إن الحمد لله ... أما بعد :- فإطلالتنا في هذه الجمعة على مجتمع المدينة، طابة مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه . نطل عليها من علُ لننظر تركيبة المجتمع المدني ! وما العظات في ذلك ؟ في أي عهد ؟ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم . إذن نحن متوجهون إلى طيبة الطيبة، في زمن هو خير الأزمنة وأهله هم خير الناس قال النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم (خير الناس قرني) . هذا المجتمع عمدته طائفتان طائفة المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبغون فضلا من الله ورضواناً وطائفة الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ! وماذا أيضاً ؟ هؤلاء الصفوة من المهاجرين والأنصار وبينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تصفُ الأجواء لهم، ولم تسلم المدينة ممن يجوسون خلال الديار يبغونها عوجاً ! كل ذلك زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتلو على أصحابه كتاب الله ويريهم الهدى بعد العمى، فقلوبهم به موقنات أن ما قال واقع ! مع هذا كله بقول الله تعالى (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم) . نعم منافقون ! لعلهم في أطراف الجزيرة بعدين عن دار النبوة ! ليس كذلك ! (وممن حولكم من الأعراب منافقون) إذن هم حولنا ليسوا بعدين منا ! بل(ومن أهل المدينة مردوا على النفاق – منافقون بامتياز- خفي أمرهم على النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى (لا تعلمهم نحن نعلمهم) إذن بذرة النفاق والمنافقون في أرض المدينة حول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ! لم يعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظهر دخانهم، وبدا شيئ مما تخفي صدورهم فلا بد من البصيرة في أمرهم (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين) فإذا استبانت سبيل المجرمين عرفها الناس، واحتاطوا لدينهم، ةأدركوا مداخل عدوهم، ومزالقه التي تحيط بهم! ثم بعد ذلك (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي بينة) إذن لا ننشغل بتبرئة الناس، وتزكية المجتمعات كما لا ننشغل بسوء الظن، والعيش داخل أنفاق الأوهام والتخوفات . ولكن كما قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم) فالمؤمن مأمور بأخذ الحذر لدينه، وإسلام وجهته لربه (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استميك بالعروة الوثقى وإلى عاقبة الأمور) . ثم نجد في كتاب ربنا أن الله تعالى صف إلى طائفة المنافقين جنباً إلى جنب طائفة الذين في قلوبهم مرض والمرجفين . (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) هذه تركيبة أخرى في المجتمع المدني مرضى القلوب والمرجفون ! فمرضى القلوب أناس صحت أجسادهم واكتملت بنيتهم ولكن فسد منهم أعظم عضو فيهم (وإذا فسد فسد الجسد كله ألا وهو القلب) . كيف تمرض قلوبهم والقرآن يتلى عليهم والله يقول عنه (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور) ولكن لا حيلة في هؤلاء (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد) (ولا يزيد الظالمين إلا خساراً) فحظهم من القرآن كما قال الله تعالى (وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) فمريض القلب عنده شكوك في رب العالمين، غير واثق بنصره لعباده المؤمنين . يبيع دينه لأدنى مشتر بعرض من الدنيا، يركب موجة الزمن الذي هو فيه فإن لزم الأمر فإنه يردد مقالات المنافقين، ولا مانع عنده أن يكون مطية لمن يسب الدين، أو يهزأ بالعلماء والصالحين، ثوبه واسع يلف به من يتسمى بالعلماني أو اللبرالي أو غيرهم . والمخالفون له أوصافهم جاهزة فهم حزبيون منغلقون متشددون . وجزء من مرض قلبه في الشهوة (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض) نسأل الله العافية والسلامة ! أما المرجفون فهم المخيفون لأمتهم، الباذلون للرعب في شعوبهم، يقدمون أعظم خدمة لأعدائهم حينما يوهنون عزائم أمتهم، ويقتلون نفسيات أقوامهم . ينشطون في وقت الأزمات حتى يقول قائلهم (ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) (هنالك أبتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا) فأين المغردون ومن يعيد تغريدات المغرضين، وأين مسوقو مقاطع الخذلان، ولقطات الذعر من حيث يشعرون أولا يشعرون! اللهم إنا نعوذ بك أن نقترف سوءاً أو نجره إلى مسلم ! أين هم من الذين قال الله عنه (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً) معاشر الإخوة: ومن الإرجاف تصنيف الناس وملاحقتهم بأوصاف هم أبعد الناس عنها وشق وحدة المجتمع، ولحمة الوطن، ثم ينقلب ذلك تشكيكاً في نياتهم واتهاما لعطاءاتهم ووضع دوائر حمراء على أسمائهم . وشر البلية ما يضحك قوم ركبوا موجة التصنيف وطالت جرأتهم بل – والله قل أدبهم فهم يصنفون علماء البلد وأمراءه وقوما شابت لحاهم في نصح الخلق، ومراقبة الخالق وبعض هؤلاء المصنفين هم في الدار الآخرة وقدموا على ربهم ! بأي إذن من الشرع، أو تخويل من ولي أمر ليجعل نفسه حاكما مقوماً ويجعل الناس أصنافاً وألواناً ليقول هؤلاء في الجنة وهؤلاء في السعير . أما كان في تصنيفهم لأنفسهم ومعرفتهم لتقصيرهم غنية وشغل شاغل لهم، ومن ترك ما يعنيه ابتلي فاشتغل بما لا يعنيه وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) أين هم من قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم" ؟ أهم أشد غيرة لله ودينه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ خابوا وخسروا إن زعموا ذلك ! وهل يكب الناس على وجوهم إلا حصائد ألسنتهم؟ إذن فليسعك بيتك، وابك على خطيئتك ! الحمد لله رب العالمين ... أما بعد:- فإذا عرفت أن أعظم مجتمع في الوجود هو مجتمع الصحابة مع نبيهم صلى الله عليه وسلم اكتنفته هؤلاء الطوائف الثلاث المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون مع ما لليهود من أسوأ دور! ومع ذلك خرج من بين هؤلاء أعظم جيل عرفته البشرية فيهم الصديقون والصالحون ومن لو أقسم على الله لأبره، وفيهم من بلغ به الوقار والحياء من استحت منه الملائكة فضلا عن العاملين لتبليغ هذا الدين البالغين مشارق الأرض ومغاربها ومن قدموا أرواحهم شهداء عند ربهم يرزقون . فلا عذر للمحبطين الذي هزمتهم أنفسهم فهم في أماكنهم يترددون !. ألا إن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء . وللعامل في زمن قلة المعين، وكثرة المثبطين أجر خمسين . حينها تعظم المسؤلية، ويزداد الحمل على الأولياء من الآباء والمربين، والحمل في أشده على ذوي الرأي والقرار من الأمراء والعلماء (وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) كيف وقد توعد الله المفسدين من الطوائف الثلاث المنافقين والذين في قلوبهم والمرجفين أنهم إن لم ينتهوا ولم يذكر عن ما ينتهون ليعم كل سوء يتوقع منهم، وكل مكروه يجرون إليه مجتمعاتهم أنه سوف يغري بهم (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) أي: يسلط عليهم رسوله ومن سار على نهجه معه ومن بعده من عباده الصادقين (ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا) أي: لا يجاورونك في المدينة إلا قليلا فهم شجرة خبيثة أجثتث من فوق الأرض ما لها من قرار (ملْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا) (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) فالمتمادي له أمد، وللأمد انقضاء (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) فاثبتوا عباد الله، وضعوا أيديكم بأيدي ولاة أمركم بالسمع والطاعة بالمعروف، واحفظوا مواقعكم كل بحسبه وانظروا فيمن هو تحت أيديكم وأدوا واجب الرعاية وأمانة التوجيه، والله المستعان على ذلك كله . بقي أن تعرف في إشارة أرجو أن تغني عن طويل العبارة. بقي أن تعرف هذه الآية التي توعد الله فيها المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين جاءت بعد أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام لأزواجه وبناته ونساء المؤمنين بالحجاب الذي هو صيانة لهن (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) فهل يعني هذا أن من أعظم مداخل هؤلاء المفسدين هو اقتحام البيت المسلم والوصول إلى المرأة ومحاولة نزع حجابها ! لا أظن هذا يحتاج إلى كثير تأمل ! والواقع يشهد له في القديم والحديث فسبحان الذي أنزل كتاباً أحكمت آياته، (وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) فالله احفظ مجتمعاتنا ...