الحمد لله أثنى على الخاشعين, وجعل الخشوع مـن أسـباب فـلاح المؤمنيـن.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أكمل لعباده الدين .
وأشهد أن محمد عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين, صلى الله عليه وعلى آلـــه وأصحابه والتابعين .
أما بعد :-
فهل ذقت أيها الموفق طعم الصلاة ؟
هل تذكر تلك السكينة التي عشت لحظاتها وأنت قائم بين يدي الله في تلك الصلاة التي مضت بل ربما بعدت أيامها ؟
ولا أظنك إلا تستشعر روحانية ذلك السجود، وكيف لذته التي ما بقي عضو من جسمك إلا ومسه شيء من دفئه، و غشيته أمنة دعائه، وتضرعه!
ألا ما أجمل تلك اللحظات ! فأين هي ؟
لا تعدلها الدنيا بأسرها، ولا تعوضها أسعد الأوقات التي قضيتها مع أصحابك ورفاقك في جلسة سمر أو رحلة هنا أو هناك .
عاتب الله صحابة نبيه إذ ركنوا إلى شيء من الدنيا ولحقهم من تغير قلوبهم ما فاتهم به خشوعهم فقال تعالى ( ألم يأن للذين آمنـــــوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق)
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين!
فما أشد حاجتنا أن نعاتب أنفسنا بما عاتب الله به صفوة خلقه ورفاق نبيه وهم من هم في الإيمان والفضل والإحسان !
فليس بعد فقــــد الخشوع إلا قسوة القلب, وليس بعد قسوة القلب إلا الفسق عن أمر الله والخروج عن طاعته.
وهي الحال التي وصل إليها أهل الكتاب من اليهود والنصارى فحذرنا الله طريقهم فقال تعالــــى (ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهـم فاسقون)
(طال عليهم الأمد) فاستكثروا الالتزام واستطالوا طريق الاستقامة فلم يثبتـوا، ولــــم يداوموا على ما هم عليه من الخير والطاعة .
بل دبت إليهــم الغفلة فنقص إيمانهم وقل يقينهم فارتكبوا ما حرم الله عليهم, وهكذا النفوس يا عباد الله تحتاج في كل وقت إلى أن تذكر بما أنزل الله، وأن تليــــن بتلاوة كلامه فإن الغفلة سبب لقسوة القلب وجمود العين .
ولقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتخول أصحابــه بالموعظــة مخافــــة السآمة .
وعظهم مرة موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون, كل هذا مـــع أن الصحابة يعاينون التنزيل ويرون من آيات الله التي يجريها على يدي رسوله صلـــــى الله عليه وسلم ما توجب ثباتهم وزيادة إيمانهم ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهـــم مع نبيهم أكمل الناس إيمانا وأخشعهم قلوبا.
فالخشوع يا عباد الله خضوع في القلب واستكانة في النفس يبقى صاحبــــه مرتبطا بالله فإذا ذكر الله ذكره بقلب خاشع وإن صلى صلى بقلب خاشع وان تصدق أو صـــام أو حج أو اعتمر أدى ذلك كله بقلب خاشع وهكذا في جميع أعماله .
ثم بخشوع القلب يحصل خشوع الجوارح فلا يسمع إلا ما يرضي الله ولا يبصر ما يغضب الله , ولذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم (خشــع لك سمعــي وبصــــــــري ومخـــي وعظمي وعصبي )
وإن أظهر ما يكون الخشوع فيه في عبادة المرء في صلاته .
هذه العبادة العظيمة التي حرص الشيطان فيها على إذهاب خشوع المصلي منهـــا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضـراط حتـــى لا يسمع التأذين , فإذا قضي التأذين أقبل فإذا ثوب بالصلاة أدبر , فإذا قضي التثويب أقبــل حتى يخطر بين المرء وبين نفسه فيذكره مالم يكن يذكر , ويقول اذكر كـــــذا اذكــر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لايدري كم صلى " .
كل هذا يا عباد الله حتى لا تعطي الصلاة ثمرتها للعبد ولا تكون ناهية له عـن الفحشاء والمنكر فيخرج المصلي من صلاته بالحال التي دخل فيها.
فلم تزده صلاته من الله قربا, ولا من المعاصي بعدا , ولقــد بلــغ الشيطان مبلغـــــا عظيما فتلاعب ببعض المصلين حتى لا يكاد يعقل من صلاته لا قولا ولا فعلا.
وربما سها المصلي في صلاته، ثم سها السهو الثاني وربما الثالث فـــي صــــلاة واحدة , ثم لا يزال الشيطان موسوسا له حتى ينسيه أن يسجد للسهو.
فأيّ صلاة هذه؟ , وأي مسكين هذا المصلي وقد أخبر النبي صلى الله عليـــه وسلم (أن العبد ليصلي الصلاة وينصرف منها وما كتب له إلا عشر صلاته تسعهـــا ثمنهـــــــا سبعها حتى قال نصفها ) أحمد(4/321) وحسنه في صحيح الجامع1622.
فليــس لك يا عبد الله من صلاتك إلا ما عقلت منها .
عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أول ما يرفـــع مـــن الناس الخشوع ) صحيح رواه الطبراني .
وان حال كثير من الناس اليوم هو ما حدث به عمر رضي الله عنه يوما على المنبـــــر فقال (إن الرجل يشيب عارضاه في الإسلام وما أكمل لله تعالى صلاة) .
قيل: وكيـف ذلك ؟ قال : لايتم خشوعها وتواضعها و إقباله على الله عز وجل) .
وقال : عبادة بن الصامت رضي الله عنه (يوشك أن تدخل مسجد جماعــــة فلا تــرى رجلا خاشعا) .
وهذه يا عباد الله – حالنا يشيــــــب عارضــا الرجــل وما أكمــل لله تعالــى صــلاة، يصلي كما يصلي الصبيان .
تدخل المسجد فلا تكاد ترى فيه خاشعا . فلله المشتكى .
واعلم يا عبد الله أن فقدان الخشوع من قلبك قد يكون عقوبة من الله لك إثر معصيـــة وقعت فيها فإن للمعاصي شؤما يجده الإنسان في قلبه فيفقد ما كــان فيـــه مـن خشوع وإقبال على الله.
وهذه – والله – من أشد العقوبات و أنكاها أن يحرم الخير بعد أن ذاق طعمه وأن يدبـر قلبه بعد أن كان مقبلا .
ثم هو مع ذلك لا يحس بهذا النقص ولا يرى أنه فاته شيء (كلا بل ران على قلوبهم مـا كانوا يكسبون) .
وإن العبد متى ما فقد الخشوع من عبادته ثقلت عليـــه فلا يكــاد يؤديهــا إلا بشــق الأنفس، فيشابه المنافقين الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى.
فنجده إذا قام في الصلاة قام قيام المتضجر كأنه واقف على الرمضــاء لا يثبـبت فــــي قيامه يراوح بين قدميه منمايلا في بدنه يرفع يدا وينزل أخرى يصلح ثوبــه وساعتــــه يتفقد جيوبه حتى إن الرائي له يقول – سبحان الله –: هل كبر ودخل فــي صلاتــــه أولم يكبر بعد ؟ ..
وان ركع لم يتم ركوعه وبقى إلى حال القيام أقرب منــه إلــى الركوع , ثــــم إذا أراد السجود يرمي بنفسه على الأرض ينقر سجدتين لا يحسن فيهما ذكرا ولا دعــاء، ومـع هذا كله إن صلى في جماعه فهو مستطيل لصلاة إمامه مسابق له في رفعه وخفضــه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسـه رأس حمـار أو يجعـــل صورته صورة حمار ) متفق عليه .
فيا من يسابق إمامه: اعلم أنك لن تنصرف من صلاتك قبل إمامـك, وان فعلـت بطلـت صلاتك فلم يكن في مسابقتك إلا نقصان أجرك وتعريض بنفسك للعقوبة .
وإن من المسابقة الذي كثرت في حال المسبوقين الذين يقومون يقضون بعد سلام إمامهم فتجد أحدهم ينهض ليقضي ما فاته من حين شروع إمامه بلفظ السلام قبل أن يتم التسلمتين ثم سرعان ما ينتصب قائما وإمامه لا زال في ركن السلام لم ينته بعد .
وقد حذر العلماء من هذه المسابقة، وقال بعضهم: إنه بهذه المسابقة تنقلب صلاته إلى نفل . ويعليه أن يعيد الفريضة .
فانظر أيها المسبوق لعلك ممن وقعوا في هذه العجلة المحرمة فاستدرك حالك، واحفظ صلاتك .
عباد الله : هذه حال من فقد الخشوع في جوارحه الظاهرة وأما قلبه فهـو فـي كـل واد يهيــم, يفكر تارة في بيعه وشرائه ووظيفته وتارة في أمور بيته, وربما سافر ورجع كل هذه وهو يصلي وفي عداد جماعة المسجد، بل ربما أشغله الشيطان في أمـــور لا حقيقة لها, ولو رجع إلى رشده لضحك من نفسه كيف استدرجه الشيطان إلـــى هذا الحد ؟ ,
فاعرفوا رحمكم الله – حدود صلاتكم ولا يكن للشيطان من صلاتكم نصيب فان الشيطان لكم عدو مبين .
أقول قولي هذا واستغفروا الله لي ولكم ...
الخطبة (2)
الحمد لله يحي الأرض بعد موتها , ويلين القلوب بعد قسوتها .
وأشهد إلا إله إلا الله حث على تطهير النفوس وتزكيتها , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أكمل الخاشعين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابـه والتابعين إلى يــوم الدين .
أما بعد :-
فاعلموا أن أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته !
قاله النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا رسول الله , وكيـــف يسرق من صلاته ؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها !.
ولقد رغب أناس عن الخشــوع لا زهدا فيه ولكنهم استطالوا طريقه واستبعدوا تحصيله! وإنَّ الله لم يطالب عبــاده بمــــا يستحيل في قدرتهم أو يشق على طاقتهم .
فالخشوع يا عباد الله : قريب المنال سهل المرتقى لمن صدق العزم في طلبه وأخــذ الأسباب في تحصيله .
وان من أسباب تحصيله دعاء الله أن يرزقه الخشوع ويستعيذ به من قلب لا يخشـــــع، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها).
ومما يعين على الخشوع أن تعرف هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته وأن تقرأ في ذلك أو تسمع .
قال عبد الله بن الشخير: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم (يصلي وفي صـدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء) رواه الخمسة وابن ماجه وصححه ابن حبان .
ومما يعين على الخشوع التهيؤ المبكر للصلاة بعد سماع النداء والحضور المبكر للمسجد والاشتغال بالذكر والصلاة فلا يزال المرء في صلاة ما انتظر الصلاة .
وكيف يطلب الخشوع في الصلاة من يأتي للصلاة متأخرا قد ثـار نفسـه، وأشفـــق أن يركع إمامه قبل أن يدخل معه .
ومما يعينك على الخشوع في صلاتك أن تستشعر أنها كفارة لما عساك وقعت فيــه من الآثام وارتكبته من الحرام فإن الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر .
وأن تتذكر أن من شأن الصلاة أن تنهى عن الفحشاء والمنكر وذلـك لمن أداها بقلب خاشع حاضر .
ومما يعينك على الخشوع في صلاتك أن تصلي صلاة مـودع , فالعبـد الخاشع كــــأن صلاته هذه آخر عهده بالدنيا ثم ينقلب إلى رحاب ربه, فهو محسن لصلاته مشتــاق للقاء خالقه .
فتكون لحظة الرحيل بين عينه وهادم اللذات مقبل عليه فلا يلتفت إلى ما يصده, ولا يشتغل قلبه ولا يذهل لبه.
ومما يعينك على الخشوع أن تسكن جوارحك تواضعا لربك تضـع يمناك علــى يسراك على صدرك . قال الإمام أحمد في ذلك: هو ذل بين يدي العزيز .
تنظر موضع سجودك لا يرتفع بصرك إلــى السماء خشيـة أن يخطـف بصـرك , متأمــلا متفكرا فيما تقرأ فـــي صلاتك وتخاطــب به ربـك مستشعرا اطلاعـه سبحانـه عليك وافتقارك إليه .
فخذ – يا عبد الله – بأسباب الخير واستعن بربك وأعلم أن الله تعالى يقول: ( قد أفلح المؤمنون الذين في صلاتهم خاشعون) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعهـــا إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب مالم تؤت كبيرة, وذلك الدهر كله) رواه مسلم
وعن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة, ومن لم يأت بهن فليس له عهد إن شــاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة) رواه أبو داود والنسائي .
معاشر الأئمة انقلوا الخشوع إلى مساجدكم وادخلوها في صفوف المصلين من جماعتكم، اطمئنوا في إمامتكم فأنتم تصلون لغيركم، دعوا من يصلي خلفكم ينقل عنكم طول القيام وحسن الركوع وجمال السجود كل هذا على وفق سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
وأنتم أيها الإخوة صلوا غير الفريضة في بيوتكم خاشعين في صلاتكم ليأخذ عنكم الخشوع أهل البيت من الصغار والنساء .
والتذكير بالفعل أبلغ وأدوم من تذكير القول .
يقول عمران بن حصين لما صلى علي رضي الله عنه تلك الصلاة المطمئنىة لقد ذكرنا هذا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم
فأين المتعرفون على كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ليصلوا صلاته وقد قال عليه وسلم (صلوا كما رأيتمني أصلي)
أين هؤلاء في زمن كثر فيه النقارون، لا يكادون يتمون ركوعاً ولا سجوداً.
فاللهم إنا نشكو إليك قسوة قلوبنا وقلة خشوعنا اللهم ألن قلوبنا لذكرك .