الحمد لله رفع همم أقوام فعلت مقاديرهم، وخفض آخرين فضل سعيهم في الحياة الدنيا، وساء مصيرهم.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله ...
أما بعد:-
فمن منا يُضيِّف ضيفاً سيأتي في آخر الأسبوع القادم ؟
ولن يطيل المقام عندنا، لأنه مرتبط بدورة لا بد أن يتمها، فهو مغادر حسب سنة كونية، ودورة فلكية.
وهو جاد في مجيئه، كما هو جاد بعد ذلك في مغادرته ورحيله!!
لن يحابي أحداً، ولن ينتظر متأخراً.
أتدري من ضيفنا -وفقك الله- في نهاية الأسبوع القادم؟
إنه ضيف هو المضيف لنا.
يأتي كل عام في مثل هذا الوقت يعرض بضاعة ربانية، ومسابقة إيمانية تزيد بها درجات الجادين، وتسمو فيها نفوس الراغبين، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .
من حقه عليك أيها المسلم ألا تتقدم بين يديه بصيام يوم أو يومين إلا لمن كانت له عادة في شيء فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه ) متفق عليه.
ولا يجوز أن يصام اليوم الذي يشك فيه احتياطا لرمضان وهو يوم الثلاثين إذا كانت ليلة الثلاثين غيم أو قتر قال عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: \"من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم\" [1]
هذا الضيف القادم سوف يسألك عن أيام طويت، وشهور سلفت فاللقاء بهذا الضيف مضى عليه أحد عشر شهراً، فشهر الضيف هو الشهر الثاني عشر .
حول كامل ..
فلله كم من ليلة سلخنا منها نهارا
(وآية لهم الليل نسلخ منه النهار)
فخذها عظة!
أيام تنسلخ من الليالي، وهي منك يا ابن آدم تنسلخ، ومن جدتك ونشاطك تأخذ وتسلخ .
ضيفك القادم سيسألك عن وجوه لم يرها ضمن وجوه المستقبلين، ونفوسٍ لم يعد يسمع نفسها، وكانت ممن استقبلته في العام الماضي وابتهجت بقدومه، أو تذمرت (كل يعمل على شاكلته)
كانت على وجه الأرض معنا تمشي، وفي مجالسنا تحضر وتتكلم وتحدث وتنبي .
فأين هم الآن ؟
فخذها عظة ثانية !!
نعم طويت أعمارهم، ثم طويت صحائفهم إلى يوم يلقون ربهم .
فليس لهم من صيام، ولا قيام إلا ما قدموا.
(ومن مات انقطع عمله) (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)
أيها المبارك: هذه حالنا وحال ضيفنا.
تفرطت منا الأيام حتى حضر المستقبل، وعاينا الغائب فصار شاهدا حاضرا.
يقلب الله الليل والنهار في سرعة لا نشعر بها كما قال عليه الصلاة والسلام (لا تقوم الساعةُ حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليومُ كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السَّعَفَة في النار) حديث صحيح رواه أحمد وغيره .
عباد الله : إنَّ الناس عما قريب يستقبلون شهراً عظيماً، وموسماً رابحاً .
يستقبلون شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، شهراً جعل الله صيام نهاره فريضة، وقيام ليله نافلة .
شهراً تواترت النصوص في بيان فضله، وعظيم أجره، تعددت فيه أسباب المغفرة والرحمة، فمن حرمها فهو المحروم، ومن فرط فيها، أو بعضها فهو الملوم .
إنَّ الناس يستقبلون رمضان على أصناف شتى، فمنهم الغافل لم ترتق به همته لتكون مواسم الخير مواسم زيادة واستكثار نعم دخل شهر الصوم هو يصوم، ولكنه قنع من الصالحات بأقلها، فهو مسلم اكتفائي، والقناعة والاكتفاء في هذه المواضع حرمان وخلل فأين (واستبقوا الخيرات)، (وسارعوا إلى مغفرة من ربك وجنة) .
ولذا هو على جده واجتهاده في دنياه، فهو راج سلامة،
فحاله حال الأعرابي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: \"خمس صلوات في اليوم والليلة، قال : هل علي غيرهن ؟ قال : لا إلا أن تطوع، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : وصيام شهر رمضان قال : هل علي غيره ؟ قال : لا إلا أن تطوع، قال وذكر له رسول الله صلى الله عليه و سلم الزكاة فقال : هل علي غيرها ؟ قال : لا إلا أن تطوع، فأدبر الرجل وهو يقول : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم:
أفلح إن صدق\" متفق عليه
ومن الناس من شهر الصيام هم في قلبه، ودخوله ثقل عليه لا لمشقة الصوم، ولكن الصوم سيقطع عليه لذائذه، فسوف ينقطع عن طيب مطعمه، وطيِّب شرابه، ونكاحه.
فهو صاحب شهوة أكل، وشرب، يربي جسمه، ويبني لحمه.
وآخرون من هؤلاء الذين أهمهم دخول الشهر، وشق عليهم هم أسوأ من سابقيهم لذائذهم فيما حرَّم الله فليس لهم قوة إيمان يغلبون بها شهواتهم، وتوقفهم عن التلذذ فيما حرَّم الله عليهم.
وفي قلوبهم جذوة إيمان ضعيفة، لأجلها يشعرون بضيق الصدر، وتأنيب الضمير وهم يرون المستبشرين بشهر الصوم، ولا يجدون ذلك في نفوسهم .
لم يفقدوا إيمانهم، ومع هذا لا يجدونه، فإيمانهم موجود مفقود.
فهؤلاء مذبذبون يريدون ولا يقوون، ويقوون ولا يريدون.
له رغبة، وليست لهم همة فران على قلوبهم ما كانوا يكسبون .
(أفرأيت من اتخذ إلاهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون).
أيها الإخوة: أعلى القوم، وأفضل الناس من كان شهر الصوم يعني شيئاً في حياتهم، فذكرياتهم في رمضانات سابقة خير ذكريات، فهم الصائمون، القائمون، الباذلون ذو الدعوات الصادقة، والأكف المتضرعة، لهم في رمضانات خلت قراءات وترتيل، ومع كتاب الله حل ورحيل، صدقاتهم في رمضان طهرة لنفوسهم، وزكاتهم تزكو بها أخلاقهم.
في رمضان يصلون ما أمر الله به أن يوصل، ويخشون رهم، ويخافون سوء الحساب، فهم قدروا رمضان حق قدره، فزاد عملهم، وصبروا ابتغاء وجه ربهم.
فصيام رمضان عندهم محطة من محطات التزود بالتقوى (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) .
صيام رمضان يستبشرون فيه أن يكون بوابة خير لما بعده من أيامهم، وكفارة لما زلت بهم أقدامهم من خطيئاتهم (ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) رواه مسلم .
يستبشرون أن الله يرفع برمضان درجاتهم، وتزيد به حسناتهم فهم طمعون فيه، راغبون في ثوابه يرون نعمة الله عليهم في إدراكه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان رجلان أسلما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشهد أحدهما قبل الآخر بسنة .
قال طلحة بن عبيد الله فرأيت الذي تأخرت وفاته في المنام، وأن الله أدخله الجنة قبل الشهيد فتعجبت لذلك فلما أصبحت، ذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أليس قد صام بعده رمضان وصلى كذا وكذا ركعة فريضة ونافلة؟) رواه أحمد بإسناد حسن .
هؤلاء القوم يرون رمضان من مواسم تجديد الإيمان، وتقوية الصلة بالرحيم الرحمن يقول النبي صلى الله عليه وسلم : \" إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله تعالى : أن يجدد الإيمان في قلوبكم\" .
صححه الألباني.
نسأل الله أن يجدد الإيمان في قلوبنا ....
الحمد لله منَّ بمواسم الخيرات ، وأعظم للراغبين الأجور ورفعة الدرجات .
وأشهد ألا إله إلا الله رب البريات
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أحفظ الناس لصومه ، وأخشعهم في الصلاة ،صلى الله عليه
أما بعد
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم : يبشر أصحابه يقول : قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك كتب الله عليكم صيامه فيه تفتح أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل الشياطين فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم \"
قال ابن رجب رحمه الله : قال بعض العلماء هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان .
أيها الإخوة: تنوعت أحوال الناس في الصيام :
فمنهم المسلم البالغ العاقل المقيم السالم من الموانع فهذا يجب عليه الصيام أداء ، طاعة لله وامتثالاً لأمره وشكراً لله على نعمته قال الله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) .
والقسم الثاني ممن يستقبلون رمضان ، وهم عاجزون عن صيامه عجزاً مستمراً لكبر أو مرض فهؤلاء لا صوم عليهم لعجزهم عنه، ويطعمون عن كل يوم مسكيناً فيطعم عن كل يوم بيومه أو يجعلها بعد عدد من الأيام أو يطعم في آخر الشهر عن جميع الشهر يخرجها طعاماً مطبوخاً أو حباً .
ولا يصح أن يخرجها قبل الشهر أو قبل اليوم لأنَّه لم تلزمه
وليعلم هؤلاء العاجزون عن الصيام أنهم شركاء للصوَّام مادامت نيتهم الصوم ولكن حبسهم العذر .
القسم الثالث : من شقَّ عليه الصوم لمرض عارض نزل به، أو ثبت أنَّ الصيام يؤخر برءه، أو يزيد في مرضه فهذا بفطر، والله يحب أن تؤتى رخصه ثم إذا أذن الله بشفائه صام الأيام التي أفطرها لقوله تعالى (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ) .
وإن تضرر بالصيام حرم عليه الصوم لقوله تعالى (ولا تقنلوا أنفسكم) .
القسم الرابع: الرجل الذي سقط تمييزه لكبر أو حادث فصار يهذي ويخرف فهذا لا صيام عليه ولا إطعام لأنه أشبه الصبي غَيْر المميز إذ لا تكليف عليه .
ومثله المغمى عليه فلم يع من الدنيا شيئاً فهذا لا صيام عليه ولا إطعام إلا أن يأذن الله له بالشفاء فعليه القضاء إن استطاع أو الإطعام إن لم يستطع، فاحمدوا الله على تيسيره واشكروه على رخصة
(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسرى ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)
اللهم بلغنا شهر رمضان، احفظ علينا شهرنا، واحفظنا في شهرنا، وارزقنا فيه عملاً صالحاً ترضى به عنا .
اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام .
اللهم ارزقنا تعظيم حرماتك، والقيام بحق هذه الشهر .
اللهم أصلح لنا ديننا
[1] ذكره البخاري تعليقاً، ووصله الخمسة، وصححه ابن خزيمة و ابن حبان .