حقهم لن يضيع فأنت ظالم .
فالأمانات تحفظ لأصحابها، ولا يتصرف فيها إلا بإذنهم.
أما الذين يظلمون الناس في أديانهم ويسهلون لهم سبل الفساد، ويجلبون عليهم ما لم يعرفوه من أمور الترف، والغناء والخنا، ويستدرجون شباب المسلمين، وشاباتهم إلى أماكن الاختلاط تحت أي مسمى، فهؤلاء ظلمهم أقبح ظلم، وسيعلمون الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
معاشر الإخوة : ملف الظلمة أسود منتن يطول الكلام لو فتحنا أوراق ظلمة في بيوتهم لأزواجهم وأولادهم، وأوراق آخرين مع مكفوليهم، ومع عمال مع من كفلهم.
ولكن إلى كل ظالم أقول: احذر سلاح المظلوم أن يسلطه عليك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم \"واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب\" متفق عليه .
أقول قولي هذا ....
الحمد لله رب العالمين...
أما بعد:-
فكفى بإدراك عاقبة الظلم درساً لمن عقله، وعرف أن الظلم قد يقع من صغار القوم في أعمالهم وعلاقاتهم كما
أنه يقع من كبار القوم في مسؤلياتهم.
وربما يكون ظلم الأصاغر مجلبة لظلم الأكابر.
(وما ربك بظلام للعبيد)، (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون)
وإذا أراد الله أن يحل نقمته فالله عزيز ذو انتقام، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
فقد يأذن الله بعقوبة ظالم بأسباب يسوقها، ومقادير يمضيها (وكل شيء عنده بمقدار)، وبعض ما يمضيه الله في أمور عباده قد يأذن فيها كوناً وتقديراً لحكم تخفى، وإن كان لم يأذن بها شرعاً وديناً.
والعاقل ينظر للأمور قبل وقوعها بشرع وحكمة، وله نظر آخر بعد وقوعها أيضاً بالشرع والحكمة، ولا مدخل للهوى والعاطفة في الحالين، (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله)، وهو في كل أمره يسأل الله الهداية والسداد.
فالصبر على نكد الدنيا، وجور السلطان، ونشوة الباطل، وتسلط الظالمين واجب أمر الله به (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا)
(وقال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين).
والجزع من صروف الدهر، والهلع والسخط من واقع معين، قد يخرج الإنسان عن طوره هو يأس من روح الله، (ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)
وقتل النفس التي حرَّمها الله من كبار الذنوب، وقتله لنفسه سوء ظن بعلام الغيوب (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنَ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِى يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِى بَطْنِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ شَرِبَ سمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا\"
هذا حكم الله فيه و مع ذلك لا يجوز لعن من قتل نفسه، فضلاً عن تكفيره أو الدعاء عليه.
بل هو على ذنب عظيم، وقد قدم على ربه وهو أعلم به، ونحن نسأل الله له أن يعامله بعفوه.
هذه عقيدة أهل السنة والجماعة لا غلو.
ولا تفريط أيضاً فيجعلَ قاتل نفسه شهيداً، ثم تنزل نصوص الشهداء عليه، ويعطى فضلهم .
أيها الأخوة: ختام العظات وليس لها ختام إلى الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً
إلى الذين يسعون في تغريب الأمة، وحملها على منكر من الحال، وظنوا الارتباط بساسة الغرب أنه عروة وثقى لا انفصام لها، أما إنهم عروة بترى لا اتصال لها.
(إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب)
(إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).
فاللهم هيئ لنا ...
--------------------------------------------------------------------------------
[1] رواه أبو داود وغيره بلفظ مقارب، وصححه الألباني .