الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله على كلَّ شيء قدير ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير ، و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له العليم الخبير . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله السراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين . أما بعد : فاعلموا رحمكم الله أنَّكم منتقلون عن هذه الدنيا، ومرتحلون بأعمالكم، وملاقو ربكم ) يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه ( ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال سمعت رسول الله r يخطب على المنبر يقول (إنكم ملاقو ربكم حفاة عُراةً غرلاً ) يقوم الناس من قبورهم أولهم وآخرهم على هذه الصفة حافية أقدامهم، عارية أجسادهم، غرلا أي: غير مختونين وتدنو الشمس منهم، فتصهرهم فيكونون في العرق كقدر أعمالهم ، منهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه العرق إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً . وتنشر في ذلك اليوم الدَّواوين وهي صحائف الأعمال، فيأخذ المؤمنون كتابهم بأيمانهم مستبشرين، مغتبطين، ويأخذ الكفارُ كتابهم بشمائلهم، أو خلف ظهورهم حزنين خاسرين . أما المحاسبة فهي بالنسبة للمؤمن عرض فقط، ومن نوقش الحساب هلك. وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله r يقول: ( يُدعى المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه ، فيقول : إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى صحيفة حسناته ، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق : هؤلاء الذين كذبوا على الله ) . وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله r (ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة)، وفي رواية (ولو بكلمة طيبة) . ويقيم الله عز وجل على عباده شهداء على أعمالهم من أنفسهم، قال الله تعالى ) اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ( وتنصب الموازين التي توزن بها أعمال العباد ) فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون ( وهي موازين عدل يتبين فيها رجحان الحسنات من السيئات، أو ضده فترجح الموازين بالأعمال الصالحة، وأوَّلُها وأوْلاها شهادة ألا إله إلا الله، فمن أتى بها وحققها، طاعة لله فعلاً لما أمر الله، وتركاً لما نهى الله فحَرِيٌّ أن ينجو بتوحيده، ويخلُصَ بإخلاصه . وحدَّث النبي r أصحابه قصة الرجل الذي يؤتى به على رؤوس الخلائق يوم القيامة، وينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً، كلُّ سجل مدَّ البصر، وهو لا ينكر من هذه السجلات شيئاً، حتى إذا ظنَّ أنَّه هلك تخرج له بطاقة كتب فيها (أشهد ألا إله إلا الله ، وأنَّ محمداً رسول الله) ثمَّ توضع في الميزان فتطيش تلك السجلات، وتثقل البطاقة ([1]) . وقال النبي r ( ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق ) وفي الصحيحين عن النبي r ( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله، وبحمده، سبحان الله العظيم ) )فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ( ويحاسب الله الخلائق في ذلك اليوم فلا تظلم نفس شيئاً . وأول ما يحسب عليه العبد صلاته، فإن كانت صالحة أفلح ونجح، وإن كانت فاسدة خاب وخسر، ويقضى بين الخلائق فتردُّ المظالم إلى أهلها من حسنات الظالم، فإن لم يبق شيءٌ من حسناته أخذ من سيئات المظلوم، فطرحت عليه ثم طرح في النار . ثمَّ هنالك الصراط، وهو الجِسرُ المنصوب على متن جهنم ، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من يخطف خطفاً، ويلقى في جهنم. ودعوى النبي r في ذلك اليوم ( اللهم سلِّم سلِّم ) . وفي عَرَصات يوم القيامة الحوض المورود للنبي r طوله شهر، وعرضه شهر، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، و أحلى من العسل، وريحه أطيب من المسك، آنيته كنجوم السماء في كثرتها، وحسنها، من شرب منه لم يظمأ بعدها أبداً، فيرد عليه المؤمنون من أمته r غراً محجلين من آثار الوضوء، ورسول الله r قائم عليه ينظر من يرد عليه من أمته، فيذاد عنه أناس، فيقول النبي r أمتي ؟ أمتي ؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ؟ ما زالوا يرجعون على أعقابهم ! وفي هذا أبلغ التحذير من التبديل، والرجوع على العقب، واستبدال ما شرع الله بما يهواه الإنسان، أو يجاري فيه الناس . ثم بعد عبور الناس على الصراط، يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتص لبعضهم من بعض، وإذا هذِّبوا، ونقُّوا أذن لهم في دخول الجنة، فلا يدخلونها إلا بعد التهذيب والتنقية كما قال تعالى ) طبتم فادخلوها خالدين ( )ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخواناً على سرر متقابلين ( . قال النبي r ( حتى إذا هُذِّبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنْزله كان له في الدنيا ) رواه البخاري وأوَّل من يستفتح باب الجنة محمد r ، وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته إكراماً له، ولأمته ، فهم الآخرون السابقون يوم القيامة . اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول ([2]) . الثانية : أما بعد:- فمن أعظم أسباب صلاح القلب، وصلاح العمل، واستقامة الأمر، أن يستحضر العبد لقاء ربه، ووقوفه بين يديه . فكيف بك إذا قامت القيامة، وأنت واقف بين الخلائق، ثم ينادى باسمك: أين فلان ابن فلان؟ (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا) فلا تغرنكم الحياة الدنيا، فـإنه (كل من عليها فان) ، كلُّ حيٍ سيفنى، وكلُّ جديدٍ سيبلى. وما هي إلا لحظةٌ واحدة، تخرج فيها الروح إلى بارئها، فإذا العبد في عداد الأموات . والموت ليس نهاية الحياة، بل هو بداية رحلة طويلة إلى الدار الآخرة، ومن مات قامت قيامته، ونزل أولَ منازل الآخرة ، القبر ، روضةٌ من رياض الجنة أو حفرةٌُ من حفر النار، ينزل فيها العبد وحيداً فريداً لا أنيس له ولا رفيق إلا عمله الصالح . ولا تزال الأرض تستودع ما يُدفَن فيها من الأموات، حتى يشاءَ الله أن تقوم الساعة ثم أهل الإيمان والعمل الصالح حين يخرجون من قبورهم وقد ابيضت وجوههم بآثار الحسنات، لا يحزنهم الفزع الأكبر، وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون . وفي ذلك اليوم تسود وجوه (وأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) . فاللهم بيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه .... ثم اشكروا الله عباد الله حينما دعوتم ربكم فاستجاب لكم ونزل عليكم من السماء ليطهركم به، وتسكن به نفوسكم، وتصح به أبدانكم . أنزله الله علينا فضلا منه ورحمة (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة) ولكنه سبحانه يعفو ويحلم ويتفضل على من يشاء من عباده ... فاللهم لك الحمد ... اللهم تابع علينا فضلك ... ومن شكر النعمة أن يثق الناس أن الله هو الذي منزل المطر وتنبؤات أهل الأرصاد هي من تعليم الله لهم فربما وافقت وربما خالفت (وربك يخلق ما يشاء ويختار) أيها الإخوة : أمطرت السماء بأمر الله، جاء غيث بعد طول دعاء وإلحاح بعد أن استسقى الناس مرة بعد مرة . جاء المطر من الله ليعلم الله عباده أن ربهم قريب منهم يسمع دعاءهم ويعلم فقرهم جاء هذا المطر ليقول للناس ثقوا بربكم واحذروا القنوط من رحمته وجددوا التوكل على الله والاعتماد عليه جاء هذا المطر وبعض الناس يظن أن موسم المطر قد انقضى فلا مطر ولكن خالق المطر هو الخالق لوقته ينزله متى شاء ويحجبه إلى أن يشاء ملك تام وحكم نافذ (والله يحكم لا معقب لحكمه) ولذا ربما استغاث النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في اليوم شديد الحر لما احتاجوا إلى المطر فأغاثهم الله . والمطر نافع بإذن صيفا وشتاء تقدم أو تأخر فهو تأنس به الأرض ودعم ورافد للمياه التي تجري في بيوتنا وربما ننسى أنها من مطر السماء أسكنه الله في الأرض . فاشكروا الله على نعمه وقوموا بحقه فالله أكرم من عبده .
([1]) رواه أحمد (2/213) ، الترمذي (5/25) .
([2]) ينظر: الضياء اللامع (1/70) ، شرح العقيدة الواسطية من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية (142 و ما بعدها ) ، ماذا بعد الموت ، للرعوجي . [/size]