• ×

د.عبدالرحمن الدهش

مَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلّه

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  818
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

الحمد لله ...

أما بعد :-

فالصادق مع الله ربما تكشفت له ما قد تخفى على غيره، وقد تسمو به أحاسيسه حتى يقع في قلبه أنه عما قريب ملاق ربه، فصدقه مع الله أكسبه صدق الله معه فهو على نور من ربه .

وإني لأرجو الله حتى كأنني *** أرى بجميل الظن ما الله فاعلُهْ

دعونا في كلمات مختصرات نرى سيرة صحابي في أيامه الأخيرة حيث تراءى له مصرعه، وأدرك بيقينه أنه لن يعود إلى أهله ولن يلتقي بعدُ ببنياته .

نعم تسع بنيات فقدن أمهن وهاهن سوف يفقدن أباهن فمن لهن بعد الله ؟.

لم ينشغل ذلك الأب الواثق بجزع على موته، ولا أسف على حالِ من بعده لأنَّ الداعي له الله ، والحافظ هو الله ، ومع هذا لا مانع من أخذ الأسباب وهي جزء من التوكل على رب الأرباب، فالتوكل إذن الاعتماد على الله مع بذل ما يستطيعه العبد من الأسباب الصحيحة .

فما أسبابه التي يقدمها، وقلبه يكاد يطير من الفرح شوقاً إلى لقاء ربه!!

دعا ابنه جابر بن عبد الله الصحابي الجليل، إذن حديثنا عن والد جابر – عبد الله بن عمرو بن حرام – دعا ابنه جابرا ، وقال له : يا بني ، " إني لا أراني إلا مقتولا في هذه الغزوة - يعني غزوة أحد ، بل لعلي سأكون أول شهدائها من المسلمين..

وإني والله، لا أدع أحدا بعدي أحبّ إليّ منك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم..

وإن عليّ دبنا، فاقض عني ديني،واستوص بأخواتك خيرا "

وصية مختصرة وهي غاية وسيلته ومنتهي أسبابه .

إذن لن يحضر جابر الغزوة لأنه مشغول بتكليف أبيه، وتنفيذ وصيته!

بل إنه رضي الله عنه لم يحضر الغزاة التي قبلها وهي أفضل منها!

قال جابر لم أشهد بدرا ولا أحدا منعني أبي!

فلما قتل لم أتخلف فغزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة .

بدأت معركة أحد ودارت لحظاتها سريعة رهيبة، أدرك المسلمون في بدايتها نصراً قريباً ، كان يمكن أن يكون نصرا حاسما، لولا أن الرماة الذين أمرهم الرسول عليه السلام بالبقاء في مواقعهم وعدم مغادرتها أبدا أغراهم هذا النصر الخاطف، فتركوا مواقعهم فوق الجبل، وشغلوا بجمع غنائم الجيش المنهزم ..

هذا الجيش الذي جمع فلوله سريعا حين رأى ظهر المسلمين قد انكشف تماما، ثم فاجأهم بهجوم خاطف من ورائهم، فتحوّل نصر المسلمين إلى هزيمة..

في هذا القتال المرير، قاتل عبد الله بن عمرو قتال مودّع يرجو الشهادة، ولم يزل في القتال حتى تمَّ الأجل وانقضت ساعات الحياة فهاهو يقع صريعاً بسيوف الأعداء . 

ولما ذهب المسلمون بعد نهاية القتال ينظرون شهدائهم..

وعندما كان المسلمون يتعرفون على شهدائهم الأبرار، بعد فراغ القتال في أحد ..

ذهب جابر بن عبد الله يبحث عن أبيه، حتى ألفاه بين الشهداء، وقد مثّل به المشركون، كما مثلوا بغيره من الأبطال .

ووقف جابر وبعض أهله يبكون شهيد الإسلام عبد الله بن عمرو بن جرام، ومرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكونه، فقال : " ابكوه.. أو لا تبكوه..

فإن الملائكة لتظلله بأجنحتها" !!

وفي صحيح مسلم يقول جابر بن عبد الله : أصيب أبي يوم أحد فجعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي وجعلوا ينهونني ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني قال وجعلت فاطمة بنت عمرو تبكيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تبكينه أو لا تبكينه ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه .

ومعنى الحديث (ما زالت الملائكة تظله أي: كرامة له واختفاء بمنزلته فلا ينبغي البكاء على مثل هذا) .

ثم حملته زوجته على ناقتها وحملت معه أخاها الذي استشهد أيضا، وهمّت بهما راجعة إلى المدينة لتدفنهما هناك، وكذلك فعل بعض المسلمين بشهدائهم..

بيد أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم لحق بهم وناداهم بأمر رسول الله: أن ادفنوا القتلى في مصارعهم"..

فعاد كل منهم بشهيده إلى مكانه ..

ووقف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يشرف على دفن أصحابه الشهداء ، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وبذلوا أرواحهم الغالية قربانا متواضعا لله ولرسوله.

ولما جاء دور عبد الله بن حرام ليدفن، نادى رسول الله صلى اله عليه وسلم: " ادفنوا عبد الله بن عمرو، وعمرو بن الجموح في قبر واحد، فإنهما كانا في الدنيا متحابين، متصافيين"..

كان إيمان أبي جابر بالله قوياً، وكان حبّه للموت في سبيل الله منتهى أطماعه وأمانيه..

ولقد أنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فيما بعد نبأ عظيما، يصوّر شغفه بالشهادة..

قال عليه السلام لولده جابر يوما:

" يا جابر.. ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب ..

ولقد كلّم الله أباك كفاحا _أي مواجهة_

فقال له: يا عبدي، سلني أعطك..

فقال: يا رب، أسألك أن تردّني إلى الدنيا، لأقتل في سبيلك ثانية .

قال الله له:إنه قد سبق القول مني: أنهم إليها لا يرجعون

قال: يا رب فأبلغ من ورائي بما أعطيتنا من نعمة ..

فأنزل الله تعالى  (ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما أتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ".

الحمد لله ...

أما بعد :-

فأخبار جابر بن عبد الله هي مثال للصداقة بين الأب وابنه، نعم ابن صديق لأبيه !!

فالابن حصَّل ثقة كبيرة من أبيه، وثقة الأب بابنه لا تأتي عرضاً دون مقدمات – وتنبه أيها الابن المبارك إن أردت صداقة أبيك وثقته فعليك بحسن معاملته واللطف في محادثته والمكاشفة له في دقيق أمرك وجليله فحينئذ تسمو العلاقة، وتصفو المودة وتصدق اللهجة .

فأول ما نقف عليه من صداقة الوالد لابنه حينما يخبر الوالد ولده أنه أول مقتول في الغزوة فيوصيه بالإحسان بأخواته وقضاء دينه .

فكيف نفذ الوصية ؟

أما وصيته بأخواته فقد تزوج امرأة ثيباً وهو الشاب المرغوب فيه ! ولم ؟

يقول جابر قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا جابر تزوجت ؟ قال قلت: نعم قال فبكراً أم ثيباً ؟ قال قلت بل ثيباً يا رسول الله ، قال فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك ( أو قال: تضاحكها وتضاحكك ) قال قلت له: إن أبي عبد الله هلك وترك تسع بنات، وإني كرهت أن آتيهن أو أجيئهن بمثلهن فأحببت أن أجيء بامرأة تقوم عليهن وتمشطهن وتصلحهن قال: أصبت، بارك الله لك

فهذا حرصه على رعاية أخواته تنفيذا لوصية أبيه .

وأما دين أبيه فهو دين كثير، ولكن الله يعين، ومن أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه .

يقول جابر: توفي أبي وعليه دين فعرضت على غرمائه أن يأخذوا ثمرة البستان بما عليه فأبوا ولم يروا فيه وفاء لقلة الثمرة وكثرة الدين ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له قال: إذا جددته فوضعته في المربد – وهو مكان جمع التمر- فآذني فلما جددته ووضعته في المربد أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء ومعه أبو بكر وعمر فجلس عليه، ودعا بالبركة ثم قال: ادع غرماءك فأوفهم قال فما تركت أحدا له على أبي دين إلا قضيته وفضل لي ولأخواتي ثلاثة عشر وسقا أي : ما يزيد على سبعمائة صاع ، بركة من الله أجراها على يدي رسوله صلى الله عليه وسلم بسبب صدق الأب المدين وبر الولد الحريص على ذمة أبيه .

قال جابر: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم  فضحك " رواه النسائي وغيره وصححه الألباني .

ثم لم يزل جابر محل حظوة عند النبي صلى الله عليه وسلم فهو المقرب منه المتعلم من هديه.

لم يزل مواظباً على مجالسته حتى توفي صلى الله عليه وسلم ثم هاهو أحد المكثرين عن النبي صلى الله عليه وسلم رواية للحديث، وروى عنه جماعة من الصحابة، ويوصف بأنه فقيه المدينة في زمنه ، وله حلقة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقد مدَّ الله في عمره حيث عاش أربعا وتسعين سنة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "من أحب أن ينسأ له في أثره ويبسط له في رزقه فليصل رحمه" فلعل بره بأبيه وقيامه بشأن أخواته من هذا ، والله أعلم .

أيها الآباء بمثل هذه العلاقة الأبوية يكون الأبناء زينة الحياة الدنيا فلا تطل اللوم على تغير الزمن ولا الندب على فساد الجيل فالله هو الزارع ولكن أطب الحرث وأدم النصح وواصل الإرشاد تلين مرة وفي أخرى تلان، تقرب إلى قلوب أبنائك وبناتك قبل أن تتقرب من أبدانهم بطعام وكسوة وإذا علم الله صدق النية سهَّل العمل مر أبناءك بالصلاة ولا تتنازل عن ذلك فإذا أصلحوها يصلح كل شيء بإذن الله .

حدثهم عن الثبات على الدين والاستقامة وألا يركبوا موجة التغريب التي ركبها كثير من أبناء المسلمين في كل مكان منذ عقود، ولم تسلم منه بلاد التوحيد ومهبط الوحي، وبلاد الحرمين وهي على أشدها في هذه الأزمنة، و قل لهم: لن يحفظ التاريخ إلا أسماء الثابتين، ولن يسجل في صحائف الأعمال إلا صبر الصابرين، وثبات العارفين، والله لا يصلح عمل المفسدين، وإنما هي سنن إلالهية (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطبيث، وما كان الله ليطلعكم على الغيب)

إذن هناك خبيث من الأعمال والأفكار والتوجهات لا بد أن يميزها الله ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإلى الله لسميغ غليم .

فاللهم أصلح شباب المسلمين ...      



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 09:43 مساءً الثلاثاء 1 يونيو 1446.