إنَّ الحمد لله نحمده ،
أما بعد :-
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة .
معاشر الإخوة: الناس في رمضان يريدون أن يسمعوا شيئاً عن أحكام صيامهم، ولهم تساؤلات في زكاة أموالهم، وهم بحاجة أن يقال لهم: شهركم يوشك أن ينثلم في ثلثه، والثلث كثير، فماذا قدمنا؟ وعلى أي شيء في الثلثين الباقيين عزمنا؟
وعذراً مع أهمية هذه المواضيع، إليكم خطبة استثنائية، ووقفات ليست استيعابية عن خطاب ذي موضوع عظيم، وأمر ملكي كريم .
أيها الصائمون: رفع الله شأن العلماء (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) .
وجعل شهادة العلماء قرينة شهادته وشهادة ملائكته (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لاإله إلا هو العزيز الحكيم) .
ولم يساو ربنا العالمين بغيرهم (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) .
فتحقيقاً وتأكيد لهذه المعاني جاء الأمر الملكي حماية لحياض العلماء، وحفظاً لهم في أكبر مهماتهم وهي البلاغ عن الله، والفتوى بشرعه (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) .
ومنعاً للدخلاء فيهم، الذين يحسبون العلم كلاماً ينمق، وتفاريع أقوال تشقق .
والعلم هو خشية الله (إنما يخشى الله من عباده العلماء)
الأمر الملكي معلن ومطول بدليله وتعليله، وواضح في دافعه، والغرض منه، ومبسوط في قيله .
فحظنا منه في هذه الخطبة تعليق على بعض عباراته، وتنبيه على شيء مما احتواه في إشاراته .
ووقفاتنا حتى لا نطيل هي ثلاث وقفات، فخذها
الأولى: مع عبارة (حفظاً للدين وهو أعز ما نملك)
ما أجملها من اعتراف بنعمة الله (الدين أعز ما نملك) فكل مملوك لا يساوي أهمية الدين
من كل شيء إذا ضيعته عوض وما من الدين إذا ضيعت من عوض
فما يغني رغد العيش، وبحبوحة الدنيا إذا أسبغت على قوم لا دين لهم (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل)
فليس أعزما نملك رقعتنا الجغرافية، ولا مساحتنا الأرضية.
كيف، وما أكثر البلاد التي هي أوسع منا أرضاً .
وليس أعز ما نملك ثروتنا البترولية، ولا القوة البشرية، ولاالأيدي العاملة، وفي الوجود من هو أكثر منا مالا وأعز نفراً .
ولم يأت عزنا أن جاء بلدنا سائحون ينظرون باباً بالياً، وحجراً نابياً، وجبلاً شامخاً .
كيف، والسياحة أصبحت صناعة تقام في مفاوز الأرض كما تقام في سهولها ؟.
فعزنا في ديننا، وسياحتنا في طاعة ربنا، وخدمة الحرمين، وتطهير البيت للطائفين، والعاكفين والركع السجود.
فإذا علمنا مصدر عزنا كما نص عليه الأمر الملكي فقد قال عمر رضي الله عنه : \" إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله \"
والعزة بالدين تقتضي التمسك منه بالعروة الوثقى في زمن كثر المتنصلون منه، وتساقط المتخاذلون.
فطلبوا العزة في مناهج مشرقة أو مغربية.
فأضاعوا دينهم، ولم يحصلوا مرادهم .
(خسر الدنيا والآخرة) .
الوقفة الثانية: (لا أضر على البلاد والعباد من التجرؤ على الكتاب والسنة)
من يقوى على ذلك ؟
فالجرأة على الشيء دليل خفة ميزانه في النفس، وكسر الحرمة والهيبة تجاه نصوص الوحيين حينها يأتي المتسورون المحراب، الداخلون البيوت من غير الأبواب.
فمجالسهم محاكمة للقرآن والسنة وتعالم فيهما، وربما أحدهم لا يحسن تلاوة لفظها يخطئ قارئاً فضلا عن كونه مفسراً معلماً .
فهم أسوأ حالا ممن قال الله فيهم (لا يعلمون الكتاب إلا أماني) .
وتجد هذه الطائفة في من يرون أنفسهم من ذوي الأقلام، وكتبة الأعمدة الصحفية، وفي مواقع النت من ذلك سيل جارف، وتصدر بعض وسائل الإعلام من صاروا يركبون الموجه، باسم التنور، والتطور والتيسير، فأخذوا من كل رأي أردأه، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:\"حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه\" .
فعادوا ذامين دينهم، ناسبين كل خير إلى غيرهم، وكل شر إليهم .
حتى لو احتاج الأمر أن يصححوا أدياناً باطلة، ومذاهب فاسدة لفعلوا متخطين قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أَبو هُرَيْرَةَ « وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِى أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِىٌّ وَلاَ نَصْرَانِىٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ » رواه مسلم .
الوقفة الثالثة: (ولم تكن ولن تكون الجلبة واللغط والتأثير على الناس بما يشوش أفكارهم، ويحرك سواكنهم ويتعدى على صلاحيات مؤسساتنا الشرعية أداة للاحتساب وحسم الموضوع) فالإصلاح له طرقه، وتتبع أخطاء الغير بحجة الإصلاح، والنقد البناء كل هذه حجج بالية.
ومتى كان إشاعة المنكر، وإعلان الخطأ طريقاً للإصلاح إلا عند أناس في قلوبهم مرض تجاه المؤسسات الشرعية في القضاء، أو الإفتاء، أو هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهؤلاء تطربهم الزلة، وتكبر عندهم الحبة لتصبح قبة حسداً من عند أنفسهم .
وجاء في الأمر الملكي الثناء على من يكتب عرائض الاحتساب للمسؤولين فيما بينه وبينهم قال الأمر الملكي: كما هو أدب الإسلام .
وختام هذا كله (فشأن يتعلق بديننا ووطننا وأمتنا وسمعة علمائنا، ومؤسساتنا الشرعية، التي هي معقد اعتزازنا، واغتباطنا لن نتهاون فيه، أو نتقاعس عنه دينا ندين الله به .... الخ
فنسأل الله أن يقوي ولاة أمورنا بالحق وأن يقوي الحق بهم ... أقول قولي هذا ...
الحمد لله.
فإن هذا الأمر يؤمل أن يكون حاجزاً دون الذين ينظرون في قضايا الأمة الحرجة ويتسترون بأن الأمر وجه نظر، والفتوى تؤخذ من غيرهم .
إذا كانت الفتوى تؤخذ من غيركم فما فائدة مقالكم إلا التشويش وبلبلة الناس حتى إذا جاءت الفتوى تأتي إلى نفوس قد مزقتها كتابات أصحاب الأهواء؟!
إن هذا الأمر يأخذ على يد من فرحوا بفتاوى شاذة وافقت رغباتهم، وسيئة في نفوسهم فقالوا: إن هؤلاء المفتين إنما عبروا عن آرائهم فلا نكير عليهم .
ألا فليعلم أنه لاتعبير بعد اليوم عن آرائهم إلا وفق الشرع وضبط ولي الأمر .
إن هذا القرار يؤمل فيه أن يخرس ألسنا، ويكسر أقلاما طالما لاكت وحاكت فنقبت في بطون الكتب لتجد أقوالا تعذرهم ليصلوا في بيوتهم كما تصلي نساؤهم.
أو أقوالا تحقق شهواتهم ليخرجوا المرأة من بيتها ليزجوا بها في ميادين الرجال على إثر نص مشتبه، أو قول بضوابطه، فأخذوا القول ونسوا ضوابطه .
انتهت بإذن الله سوق هؤلاء ليقال: الأمر ليس إليكم، وقد تبين الرشد من الغي .
إن هذا القرار الكريم يؤمل فيه أن يكون منهياً لقضايا طالما حورب فيها الغيورون على هذا البلد، واستفزوا من خلالها فقيادة المرأة للسيارة قضية شرعية تتعلق بالأعراض وأمن البلد واقتصاده وتمس مشاعر كل أحد، وكتب فيها سماحة الشيخ ابن باز وابن عثيمين وغيرهم بمنع قيادة المرأة للسيارة لمفاسد مسطرة في كتاباتهم ارجع إليها إن شئت .
والآن بمقتضى القرار لا قول لأحد إلا لمن خولهم ولي الأمر، ومن لديه فتوى وإن سماه رأياً، أو توجهاً فكريا، فيقال له عذراً: الأمر إلى غيرك .
هذه من بركات القرار نسأل الله أن يتمها علينا وأن يجعلها محل قبول عنده بصدق مصدرها ونيته الصالحة حفظ الله له ملكه، وحقق له مراده، وأتم نعمته على مملكته .
أما حق سماحة المفتي علينا بعد هذا الحمل الثقيل فنسأل الله أن يوفق سماحته حيث وكل إليه ولي الأمر أن يرفع إليه بمن هم أهل للفتوى نسأل الله أن يلهمه رشده في ذلك وأن يصل إلى آلية ناجعة تضمن الحق لأهله وتذود عنه من ليس من أهله .
فاللهم إنا نسأل أن تصلح للمسلمين أحوالهم ...
للإستماع للخطبة هنا