إن الحمد لله...، أما بعد:-
فإليكم مشهداً من مشاهد العظة والاعتبار، خص به النبي صلى الله عليه وسلم صحابياً قد عزفت نفسه عن الدنيا فهمته في الآخرة، ومراده الدار الباقية .
وكأنك تعايش تلك اللحظة فالنبي صلى الله وسلم قد أردف ذاك الصحابي على حمار فهما في طريقهما في بعض مصالحهما أما وقت هذا المشهد فهو قبيل غروب الشمس ولما تغرب بعد.
فيأتي السؤال من النبي صلى الله عليه وسلم إلى رديفه: يا أباذر هل تدري أين تذهب الشمس ؟
قال: قلت: "الله ورسوله أعلم". قال: "فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويُوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلعُ من مغربها، فذلك قوله تعالى: ﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ ﴾ [يس: 38] متفق عليه .
في هذه القصة لفت نظر أبي ذر إلى التأمل في هذه الأفلاك السيارة، والنجوم السائرة .
وأن ما اعتاده الإنسان وألف مشاهدته لا يعني قلة شأنه، وهوان أمره .
فما أكثر مخلوقات الله التي هي عظيمة عند خالقها، ولكن الناس لم يقدروها حق قدرها .
ولما أخبر عليه الصلاة والسلام أن الشمس تسجد تحت العرش ونحن لا ندرك سجودها، ولم نعرف حقيقة العرش وكيف سجود الشمس منه ؟ أخبر بذلك ليؤسس في النفوس مبدأ الإيمان بالغيب فعلمك يا ابن آدم بل وعقلك لا يتصور كل شيئ بل ولا يستطيع أن يتصور كل شيئ فالضعف ملازم لك يا ابن آدم في قواك وإدراكك
والذي يحاول أن يزن الحديد الثقيل بميزان الذهب القليل فلن يخرج بوزن صحيحاً ، ولن يسلم له ميزانه .
وسجود الشمس الذي دل عليه الحديث قد سجله الله لكثير من مخلوقاته ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ﴾ [الحج: 18]،
آمنا بما أخبر الله به وبما أخبرنا به رسوله صلى الله عليه وسلم .
والإيمان بالغيب جزء من إيمانك بالله، ومن أعظم صفات المتقين (ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) .
حينما تملأ قلبك تعظيماً لله بتعظيم آياته يطمئن قلبك، وترى في كل ما حولك آية تدل على خالقك، ولكن هذا لايكون إلا لمن أراه الله ملكوت السموات والأرض، وشرح صدره بالإيمان ليكون من الموقنين
فطلوع الشمس من مشرقها، وغروبها من مغربها حجة آتاها الله إبراهيم عليه السلام لمن حاجه في ربه وقال إنه يحيي ويميت (قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) فألزمه إبراهيم بما لم يعد جوابه، ولم يخطر على كبريائه فبهت الذي كفر والله لايهدي القوم الظالمين .
فالشمس إذن من دلائل التوحيد، وحركتها شروقاً وغروبا
من آيات عظمة الرب الفعال لما يريد .
(وتلك حجنتا آتيناها إبراهيم على قومه)
معاشر الإخوة الشمس آية من آيات الله خلقها وسخرها واعترف بذلك من جعلوا لله نداً فضلا عمن من وحدوا ربهم، عرفوا خالقهم
﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ﴾ [العنكبوت: 61].
فما أكرمك يا ابن آدم سخر لك الشمس من أعظم مخلوقاته دائبة في مصلحتك، وإصلاح حياتك ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ دَائِبَيْنِ ﴾ [إبراهيم: 33].
فعمرك لا تنضبط أيامه ولياليه إلا بالشمس فنشاطك وقت طلوعها بضيائها تبحث عن معاشك (وجعلنا النهار معاشاً) .
فإذا أنهكك عملك، واستفرغت قوتك، ذهبت عنك، ليغشاك الليل بسباته، وأسلمت النفوس لبارئها (وهو الذي يتوفاكم بالليل)، (وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل الله النهار نشوراً) .
ثم هاهي الشمس تأتي في موعدها مؤذنة بيوم جديد وربنا عز وجل (كل يوم هو في شأن)
فما أجمل اليوم الجديد لمن أبقى الله حياته وأمد في عمره، وهو يستفتح يومه بقوله (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور) .
وكل الناس في هذا اليوم يغدو، (وإن سعيكم لشتى)
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بالبركة في بكورها فهنيئا للنهاريين
هذا نظام الكون وسنة الله فيه فماذا لو اختل حكم الله فيه (ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) استمع
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾[القصص: 72 - 73].
اللهم إنا نسألك رحمتك وأن تجعلنا من الشاكرين
معاشر الإخوة: إن ارتباط المؤمن بالشمس ارتباط ممتد إلى آخر الدنيا فالله تعالى يقول (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لاينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا) وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم مجيء بعض آيات الله في الآية بأنه طلوع الشمس من مغربها
حدثنا أبو هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا رآها الناس آمن من عليها . فذلك حين ( لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل )
قال النبي عليه الصلاة والسلام: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" أخرجه أبو داود
هذه بعض أحوال تلك الآية العظيمة ثم إذا انقضت حكمة الله منها، وأذن الله بانقضاء الدنيا فإن الشمس والقمر يكوران ثم يلقيان في جهنم ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشمس والقمر مُكوَّران يوم القيامة" ليراهما من عبدهما وليعلموا أن عبادتهم باطلة .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالحَقِّ يُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 5]. بارك الله لكم في القرآن العظيم.
الحمد لله : أما بعد:-
فعظموا ما عظمه من آياته، واستدلوا بها على كمال ربوبيته، واستحقاقه للعبادة وحده .
وإن من حكمة الله في تدبير عباده، وعظتهم، أنهم متى غفلوا وضيعوا ما أمرهم به أنه يردهم إليه ويخوفهم بآيات متعددة، ونذر متنوعة (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا)
ومن ذلك ما يحدث للشمس أو للقمر من ذهاب ضوئهما كلياً أو جزئياً فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يخوف بذلك عباده، والمؤمن يدرك أنه لا مانع أن يكون لهذه التغيرات تقادير فلكية ولها أسباب شرعية أيضاً (والشمسَ والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين)
وقد عظم النبي صلى الله عليه وسلم شأن الخسوف وفزع له وصلى تلك الصلاة الغربية ووعظ الناس وقال إذا رأيتموه فافزعوا إلى الصلاة"
قال شيخ الإسلام رحمه الله: والعلم بوقت الكسوف والخسوف ممكن ... ومع هذا فلا يترتب على خبرهم علم شرعي، فإن صلاة الكسوف والخسوف لا تصلى إلا إذا شاهدنا ذلك"
وقال شيخنا ابن عثيمين " إذا قال الفلكيون إنه سيقع كسوف أو خسوف فلا نصلي حتى نراه رؤية عادية"
وقال: وإذا كان جزئيا ولا يرى إلا بالمنظار فإننا لا نصلى لأننا لم نرها كاسفة" .
معاشر الإخوة: نحن أمة متميزة لما ميزنا الله به وفضلنا به على كثير من خلقه، فكم يأسف الإنسان أن كان حظ بعض المسلمين ممن ظهر الكسوف في بلادهم هو نظير حظ الكفار الذين ما قدروا الله حق قدره
فصار حظهم هو التجمهر لرؤية هذا الحدث العظيم بروح مرحة، واستبشارهم بأنها ظاهرة نادرة ثم إمضاء وقت الكسوف بتصويره والتفنن في اللقطات له .
ثم تستحكم الغفلة على قلوبهم في مقابلات إعلامية والتعبير عن سرورهم بهذا الحدث وأن مناسبة فلكية استعدوا لها منذ زمن وتحقق أمنيتهم حيث لم تفتهم .
فأي فرق بين كلام أمثال هؤلاء من أبناء المسلمين، وكلام من لم يؤمن برب العالمين من خواجات النصارى أوغيرهم، نخشى أن نقول: تشابهت قلوبهم .
فالله المستعان، نعوذ بالله من الذلة والتبعية.
ثم التأكيد على اعتزاز المسلم بدينه هذه الأيام لأنها توافق عيدا لمن يقولون: إن المسيح ابن الله المتسمين بالنصارى
فإياك أن تشارك في أعياد من يقولون: إن لله ولداً، أو من يقول: إن الله ثالث ثلاثة .
(وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إدا تكاد السموات يتفطرن من فوقهن ، وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً أن دعوا للرحمن ولدا، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عداً، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا)
فاللهم هيئ للمسلمين من أمرهم رشدا ...