إن الحمد لله ...
أما بعد :-
فكفى بالله شهيداً، وكفى بالله كفيلاً
كلمتان عظيمان يملأ بهما المؤمن قلبه فربه الشهيد المطلع على كل شيء (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين)
(ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه)
وربه الكفيل القائم بأموره فهو الذي خلقه وهو المتكفل برزقه، ومن استكفى بالله كفاه وأعانه وهداه .
أيها الإخوة أذن النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث عن بني إسرائيل وما جرى عليهم مما لا تعلم كذبه .
فتاريخ بني إسرائيل وهم أبناء يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام تاريخهم تاريخ طويل كثرت أنبياؤهم، وتعددت أحوالهم وأنباؤهم .
في مجلس من مجالس النبي صلى الله عليه وسلم يقص عليه الصلاة والسلام قصة على أصحابه عنوانها (من استودع الله شيئاً حفظه الله) .
فعن أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ ذَكَرَ "رَجُلاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، - فهو يريد قرضاً لحاجة له - فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ. فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا.
قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ. – يعني ليكفل حقه فلا يضيع عليه -قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً. قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، - اتفقوا على وقت للسداد – فأخذ الرجل المال وانتفع بها وقَضَى حَاجَتَهُ .
ثُمَّ دارت الأيام وحلَّ الأجل فالْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَى صاحبه ليقضيه الدين فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا .
فاجتهد وكره أن يبقى مال غيره عنده فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِي وسط النقرة َالمال أَلْفَ دِينَارٍ وَ كتب صَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ يبين فيها حقيقة المال وعذره بعدم قدومه، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلاً، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ .
وبلغ من شدة حيطته لصاحبه، وحرصه على براءة ذمته وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِ صاحبه الذي أقرضه
أما صاحب الدين فَكان يخَرَج يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ .
ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ. قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا" رواه البخاري .
وفي رواية " قَدْ أَدَّى اللَّهُ عَنْكَ وَقَدْ بَلَغَنَا الْأَلْفُ فِي التَّابُوتِ فَأَمْسِكْ عَلَيْكَ أَلْفَكَ"
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: "وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكبر مِرَاؤُنَا وَلَغَطُنَا أَيُّهُمَا آمَنُ "
يعني أيهما أشد أمانة من الآخر ؟
أهو الذي حرص على إيصال الدين وإبراء ذمته حتى فعل واجتهد في أمر عجيب حين جعل المال في الخشبة ؟
ومع ذلك لم تطب نفسه فتطلب الوصول لصاحبه حتى وجد مركباً ووصل إليه وأعطاه ألفاً أخرى ولم يبين له ما فعل في الخشبة ليبقى الأمر سراً قي إبراء ذمته بينه وبين ربه ! هل هذا هو الأمين أو صاحب الدين الذي كان بإمكانه أن يأخذ الألف الثانية، وهي غنيمة سيقت إليه، ويسكت عما وجده في الخشبة لا سيما وأن صاحب الشأن لم يفتح معه موضوع الخشبة ولم يسأله عن وصولها إليها؟
هذه الأطماع الخفية ليس له طريق إلى النفوس الأبية، فهو محسن بإقراضه لا يرضى لنفسه أن يكون مسيئاً في إحسانه
(ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)
أقول قولي هذا ...
الحمد لله رب العالمين ... أما بعد:-
فما أجمل الثقة بالله، والقناعة بكفايته وكفالته (وقد جعلتم الله عليكم كفيلا) أي: حافظًا، ضامنًا، رقيبًا؛ لأن الكفيل يراعي حال المكفول في كل ما يحتاج إلى رعاية ومراعاة.
فالثقة بالله والجزم بالخلف منه في كل ذاهبة تجعل الإنسان سمحاً في التعامل مع عباد الله (ورحم الله امرءا سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى سمحاً إذا قضى سمحاً إذا اقتضى)
وإن من ثمار السماحة مع الناس والرفق بمن هم أهل للرفق في التعامل من ثمار ذلك أن الله يحفظ له ماله، ويتكفل بعوضه، ويسوق له الصالحين من عباده .
فهذا الرجل الصادق في مداينته للناس ساق الله له مستدينا صادقاً ينوي أداء ما سوف يقترضه .
والنية أساس في هذا، كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه) ؟ فيؤدي الله عنه بنيته الصادقة بتيسر ما يقضي به دينه، وتسهيل الطريق للوصول إلى صاحب الدين وقد اجتمعا في قصة هذا الرجل من بني إسرائيل .. فما ألطف رب العباد بالعباد!
معاشر من يدينون الناس ويدهم هي العليا بما من الله عليهم من فائض المال عليكم بالرفق بالمحتاجين للإقتراض فبعد تحريكم أن يكون إقراضكم سليما من الموانع الشرعية من الربا وشبهة الربا أو غير ذلك .
عليكم بإنظار المعسر متى تحققتم عدم قدرته امتثالا لقوله تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) .
وإن طلبتم الخيرية وتحصيل أجر الصدقة بالعفو عنه فقد قال تعالى (وأن تصدقوا خير لكم)
وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسراً فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال : قال الله عز وجل نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه "
أما أنتم أيها المقترضون ويامن تحملوا أموالا للناس في ذممهم فقد علمتم أثر النية في تيسير السداد فاحذروا المماطلة مع القدرة لمن يطالبكم بحق له دين أو أجرة أو قيمة مبيع أو غير ذلك .
وإن شق عليك الوفاء في وقته وانغلقت الأبواب فعليك بالصدق مع صاحب الدين ولا ترهق نفسك بتهرب وإغلاق جوال ولعل صدقك يكون عوناً لك على قضاء دينك فالصدق منجاة ومفتاح أبواب السماوات إذا انغلقت أبواب الأرض .
اللهم أغننا بفضلك ...