إن الحمد لله ...
أما بعد:-
فقد أثني الله عليها ولا ثناء بعد ثناء الله! .
(ومن أصدق من الله قيلا)
فهل أنت ممن يتصف بها ؟
هل خصك الله بها؟، أو آتاك شيئاً منها ؟
﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 269].
ومن فاتته فقد حرم خيرا كثيرا
إنها الحكمة يا عباد الله .
بعث الله بها رسله، وأقام عليها كونه وشرعه
(وما تشاؤن إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما)
(هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزيكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)
فاعرِفُوا الحكمةَ، واطلبوها يا أولي الألباب، فهي التوفيق للصواب ، حينما يوفق الإنسان فيضع الأمور مواضعها، ويتزل الناس منازلهم، ويعطي كل ذي حق حقه .
والحكمة ضالَّة المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحقُّ بها، فقد يأخذ الحكمة من عالم رباني، أو تاجر في سوقه، أو عامل بين آلاته ومعداته، أو مزارع بين نخله في فلاحته
فما أقرب الحكمة وما أبعدها! إلا أنه مَن يتحرَّ الخيرَ يَلْقَه، ومَن يَتَوقَّ الشرَّ يُوقَه، ومَن صدق مع الله فلن يتركه .
ورأس الحكمة مخافة الله .
ومن خاف الله انتظمت حياته، وصلحت علانيته وسريرته
﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾
وأسعَدُ الناس بالحكمة، وأوفرهم حظاً منها من تأسى بأحكم الحكماء، وتعرف على سير أنبياء الله العظماء
فإبراهيم عليه السلام قال الله عنه (إن إبراهيم كان أمة قانت لله حنيفاً، ولم يك من المشركين)
وقال عن موسى عليه السلام (ولتصنع على عيني)
وقال عن أكملهم محمد صلى الله عليه وسلم (فإنك بأعيننا) ، (وإنك لعلى خلق عظيم)
فمن تأسى بالمصطفين الأخيار نال من توفيق الله لهم، ومن حكمتهم ما يستنير به دربه، وينشرح به صدره (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) .
فالحكمة تدعو صاحبها إلى االنظر فيما بين يديه من فرص الحياة ومغانمها، بين ناظريه قول الله صلى الله عليه وسلم (شبابَك قبل هَرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك).
ثم لما كان النقص طبيعة في الإنسان فالحكمة تقتضي المراجعة وقبول نصح الناصحين فرحم الله امرءأ أهدى إلينا عيونها .
وحق الناصح الشكر والدعاء .
ومن أوضح معالم الحكمة، وبها يتمايز الناس التعامل بين الزوجين ﴿ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾
وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (لا يَفرَك مؤمنٌ مؤمنة؛ إنْ كره منها خلقًا رَضِي منها آخَر - أو قال: غيره) فأين المطالبون بكمال نسائهم، وهم عاجزون عن تكميل أنفسهم كيف تفوتهم الحكمة ؟
أين هم عن مبدأ (عرف بعضه وأعرض عن بعض) ؟
أيها الإخوة: نصف العقل التودد إلى الناس، وعدم استثارة مكامن نفوسهم أُهْدِيَتْ للنبي صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةٌ –
نوع من الثياب - فَقَسَمَهَا في نَاسٍ مِن أَصْحَابِهِ، ولم يكن مخرمة بن نوفل حاضراً وكانَ في خُلُقِهِ شِدَّةٌ. رضي الله عنه فلما جاء أخَذَ قَبَاءً، فَتَلَقَّاهُ به، فَقالَ: يا أَبَا المِسْوَرِ خَبَأْتُ هذا لَكَ، يا أَبَا المِسْوَرِ خَبَأْتُ هذا لَكَ ) رواه البخاري .
إنها حكمة المعاملة، وإغلاق مداخل الظنون، ووساوس الشيطان .
تلك المدارات الشرعية أن تدفع الدنيا لبيقى الدين، وأما دفع الدين لتبقى الدنيا فتلك التجارة الكاسدة والمداهنة الخاسرة (فلاتطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون)
أقول قولي هذا ...
الحمد لله ...
أما بعد :-
أيها الإخوة في ظل هذه المتغيرات، وتسارع الحياة، وتجدد أحوالها ربما غابت عن الأب والزوج والمربي كثير من الحكمة في التعامل مع من تحت يده، فهو مشفق منهم، ومشفق عليهم فلابد من سؤال الله الإعانة والتوفيق .
وكان من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم التي استحرج بها الناس من الظلمات إلى النور هو رد الاعتبار لهم، وحفظ منازلهم مع كفر بعضهم، وصدهم عن سبيل الله
ففي كتب السير ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وكيف تأخر إسلامه -وكان لا يزال على الشرك. وقد سبقه إلى الإسلام أخ له اسمه عمارة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قد كنت أظن أن لخالد عقلا سيأتي به. فيرسل عمارة هذه الكلمة إلى أخيه خالد بن الوليد فوقعت منه موقعاً حسناً ألان الله بها قلبه، وصارت سبباً في إسلامه !
ويطول النقل في أمثال الحكمة النبوية وهو يتمثل توجيه الله تعالى له (ادع إلى سبل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)
أما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن سار على دربه ففي أخبار عبد الله بن مسعود الصحابي الفقيه أنه سمع مغنيا قد أمضى عمره في اللهو، وقصر حياته بالغناء فأي حكمة تساق إلى هذا المغني وأي مفتاح يفتح قلبه
لما سمع عبد الله بن مسعود صوته: قال ما أجمل هذا الصوت لو كان بكتاب الله عز وجل ؟ّ!
فصارت تلك اللحظة بعد هذه الكلمة نقطة تحول إلى مسار جديد ليكون المغني قارئا مترنما في آيات القرآن العظيم . (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا) .
فاللهم إنا نسأل حكمة نزن بها أمورنا وتصلح بها أحوالنا
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شرور أنفسنا ...