إن الحمد لله نحمده .
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله ، وخبر الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، فاتقوا الله – عباد الله – وخذوا بوصية ربكم وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن
فاحذروا عباد الله: أن يكون الواحد سبب أذية لمسلم من حيث يشعر أو لا يشعر، أو أن يسعى في إلصاق تهمة تلازمه وقد لا يلقي لها بالا أول ما يتكلم بها .
كيف يكون منه ذلك ؟
يكون ذلك حينما يعير الإنسان عقله وينسلخ كما يقال -من ضميره، ويضيع تقدير العواقب، ولا يثمن النتائج
يكون ذلك حينما يرضى الإنسان أن يكون بوقا يردد ما يصل إليه، أو يتحول إلى طبل كل يقرع فيه، رضي لنفسه أن يكون مطية لغيره .
أيها الإخوة: الشائعات التي تلوكها الألسن، وتتناقلها المجالس، وتسير بها الركبان مبدؤها كلمة صغيرة، لعل الأمر كذا، ويحتمل أنه حصل كذا، ثم ناقل الخبر الأول يسقط كلمة الاحتمال، وتصير جزماً في المقال، والناقل الثاني مؤكد بتأكيد الأول وزيادة .
ثم تبدأ سلسلة المخبرين، ويتعدد النقلة، وتعددهم لا يزيد الخبر إلا قوة، ثم بين هؤلاء المتطوعين في نشره لن يعدِم المضيفين في تفاصيله وأصله، المتبعين لأحداثه بتعليل، الباحثين لمفرداته عن داعم ودليل.
فالتثبت في الأخبار في سماعها، وتمحيصها، ثم في نقلها وإذاعتها، والبناء عليها من أهم ما يكون في كل زمن . وأشدُّه في هذا الزمن الذي قلَّ فيه الورعُ، وكثر فيه النقل
(يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) .
(ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً)
إنَّ مِن أعظم ما يطالب به ناقل الخبر بيانَ ثقة المصدر، وصحة النقل .
فلا تقف ما لم تعلمه علم اليقين من قول قيل، أو قصة وقعت، أو واقعةٍ تنوقلت أو حكمٍ شرعي لم يثبت صدقه
بعد، ولا نسبته إلى قائله .
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأدَ البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال " متفق عليه .
يتساهل أقوام في نقل أخبار خاصة أو عامة ثم بعد تتبعها يتبين كذبها بل يتضح ألا مرجع لها أصلاً .
إنَّ لهذه الشائعات أسباباً تسهل انتشارها، وتعين على قبولها وتصديقها فمن ذلك :-
فصاحة المتكلم وحسن عرضه، وتنظيره، فهو صاحب العرض الأخَّاذ، والكلام المرتب، وربما تجد في كلامه شاهداً أو مثلاً، أو قصة تدعم قوله، وتبرر توجهه .
وهذه صفة قديمة تجدها في كلام من قال الله عنهم "وإن يقولوا تسمع لقولهم "
فهذه الطائفة طائفة المنافقين، ومن يتشبه بهم، إن قالوا خدعوا، وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم لكمالها وجمالها، وتجميلها، ولكنهم كالخشب المسندة، هم العدو فاحذرهم.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " أخوف ما أخوف على أمتي : كل منافق عليم اللسان " رواه أحمد وصححه الألباني .
وهذا النوع من الناس قد تلتقي معه مباشرة، ويجمعك معه مجلس ما، وقد تستمع إليه عبر مقطع أو إذاعة أو قناة فضائية مشرقة أو مغربة .
ومن أسباب رواج الإشاعات سذاجة الناقل وقلة بصيرته يردد ما يقوله الناس كالإمَّعة الذي لا يدري ما يقول، قال علي – رضي الله عنه : " الناس ثلاثة : فعالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة ، وهمجٌ رِعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كلِّ ريحٍ، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق"
ومن أكبر أسباب انتشار الشائعات الفراغ عند مروجي الشائعات، وزهدهم في أوقاتهم، ولو صرفوها في النافع لكان خيراً لهم .
عباد الله :
إنَّ لهذه الشائعات أضراراً لا يستهان بها ، ومن أضرارها:
تفريق الصف الواحد، وإضعاف الرأي المجتمع، وبلبلة الناس بين مصدق ومكذب، ومتردد متحير فيغدو من أجلها المجتمع فرقاً وأحزاباً، وأعداءً وأحباباً
فربما طلقت زوجة من زوجها، وأوقعت خصومات بين المتصافين من الناس بسبب شائعة لم يتق الله ناقلها .
وربما ردَّت عن خير، وخذَّلت عن معروف، وأوهنت عن طاعة .
ومن أضرارها الوقيعة في أناس وهضم الجهود ورفعُ أقوام لا يستحقون الرفعة، وخفضُ آخرين حقهم الرفعة.
وإنَّ مما هو داخل في الإشاعات التي يحذر من التساهل فيها ما يجري عبر رسائل الجوالات في أخبار سارة، أو محزنة مما لا يكون له أصلٌ في الواقع، ولا رصيد من الحقيقة فأهدر من أجلها أناس أوقاتهم في إرسالها واستقبالها .
وربما لبَّس مرسلو هذه الرسائل على من أرسلوها إليه بحسن نية أو غيرها فحمَّلوه مسؤولية إرسالها إلى غيره، وربما أقسم عليه بعضهم أن يرسلها، أو سأله بالله أن يرسلها إلى كذا من الناس عشرةٍ أو غيرهم، وكلُّ هذا من الجهل ومن تكليف عباد الله ما لم يكلفهم به الله .
فلا تجب إجابة هذا السائل ، ولا إثم على من لم يرسلها، بل إنَّ الإثم أقرب إلى من حمَّل عباد الله مالا يلزمهم .
فاتقوا الله : عباد الله: واعلموا أنَّ للخير أبواباً ، فكم من مريد للخير لم يوفق له، وكم من محسن أساء من حيث أراد الإحسان .
وفقني الله وإياكم لحسن القول والعمل .
أقول قولي هذا …
الحمد لله .... أما بعد:-
فحيث كان الحديث عن الشائعات في الجدتمعات فنعرج على شائعة ضاق لها صدر النبي صلى الله عليه وسلم، وتغيرت لها أجواء المدينة، ووجد المنافقون في صفوف المسلمين بغيتهم، وترط معهم ثلة من المتسرعين، وتمحص أيضاً من خلالها الصادقون .
أشاع المنافقون قضية الإفك ورموا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما هي أبعد الناس عنه، فهي المحصنة الغافلة المؤمنة.
وتأخر الوحي عن رسول الله صلى الله شهراً لم ينزل، فعظم البلاء حتى جاء الفرج من رب الأرض والسماء ممن لا تخفى عليه خافية فنزلت عشر آيات في براءة أمنا عائشة رضي الله عنها، وهي دروس وعظات حتى لا نكون نهباً للأقوال والشائعات .
(إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم)
ثم تمضي الآيات في أول توجيهاتها أن تثبت حسن الظن بالمسلمين فهو أمان من الألسن المتسرعة (لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ)
ولله در أبي أيوب الأنصاري وزوجه!
الناس يخوضون فيما يخوضون فيه، ولكنهم يأبون إلا سلامة الصدر على المؤمنين ويخص منهم ذوو الفضل الغافلون.
يقول أبو أيوب مخاطباً زوجَه: أرأيتِ لو كنتُ مكانَ صفوان بنِ معطّل، أكنتُ فاعلاً؟! أو كنتِ أنتِ مكانَ عائشةَ أكُنتِ فاعلةً من ذلك شيئاً؟! فيجيب كلّ منهما صاحبَه: لا والله، ثمَّ يقول أبو أيّوب: وصفوان خيرٌ منّي، وتقول زوجُه: وعائشة خير منّي .
إنّه إحسانُ الظنّ بالمسلمين، وما لا ترضاه لنفسك لا ترضه لغيرك .
فهي غلطة لا يجوز أن تكرر ثانية (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين) .
وبعد أيها الإخوة: فالإيمان يدعو إلى قول الخير أو الصمت "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيراً أو ليصمُت"
لا سيما في زمن الانفتاح الإعلامي، والتلون السياسي في مواقع الإنترنت وغيرها .
ومتابعو التغريدات يرون العجب من الأقوال يسطرها عبر الحسابات أناس معروفون، أو مجهولون أفسدت أفهاماً، وحيرت عقولا، وشحنت نفوساً و زهدتهم في بلادهم وولاة أمرهم وعلمائهم .
ولمن ابتلى بهذه المتابعات ولم يختر لنفسه سلامة القلب حيث رأى نفسه لا يقدم ولا يؤخر لهؤلاء أقول: لا أقل من أن يتأدب المؤمن بما أدب الله به عباده (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً ) .
فالتثبت أول ما يطالب به هؤلاء و ألا يستعجلوا بإشاعة ما يردهم، بل عليهم أن يردوه إلى أولي الأمر منهم أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة الذين يعرفون المصالح وضدها حتى لا يتأذوا ولا يؤذوا غيرهم .
حفظنا الله من أذية المؤمنين، ووقانا أسباب المجرمين ...