• ×

د.عبدالرحمن الدهش

أسباب رقة القلوب (جددوا إيمانكم)

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  2.5K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

الحمد لله جعل ذكره تطمئن به القلوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له محبته أعز مطلوب وأشرف مرغوب .

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.

صلوات الله وسلامه عليه، وعلى جميع من سار على نهجه وأتبع سبيله إلى يوم الدين.

أما بعد: -

فإنَّ من أعظم نعم الله على عبده أن يكون قريب القلب من ربه، ثقته بما عند خالقه أعظم من ثقته فيما هو في يده.

فلنقف على شيئ من أحوال هذا القلب الذي إذا صلح صلح الجسد وإذا فسد فسد الجسد كله !

عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم رواه الطبراني في المعجم الكبير، وصححه الألباني .

امتدح الله أهل الإيمان بوجل قلوبهم عند ذكره (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون) .

وإن رقة القلوب وخشوعها وانكسارها لخالقها نعمة يختص بها الله من يشاء من عباده .

فرقيق القلب سابق إلى الخيرات مشمر في ميادين الخير، وأبواب الطاعات .

وصاحب القلب الرقيق ترده الموعظة إلى ربه، والكلمة الصادقة تحمله على صوابه، ولحظة التأمل وإعادة التفكر تخرجه من غيه، وتلهمه رشده .

في الصحيحين عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال : لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس فخطبهم فقال ( يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وكنتم عالة فأغناكم الله بي ) . كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن، قال ( ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم )؟

قالوا الله ورسوله : أمنُّ .

قال: ( لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا، أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير؟ وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم.

لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها.

الأنصار شعار والناس دثار إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ) .

وفي رواية عند أحمد بإسناد حسن، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقنا .

ويقول أنس رضي الله عنه: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء فخطب فقال: عرضت علي الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا!

فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أشدُّ منه .

غطوا رؤوسهم ولهم خنين من شدة البكاء، أي: صوت .

وعن عائشة قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتطهر، ثم قام يصلي قالت : فلم يزل يبكي حتى بل حِجْره قالت : ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض فجاء بلال يؤذنه بصلاة الفجر فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر ؟

قال: ( أفلا أكون عبدا شكورا لقد نزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها (إن في خلق السموات والأرض الآيات كلها) إسناده صحيح على شرط مسلم

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:  قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب : ( إن الله أمرني أن أقرأ عليك (لم يكن الذين كفروا)، قال أبيٌّ : وسماني لك ، يا رسول الله؟ قال: (نعم) فلم يتمالك أبي نفسه حتى أجهش بالبكاء)  متفق على صحته .

فهذه نماذج من سيرة القوم ، وهي غيظ من فيض، وقليل من كثير، فما الذي غيَّر القلوب بعد تلك القلوب، وما الذي منع الأبدان أن تقشعر لذكر علام الغيوب .

وما الذي حرم العيون أن تفيض بالدموع، وفقدت من قلوبها الخشوع "  

إي، والله قست القلوب فلم تعد المواعظ تأخذ طريقها في التأثير، ولم يبق في رغبات الإنسان متسع يحدوه شوقاً إلى العليم الخبير .

نرى الجنائز زرافات ووحداناً وكأن الذين يموتون من جنس آخر أما نحن فكأننا من بعدهم مخلدون.

ولن نصير إلى ما هم إليه صائرون .

وربما نتسلى بطول الأعمار، واتساع السنوات، وإن أيقنا بالموت والفوات . وغفلنا عن قوله تعالى ( ومن نعمره ننكيه في الخلق أفلا يعقلون) (حتى لا يعلم بعد علم شيئاً) .

نسمع أحداثاً تزلزلت لها شعوب، وتغيرت على إثرها مسارات أمم وحلَّت بهم النكبات والكروب .

وقد أخبرنا أنه ما حلَّ بقوم سوء إلا بسبب الذنوب، ولا منعوا خيراً إلا بشؤم معصية غلام الغيوب .

ثم لا تردع سفيهنا، ولا تغير شيئاً في كهولنا وشيوخنا .

أيها الإخوة: لَقَدْ ذَمَّ اللهُ عَزَّ وجَلَّ الذِينَ قَسَتْ قُلُوبُهُم مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، وَحَذَّرَ المُؤْمِنِينَ أَنْ يَطُولَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ في المَعَاصِي وَالغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، فَتَقْسُوَ قُلُوبُهُم : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ : (مَا كَانَ بَينَ إِسْلاَمِنَا وَبَينَ أَنْ عَاتَبَنَا اللهُ بِهَذِهِ الآيَةِ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ إِلاَّ أَرْبَعُ سِنِينَ) رواه مسلم.

نَعَمْ عِبَادَ اللهِ، إِنَّهَا سنن إلاهية تَجْرِي في قُلُوبِ العِبَادِ ونُفُوسِهِم؛ فمتى اسْتَغْرَقَ العبد في المَعَاصِي وَالآثَامِ ونَقَضَ مَوَاثِيقَهُ مَعَ ربه الرحيم الرحمن خرج مِنْ صُفُوفِ أَهْلِ التَّقْوَى، حَتَّى يَقْسُوَ قَلْبُهُ ويَعْلُوهُ الرَّانُ ويركبه الهوى .

وإِنَّ أَيَّةَ أُمَّةٍ يَطُولُ عَلَيهَا العَهْدُ وَهِي تَتَقَلَّبُ في بحْبُوحَةِ النِّعَمِ عَلَى فِسْقٍ وَمَعْصِيَةٍ وَنِسْيَانٍ لِرَبِّهَا وَابْتِعَادٍ عَنْ دِينِهَا، ومجاهرة في مخالفتها لاَ تَلْبَثُ أَنْ تعْتَرِيَهَا أَمْرَاضُ النُّفُوسِ وَأَدْوَاءُ القُلُوبِ، فَتَقْسُوَ قُلُوبُهَا، فَلاَ تَخْشَعُ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ.

(اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم) فقد تعدَّى أن يكون لهوهم في أبدانهم وإضاعة أوقاتهم بل (لا هية قلوبهم)

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) .

والمشتكى إلى الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ..

أقول قولي هذا واستغفر لي ولكم ...

الحمد لله رب ...

أما بعد :-

فلتعلم –يا عبد الله- أنَّ أعظم عقوبة تحل في الناس هي قسوة القلوب فتركن إلى الدنيا وتستحبها على الآخرة، وتطلب من أمورها كل لذة عاجلة .

(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) 

ألا فلنتق الله تعالى في غفلتنا ولنبادر في إصلاح قلوبنا

والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ويحييها إذا شاء .

وأعظم ما تحي به القلوب ذكر الله وتلاوة آياته (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) .

فبتلاوة القرآن يزيد الإيمان ويتعرف من خلاله العبد على ربه بأسمائه وصفاته وحججه ودلالاته فهو يقول بلسان حاله (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير).

فلا تزال هيبة الله في قلبه تنمو، وخوفه من مقامه يزيد ويربو

ثم بعد النظر في آيات الله الشرعية يبقى النظر في آيات الله الكونية في خلق السموات والأرض وما بثَّ فيهما من دابة وفي سيرهم إلى ربهم (وهو على جمعهم إذا يشاء قدير)، وفي تقلب أحوال هذا العالم وتغير وجهاته وتباين موجوداته .

يقرأ حلم الله حينما يرى تسلط الظالمين على طائفة من عباد الله المغلوبين !

فلا يزال ينتظر فرج الله لهم داعياً ، مشفقاً أن يصيبه مثل ما أصابهم بذنوبه، وكثرة الخبث في مجتمعه الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم: إذا كثر الخبث . 

فلا إله إلا الله ما أسوأ قسوة القلب، وما أشقى حياة من قسا قلبه ! .

فاللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تهب لنا قلوبا خاشعة توجل لذكرك، وتأنس بعبادتك، اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع ومن علم لا ينفع ومن دعوة لا يستجاب لها .

اللهم مجري السحاب ومنزل الكتاب وهازم الأحزاب اهزم أعداء الاسلام والمسلمين.

اللهم أنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أن تنصر إخواننا المستضعفين في كل مكان.



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 09:34 مساءً الثلاثاء 1 يونيو 1446.