إن الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله r
أما بعد :-
فعظِّموا رحمكم الله ما عظم الله (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) .
وإنَّكم في أيام هي مِن أفضلِ ، أو هي أفضلُ أيامكم ، قال النبي r (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ، يعني أيام العشر، قالوا : يا رسول الله ، ولا الجهاد في سبيل الله ؟
قال : ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه ، وماله فلم يرجع من ذلك بشيء ) رواه البخاري .
إنها أيام عشر ذي الحجة .
قال ابن القيم – رحمه الله – ( وأيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام عشر رمضان ، وليالي العشر الأخير من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة ([1]) .
وما قاله – رحمه الله – في فضيلة هذه الأيام العشر هو ظاهر كلام النبي r ، وكيف لا تكون كذلك ، وفيها اليوم المشهود عرفة .
وفيها يوم النحر ، وهو خير الأيام عند الله ، وهو يوم الحج الأكبر .
فاعرفوا – رحمكم الله – لمواسم الفضيلة فضلها ، وتزودوا فيها ، واغتنموا عظيم أجرها .
وإنَّ من أعمالكم ما يشرع في كلِّ السنة ، ولكن يتأكد فضله في مواسم الخير والمضاعفة .
فهذه الصَّلوَاتُ الخمسُ جعلَها اللهُ صِلةَ بين العَبْد وربِّه يفضي فيها المخلوقُ إلى خالقِه ، قارئاً لكلامه مسبِّحاً معظماً له يناجي فيها ربَّه يسأله حاجته ، يشكو إليه ضعفه .
فاحرِصوا – رحمكم الله – عليها فهي نجاتكم ، اشهدوها مع جماعة المسلمين ، لا يشغلنكم عنها شغلٌ ، فلا خيرَ في عملٍ منعكم فريضة ربِّكم .
تقَّدموا زمناً إلى الصلاة جمعة وجماعة فلا يزال أحدكم في صلاةٍ ما انتظر الصلاة ، وتقدَّموا مكاناً قال النبي r : لو يعْلمُ الناس ما في النِّداء ، والصفِّ الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ) متفق عليه .
وقصر الليل في صلاة الفجر ، وكلفة الخروج لجماعة المسجد من تمام الابتلاء يتبين فيه قوي الإيمان ممن فيه شبه من المنافقين ، وخور في استقامته على هذا الدين .
ثمَّ اجتهدوا بعد ذلك في تكميلها بالنوافل .
فما من عبدٍ مسلم يصلي لله تعالى كلَّ يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير الفريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنَّة )
وقال النبي r في راتبة الفجر (ركعتا الفجر خير من الدنيا ، وما فيها) رواه مسلم .
ومن الأعمال المتأكدة في هذه العشر الصوم، وهو مما اختصَّه الله لنفسه، فقال تعالى (الصوم لي وأنا أجزي به) .
فاغتنموا هذه الأيام واحتسبوا طولها وشدة حرها بصيام التسع من ذي الحجة ، أو ما تيسر منها، لا سيما يوم عرفة قال النبي r في صيامه (يكفر السنة الماضية والباقية ) رواه مسلم .
فصوموه وحثوا أهل بيتكم على صيامه .
ثم باب الذكر وقراءة القرآن ، وصلة الأرحام ، والصدقات ، وغيرها رياض للعاملين ، وسياحية ربَّانية للراغبين ، والذكر في هذه الأيام له مزيد خاصية ، ومتأكد بأفضلية لقوله تعالى )ويذكروا اسم الله في أيام معلوماتٍ ( قال ابن عباس – رضي الله عنهما – هي عشر ذي الحجة ، فأكثروا من ذكر الله بالتكبير والتحميد والتهليل ، والتكبير آكد الذكر في هذا المقام ، فيكبر الإنسان في بيته ، وسوقه ، ومكتبه ، ومسجده ، وفي دخوله وخروجه ، يرفع الرجل بذلك صوته ، إظهاراً لهذه الشعيرة ، لا حياء ، ولا مراءاتٍ لأحدٍ هكذا هدي السلف من الصحابة ومن بعدهم
فقد كان ابن عمر وأبو هريرة – رضي الله عنهما – يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ، ويكبر الناس بتكبيرهما ([2]) .
وقال مجاهد لرجل يكبر أفلا رفعت صوتك ، فلقد أدركتهم وإن الرجل ليكبروا بالمسجد ، فيرتج بها أهل المسجد ، ثم يخرج الصوت إلى أهل الوادي ، حتى يبلغ الأبطح ، فيرتج بها أهل الأبطح ، فما أجمل هذه الشعيرة ، وما أوقعها على نفس المكبر والسامع ، يتعبد بها الكبير ويسمعها وينشأ عليها الصغير فقولوا في تكبيركم .
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ، الله اكبر الله أكبر ولله الحمد
وإن جعل التكبير ثلاثاً فلا بأس .
ثم أفضل أعمالكم الذي اختصت به هذه الأيام حج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً ، فالحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة ، وقال النبي r (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) متفق عليه .
وعجباً من قوم استطاعوا إلى بيت الله سبيلاً ، ثم لم يحجوا بعدُ تسويفاً وكسلاً فإنه يخشى على هؤلاء من قول النبي r ( لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله ) رواه مسلم .
فبادروا رحمكم الله إلى الحج مستعينين بالله ، محتسبين فراق أوطانكم ، وأهليكم ، وأولادكم راجين من الله خلفاً في نفقاتكم ، موطنين أنفسكم للتعب وجهد يلاقيكم فإن الحج جهاد لا قتال فيه ، وقال النبي r لعائشة (إن أجرك على قدر نصبك ، ونفقتك ) واختاروا لحجكم رفقة تعينكم على أنفسكم فيهم من طلبة العلم، والناصحين ما يكون سبباً في صحة حجكم ، وتكميل نقصكم ، وإجابة لما قد يشكل عليكم ، وتعرفوا على صفة حج النبي r بالقراءة فيها ، والسؤال عنها ، ليكون حجكم على أتم وجه ، وأكمل حالٍ
وفقني الله وإياكم لعمل الصالحات ، وترك المنكرات وأعاننا فيما نستقبل من أيامنا على أنفسنا ، ورزقنا علماً نافعاً ، وعملاً صالحاً
أقول قولي هذا …
الحمد لله أعظم أجور العاملين ، وفتح بابه للراغبين
… عن أم سلمة عن النبي r ( إذا دخلت العشر ، وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمسَّ من شعره وبشره شيئاً )
وفي رواية (ولا يقلمَنَّ ظُفُراً) ([3]) .
فهذا نهي النبي r لمن أراد أن يُضَحّي من رجلٍ أو امرأة من دخول شهر ذي الحجة حتى يضحي
وأمَّا من يُضحَّى عنه لا يمتنع عن شيء من ذلك .
وما يسقط عند غسل الرأس أو تمشيطه فلا يضر .
ولمَّا نهى النبي r عن أخذ شيء من الشعر ، لعلَّ إخواننا الذين اعتادوا حلق لحاهم لعلهم يعيدون النظر في إبقاء لحاهم مَوَفَّرَة امتثالاً لأمر نبيهم r بقوله (" أعفوا اللحى " ، " خالفوا المشركين وفروا اللحى " ، " أوفوا اللحى " ، " أرخوا اللحى " هذه ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بوجوب توفير اللحى ، وتحريم حلقها ، وقصها .
فأين أنتم يا حالقي اللحى عن هذه الأحاديث ؟
ألا فليتق الله أمرؤٌ قدَّم هواه على أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم " فليحذر الذين يخالفوا عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصبيهم عذاب أليم "
استعينوا بالله على تركها تعظيماً لأمر نبيكم ، وتشبهاً بالمرسلين ، وموافقة لعمل المؤمنين .
وإياكم من التأخير ، أو الخجل من الناس ، أو الخوف أن يقالٌ فلانٌ ربى لحيته ، فلئن يقولوا فلانٌ ربى فلانٌ لحيته خيرٌ من أن يقولوا ما زال فلانٌ يحلق لحيته .
وإذا أراد أحدٌ أنْ يُعَرِّف به تجده يقول فلانٌ الحليق ، أو فلانٌ الذي يحلق لحيته ، فما أقبح وصفه ، وما أعظمه من جرم شهد به الناس عليك .
وربما كان فعلك هذا سبباً في تساهل أبنائك وأقرانك ومنهم تحت يدك فحلقوا لحاهم فصرت داعية سوءٍ من حيث لا تشعر .
إن الأيام التي تستقبلونها هي من مواسم الخير ، ومحطات التزود من الصالحات ، يصلح الإنسان بها قلبه ، ويزيل شيئاً من الران الذي قد علق بها فلا تفرطوا فيها ، فإنها من جواهر أعماركم .
واحذروا الدعايات المغررة التي تجعل من مواسم الخير مواسمَ للأشر و البَطَرَ فتعرض تسهيلات لسفرياتٍ هنا أو هناك، أو حضور مهرجانات فتضيَّعُ أوقاتٌ، ويعرَّض الإنسان نفسه وعائلته للفتن بحجة الفرجة، وقضاء الإجازة .
أعاذنا الله جميعاً من الفتن …
([1]) زاد المعاد (1/57)
([2]) البخاري : كتاب العيدين : باب فضل العمل في أيام التشريق (2/457) .
([3]) مسلم مع النووي (13/134) .