الحمد لله رب العالمين أما بعد:- فإن الله تعالى جعل الدنيا دار ابتلاء، يميز الله بها ضعيف الإيمان ويرفع درجات الأتقياء . ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) رجل امتحنه الله في بدنه فقاده قومه ليحرقوه، فأنجاه الله من النار، وامتحنه في زوجه فحفظه الله في عرضه ورد الخائن على عقبه، ثم يمتحن في ولده البلاء العظيم فأسلم منقادا لربه غير متردد في أمره. من هذا ؟ إنه أمة وحده (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفا ولم يكن من المشركين شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم) وليس بعد النجاح في الابتلاء إلا التمكين في الأرض والإمامة في الدنيا (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما ) (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) دعونا أيها الفضلاء في هذه الخطبة نعطر أسماعنا بشيء من أخبار النبلاء، وكيف تكون العاقبة الحميدة لأهل البلاء ؟ فهذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام حاج قومه في أصنام يعبدونها، وتماثيل يعكفون عليها فلم يلق قبولا من قومه، ولا من أخص الناس به والدِه، وقالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين، فاضرموا نارا وقالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم ، قال الله تعالى (قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) فأذن الله بعدها لإبراهيم بالهجرة عن هؤلاء المعاندين، واسمع كلمات الثقة واليقين (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) العلاقة مع الله في أقوى ما تكون حين تشتد بالإنسان الخطوب . فالهداية من الله وحده (ومن يضلل الله فماله من هاد ومن يهد الله فماله من مضل) (أنا عند ظن عبدي بي فليظن عبدي بي ما يشاء) ولا زال طمع العبد الواثق بربه ومن ربه يتجدد (رب هب لي من الصالحين) فالدعاء سلاح المؤمن، وليس عند الله شيء أكرم من الدعاء . فجاءت البشرى من الله فبشرناه بغلام حليم. أكرم به من غلام يشب قويا في بنيته نبات حسن وخلق فاضل . ظهرت فيه صفة الحلم إحدى الصفتين اللتين يحبهما ، والأخرى الأناة . فهذا الغلام إذن صبور على ما يتطلب الصبر عليه، ليس للشيطان حظ منه فيوقعه في سفه أو طيش فألفاظه ليس الذي يقذفها الشيطان على لسانه، ولكنه ينتقي ألفاظه بحلمه، ويرد كيد الشيطان بعلمه. أما أفعال الحليم فهي رجوع إلى الله وإنابه لمولاه، وقد قال الله تعالى في أبيه إبراهيم (إن إبراهيم لحليم أواه منيب) . تعلق إبراهيم بهذا الغلام وهو ذو الحلم، وشب وبلغ السعي مع والده، فصار يرافقه في ذهابه ومجيئه، ويقضي مصالحه . ماذا لو قيل لك: إن هذا الغلام قد مات فجأة فانقطع اتصاله بأبيه. لو قيل ذلك لقيل: ما أعظمها من مصيبة، وما أشدها من بلية على قلب أب في الثمانين، ولكن الكرب أعظم والبلاء أتم . فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ؟ إذن هنا وحي في الرؤيا، ورؤيا الأنبياء حق لا مدخل للشيطان فيه. الله أكبر أب يشاور ولده في ذبحه!! ليس ترددا من الأب ولكنها مشورة إعلام ليكون من الابن نية حسنة وطاعة في قبول الأمر، ويظهر بذلك العبودية من الابن في التسليم كما ظهرت من الأب . قال: يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين، فالله الذي أمر هو القادر على أن يصبرني على لحظات الذبح، ومن يقوى على هذه اللحظات . فجاء قول إسماعيل (إن شاء الله) فهو المعين . فحصل التسليم من الأب وابنه فلما أسلما وشرع في التفيذ وتله للجبين أي : ألقاه على وجهه. قيل : أراد أن يذبحه من قفاه لئلا يشاهده في حال ذبحه، قاله ابن عباس وغيره. لحظات شدة وكرب من يقوى على هذا ؟ وصدق الله العظيم (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)، (َمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا)، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرً). جاء اليسر، وتبدد الكرب (و ناديناه يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) انتهى الأمر وتم الامتحان وحصل المقصود لم يتم الذبح فعلاً، ولكنه تم حكما وافتدى الله إسماعيل بكبش ذبح عظيم، فالعزم على التنفيذ والإصرار على المضي في حكم الله هو فعل وتنفيذ، وقبول شرع الله وأمره عمل صالح . اللهم إنا نسألك العمل الصالح .... الحمد لله ... أما بعد:- فقصة عظيمة وحدث ليس بالهين فيه بيان حقيقة الطاعة التي عجزنا عن معشارها بسبب غفلتنا وانكبابنا على الدنيا، وإطالتنا الأماني، ومد خطوط الأمل الزائف، فغلبتنا نفوسنا، وتسلط علينا المخذلون عن الطاعة من الرفاق والجلساء فصارت أيامنا هدرا، و حياتنا سكراً . من أروع دروسها هذه العلاقة الأبوية الفريدة بين الأب وابنه الرابطة بينهما الطاعة لله تعالى . فحسن ألأدب من الأب إلى ابنه (قال يا بني) ملاطفة في النداء، ستقضى على كل كبر في نفسية الابن، كيف وهو الابن الحليم. ثم المشاورة الإبراهيمية (انظر ماذا ترى) ؟ ولكنها مشاورة إعلام وإلا فإبراهيم لن يتأخر. فكان الجواب المسدد (يا أبت افعل ما تؤمر) تلطف في جواب أبيه، كما تلطف أبوه من قبل (وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان) أساليب تربوية وعلاقات أسرية سطرها إبراهيم عليه السلام قبل أن تسطرها كتب التربية الشرقية و الغربية فهل نعيها ونتأملها ؟ (لقد كان في قصص عبره لأولي الألباب) معاشر الأفاضل: يستقبل الناس عبادة عظيمة لا ينبغي للقادر تركها هي ذبح الأضاحي ، وأما غير القادر فلا يشق على نفسه ، وقد ضحى عنه نبينا محمد r لأنه داخل إن شاء في قوله r لما أراد ذبح أضحيته (اللهم هذا عن محمد وعن أمة محمد ) ولقد أمر الله بالأضحية في قوله تعالى )فصل لربك وانحر( وفي الأضحية إحياء سنة أبينا إبراهيم ونبينا محمد عليهما الصلاة والسلام وما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحبَّ إلى الله من إراقة دمٍ فطيبوا أنفساً بضحاياكم ، فاستسمنوها ، واحتسبوا غلاء أسعارها، واحذروا العيوب التي تمنع من الإجزاء فعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال قام فينا رسول r فقال: أربع لا تجزئ في الضحايا : العوراء البين عورها ، والمريضة البينة مرضها ، والعرجاء البينة عرجها ، والعجفاء التي لا تنقي ) رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن حبان . ومعنى قوله (العجفاء التي لا تنقي) أي: التي ذهب مخ عظمها . فهذه العيوب الأربعة مانعة من الإجزاء فما كان مثلها أو أشد منها فلا يضحي . فلا يضحي بالعمياء ، ولا بمقطوعة إحدى القوائم ، ولا بالمجروحة جرحاً خطيراً وأما ما كان دونها فيجزئ مع الكراهة ، كمقطوعة الأذن ، أو مشقوقتها ، أو مكسورة القرن ، ونحو ذلك ويجزئ أن يضحي بما فيه طوالع وغيرُه أكملُ منه . ولا بدَّ أيضاً من بلوغها السن المعتبر شرعاً، وهو خمس في الإبل ، وسنتان في البقر ، وسنة في المعز ، ونصف سنة في الضأن واحذروا رحمكم الله المراءات والتفاخر في الأضاحي ، فليس من السنة تكثير عددها في البيت الواحد فإن الله تعالى )لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم وقال أنس بن مالك رضي الله عنه كان النبي r يضحي بكبشين أملحين أقرنين ، ويسمي ويكبر ويضع رجله على صفاحهما ) وفي لفظ (ذبحهما بيده ) متفق عليه . فضحوا رحمكم الله عن أنفسكم وعن أهل بيتكم الأحياء والميتين مخلصين لله مظهرين هذه الشعيرة ، وكلوا من ضحاياكم وتصدقوا وأهدوا واسألوا الله القبول في ذلك . وإنَّ من الأعمال التي يُذَكَّر بها المقيم صيامَ يوم عرفة . فلا يفوتنك يا عبد الله صيامُ يوم عرفة محتسباً ما أخبر به النبي r فعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله r سئل عن صوم يوم عرفة فقال (يكفر السنة الماضية والباقية ) رواه مسلم . فصوموا هذا اليوم ، وحثوا أهل بيتكم على صيامه . ومن ذلك صلاة العيد فيخرج المسلمون للصلاة مقتدين بنبيهم محمد r ، وهي من آكد الصلوات حتى ذهب بعض المحققين إلى وجوبها على الأعيان ، والسنة أن يخرج المسلمُ لابساً أحسن ثيابه ، وأن لا يأكل شيئاً حتى يرجع إلى بيته ليأكل من أضحيته . وفقني الله وإياكم لكل خير . اللهم احفظ الحجاج ...