الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، خلق الإنسان وهو الرب الكريم ، وأشهد ألا إله إلا الله يعلم ما في السموات والأرض وهو بكل شيء عليم ، وأشهد محمداً عبده ورسوله ذو الخلق العظيم ، والقلب السليم . صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ، وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :-
فاتقوا الله عباد الله : وأصلحوا قلوبكم فصلاحها عنوان سعادتكم في الدنيا ، وسبب نجاتكم في الأخرى .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلاح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد ألا وهي القلب "
إنَّ صلاح القلب أو سلامته كما قال الله تعالى عن إبراهيم الخليل في دعواته التي توجه بها إلى ربه الذي خلقه فهو يهديه والذي هو يطعمه ويسقيه قال " و لا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم " .
علم إبراهيم الخليل أنَّ النجاة عند الله تعالى إنما تكون لصاحب القلب السليم فماذا حصل من إبراهيم اجتهد في إصلاح قلبه والسعي في طهارته وسلامته حتى لقي الله تعالى على هذه الحال الكاملة قال الله تعالى عنه : " وإنَّ من شيعته – أي من أنصار نوح عليه السلام لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم " .
علم فعمل حتى حصل مرتبة النجاة يوم الدين .
أجل عباد الله :
إنَّ النجاة يوم القيامة والسلامة هي لصاحب القلب السليم .
"لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون" سلمت قلوبهم فسلموا في عاقبتهم ونجوا في آخرتهم جزاء وفاقاً .
( والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم )
عباد الله : إنَّ أعظم صفات سليم القلب أن يسلم قلبه من الشرك والشك ومحبة الشر والإصرار على البدعة والذنوب .
فسليم القلب مخلص في عبادته لا يريد من أحد جزاء ولا شكوراً يعلم يقيناً أنَّ الخلق كلهم لن ينفعوه ولن يضروه إلا بشيء كتبه الله عليه .
طهَّر قلبه من الشرك ظاهرِه وخفيه ، فهو على يقين من أمره ، وبينة من ربه ، غير مُصِر على بدعة في دينه ، ولا مقيم على معصية تخل بإيمانه .
هواه وإراداته كلُّها تبعٌ لإرادة الله ومحبة الله .
شعاره السمع والطاعة، ودثاره التقوى والإنابة .
(وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) .
فهذه سلامة القلب في حق ربه، أما سلامة القلب في حقوق عباد الله، فهو الذي يأتي الناس بنظير ما يحبُّ أن يأتوه به فهو يحفظ أعراضهم، لا يتفكه بغيبتهم ، ولا يجرؤ على مسابتهم، ولا يحسدهم لنعمة عندهم .
فهو نعم الصاحب ونعم الجار ، ونعم القريب وصل للناس خيره وانكف عنهم شره فأجمعت القلوب على حبه .
إنَّ سليم القلب طهَّر قلبه من شهوة أمر حرَّمه الله عليه ، وكيف يشتهي أمراً حرَّمه الله ؟ والله لم يحرم عليه إلا ما فيه مضرته !!
ولم ينهه عن شيء إلا في تعاطيه نقصه، بل والله ربما فيه ضياعه وهلاكه !!
صاحب القلب السليم لا يشتهي ما حرَّم الله عليه من النظر إلى ما لا يحلُّ النظر إليه من النساء والمردان ، وإن هجمت على قلبه بعض هذه الشهوات أطفأها بإيقاظ الإيمان في قلبه ، وطردها بخوفه من خالقه، ثم بخوفه من سوء عاقبتها، وسيئ نهايتها .
فالشهوة نار كامنة تؤججها النظرة تلو النظرة، وتسعرها قلة المراقبة ، والاستخفاف باطلاع علام الغيوب .
وصاحب النظرات الآثمة من أبعد الناس عن ذكر الله ، ومن أشدهم تثاقلاً عن الصلاة .
فهذه حاله فما هي حال من هو أشدُّ ضلالاً منه فوقع فيما حرَّم الله عليه؟ فزنا فرجه ، وتلطخ بالقاذورات عرضهّ! .
صاحب القلب السليم لا يشتهي إذهاب عقله بالمسكرات وإن تيسرت له ، وأمن سطوة السلطان ، وظنَّ أنها متنفس له عن كبد الدنيا ، وضيق مسالكها فطلب دواءه بدائه ، وأنسه بمرضه !!
وهو بعيد عن أولاده وزوجه ومن أحسنوا الظن به في سفرة عمل، أو انتداب حقيقي أو مفترى !
وكيف يشتهيها والله تعالى يقول : " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون "
فإن لم تجتنوه فهو الخسارة إذ لبس بعد الفلاح إلا الخسارة خسارة المروءة ، وخسارة السمعة ، وخسارة الأسرة ، وضياع البيت وهروب الزوجة، وتفرق الأولاد فمن الذي سيبقى في بيت أحد أفراده عربيد سكير !! فكيف إذا كان ذلك هو رب الأسرة والقيم على أفراده ؟!
فما أعظم النازلة وما أشد بؤس ذلك البيت إلا أن يربط الله على قلوبهم !!
(إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون)
فهذه بعض خسارة الدنيا – لشارب الخمر - أمَّا خسارة الآخرة فهي الخسارة العظمى (قل إنَّ الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين) .
أقول قولي هذا ...
الحمد لله ...
إنَّ صاحب القلب السليم هو من أشدَّ الناس تحرياً لما يرد على قلبه فهو لا يقبل كل ما يقال، ولا يعتمد كل ما ينقل إليه، ولا يركن لأخبار توارد عليها النقلة ولو كثروا .
فمنهجه التبين (إن جاءكم فاسق ينبأ فتبينوا) يخشى (أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)
ومن جميل ما ينقل في الحيطة للقلب وحفظ القلب مما يرد عليه ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى عن نفسه فقال: وَقد جعلت أورد عَلَيْهِ إيرادا بعد إِيرَاد – يعني يورد على شيخ الإسلام الإيرادات والخواطر ونجو ذلك مما يرد عليه
قال ابن القيم: فقال لي شيخ الإسلام: " لاتجعل قَلْبك للايرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فَلَا ينضح الا بهَا وَلَكِن اجْعَلْهُ كالزجاجة المصمتة تمر الشُّبُهَات بظاهرها وَلَا تَسْتَقِر فِيهَا فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته وَإِلَّا فاذا اشربت قَلْبك كل شُبْهَة تمر عَلَيْهَا صَار مقرا للشبهات ... أَوْ كَمَا قَالَ ..
قال ابن القيم: فَمَا اعْلَم اني انتفعت بِوَصِيَّة فِي دفع الشُّبُهَات كانتفاعي بذلك" مفتاح دار السعادة (1/140).
فما أحوجنا في زمن عج فيه النقل والقول، وكثر فيه الجول والصول فهذه تغريدة وأخرى في مقطع، وثالثة في قناة أو موقع ... والله فوق الجميع رقيب مطلع .
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبَاً سَلِيمَاً، وَلِسَانَاً صَادِقَاً، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ"