إن الحمد لله . ..
أما بعد :-
فمرحبا بالراكب المهاجر ...
هكذا استقبل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل الذي عاداه سنين، وقتل بسيفه عدداً من المسلمين .
فمن يكون هذا الرجل ؟
دعونا نبدأ القصة من أولها .
إنه رجل في العقد الثالث من عمره، فهو في سن إكتمال القوة، ورجاحة العقل فالأسباب كلها متهيأ أن يكون أحد السابقين إلى الإسلام، وينال مبكراً شرف مصاحبة خير الأنام .
ولكن هذا لم يحصل لأن الله لم يقدره، (وما كان لنفس أن يؤمن إلا بإذن الله)
فقد قدَّر الله لصاحبنا أمراً آخر !
قدر الله عليه وابتلاه أن يكون ولداً وابناً مطيعاً لزعيم الشرك بلا منازع في وقته!
وصنديد من صناديد قريش الذين تفننوا في تعذيب المستضعفين من المسلمين !
إنه فرعون هذه الأمة!
فمن يكون هذا الأب يا ترى ؟
إنه أبو جهل، وكفى به عنواناً للكفر وأذية المسلمين!
فما أعظم فتنة من هذا أبوه !
أما الابن الذين فتن بأبيه فهو عكرمة بن أبي جهل المخزومي .
وهل يفتن الإنسان بأبيه ؟
نعم، وهذا ما حصل لعكرمة حينما وجد نفساً عدوا للإسلام والمسلمين بحكم زعامة أبيه فلا وقت لمراجعة النفس، ولا خيار آخر له وهو يرى أباه يستوثق لزعامته بشدة معاداته لهذا الدين الجديد وأهله .
تمضي الأيام والسنوات فها هو عكرمة جندي من جنود الشرك تحت قيادة أبيه في معركة بدر الكبرى يقاسم أباه المعاداة لهذا الدين فهو عضده في معركة خاسرة !
يساق فيها صناديد قريش إلى مضاجعهم .
وكان أبو جهل قد أقسم باللات والعزى ألا يعود إلى مكة إلا إذا هزم محمدا ، ونزل ببدر وأقام بها ثلاثا ينحر الجزور، ويشرب الخمور، وتعزف له القيان بالمعازف، وتغني له الجواري!
فلله الحمد خيب الله ظنه، وأبطل كيده، فانتهى المعركة بهزيمة نكراء، وهزم الجيش الكافر الذي ما خرج إلا للبطر والرياء !
هزم الجيش الكافر ولم تجد البقية الكافرة منه سبيلاً للنجاة إلا الفرار السريع جهة مكة .
تاركة قائد المعركة وبقية أسياد قريش صرعى في أرض بدر قد تغيرت ملامحهم، وانتفخت بطونهم
ليأتي المسلمون فيما بعد ليسحبوا هذه الجثث الكافرة ليلقوها في قليب بدر .
عاد عكرمة إلى مكة يحمل عار الهزيمة، وخيبة الكفر.
عاد ليحمل العداء الأولى والثأر الجديد .
فهو ابن الزعيم المقتول !
ومنذ ذلك اليوم تجدد العداء ونكررت المواقف فهاهو عكرمة يعد العدة للقاء الثأر في غزوة أحد بعد عام من قتل أبيه !
فيخرج عكرمة بن أبي جهل إلى أحد ، وأخرج معه زوجه أم حكيم لتقف مع النسوة الموتورات في بدر وراء الصفوف ، وتضرب معهن على الدفوف ، تحريضا لقريش على القتال، وتثبيتا لفرسانها إذا حدثتهم أنفسهم بالفرار .
وشاء الله لحكم عظيمة أن تكون الغلبة للمشركين حتى قال قائلهم : هذا بيوم بدر .
وفي السنة الخامسة من الهجرة يتقدم عكرمة مع الجيش المحاصر في غزوة الخندق ولكنه لم يحصل شيئاً ولم ينجه إلا الفرار مع الفارين .
وهاهي ساعة العناد تقترب من نهايتها، وفرج الله لعكرمة ليس بعيداً من قلبه المنغلق .
فيمن الله على رسوله بفتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة معلنا نهاية الشرك في مكة، ولا هجرة بعد الفتح .
و تسلم قريش قيادتها للفاتح العظيم محمد صلى الله عليه وسلم .
فما حال صاحبنا عكرمة من هذا الفتح ؟
لم تزل بقية كفر وعناد في نفس عكرمة ونفر معه فخرجوا عما رأته قريش ، وتصدوا للجيش الفاتح ، فهزمهم خالد بن الوليد في معارك صغيرة قتل فيها من قتل منهم ولاذ بالفرار من أمكنه الفرار، فأسقط في يد عكرمة ورأى نهايته قريبة من ناظريه كنهاية أبيه التي لم تغب عن باله
فلعل الفرار يدفع عنه !
ولعظم شره وشدة أذيته لم يشمله العفو النبوي حينما قال لأهل مكة اذهبوا فأنتم الطلقاء !
فكان اسم عكرمة أحد الأربعة الذين أمر بقتلهم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة .
فخرج عكرمة بن أبي جهل فاراً مستخفياً بنفسه لعل جهة اليمن تحميه وركوب البحر عن الردى يقصيه .
ولله في شأن عكرمة أمر آخر فيأتي وفاء زوجته في وقته المناسب بل في ساعته الحرجة
فزوجته أم حكيم صارت بركة على زوجها المطلوب لعداوته الهارب بجريرته !
ذهبت أم حكيم زوج عكرمة بن أبي جهل فأسلمت وبايعت بيعة النساء على الإسلام .
ثم قالت:يا رسول الله: قد هرب منك عكرمة بن أبي جهل إلى اليمن خوفا من أن تقتله فأمنه أمنك الله ، فقال عليه السلام : هو آمن .
فخرجت من ساعتها في طلبه، لعلها تدركه قبل أن يتباعد به الطريق حتى أدركت عكرمة عند ساحل البحر في منطقة تهامة وهو يفاوض البحارة ليركب معهم البحر .
ومن توفيق الله أن يسر الله بحاراً مسلماً فقال له وهو يفاوضه على الركوب
أخلص حتى أنقلك، وتركب معنا .
فقال له عكرمة : وكيف أخلص ؟
قال : تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .
فقال عكرمة : ما هربت إلا من هذا !.
وفيما هما كذلك إذ أقبلت أم حكيم على عكرمة وقالت :
يا ابن عم، جئتك من عند أفضل الناس ، وأبر الناس ، وخير الناس . . . من عند محمد بن عبد الله . . .
وقد استأمنت لك منه فأمنك فلا تهلك نفسك .
فقال : أنت كلمته ؟
قالت : نعم ، أنا كلمته فأمنك، وما زالت به تؤمنه وتطمئنه حتى عاد معها .
فسارت الزوجة الوفية بزوجته إلى عز الدنيا وسعادة الآخرة!
فلما دنا عكرمة من مكة ، قال الرسول عليه الصلاة والسلام لأصحابه – بخبر غيبي -:
"إنه سيأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا ، فلا تسبوا أباه ؛ فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت" .
وما هو إلا قليل حتى وصل عكرمة وزوجه إلى حيث يجلس رسول الله ، فلما رآه النبي صلوات الله عليه قام إليه مستقبلاً له فرحاً به .
فقال عكرمة: يا رسول الله، إن أم حكيم أخبرتني أنك أمنتني . . . فقال النبي عليه الصلاة والسلام :
"صدقت أم حكيم ، فأنت آمن".
فقال عكرمة : إلام تدعو يا محمد ؟
قال : " أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني عبد الله ورسوله ، وأن تقيم الصلاة وأن تؤتي الزكاة . . "
حتى عد عليه أركان الإسلام كلها .
فقال عكرمة : والله ما دعوت إلا إلى حق ، وما أمرت إلا بخير، ثم أردف يقول : قد كنت فينا -والله – قبل أن تدعوا إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثا وأبرنا برا . .
ثم بسط يده وقال : إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك عبده ورسوله ، ثم قال :يا رسول الله علمني خير شيء أقوله .
فقال : " تقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله".
فقال عكرمة : ثم ماذا ؟
قال رسول الله : ( تقول : أشهد الله ، وأشهد من حضر أني مسلم مجاهد مهاجر ) . فقال عكرمة ذلك .
عند هذا قال له الرسول صلوات الله عليه : ( اليوم لا تسألني شيئا أعطيه أحدا إلا أعطيتك إياه ) .
فقال عكرمة :إني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها ، أو مقام لقيتك فيه ، أو كلام قلته في وجهك أو غيبتك .
فقال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها ، وكل مسير سار فيه إلى موضع يريد به إطفاء نورك ، واغفر له ما نال من عرضي في وجهي، أو أنا غائب عنه ) .
فتهلل وجه عكرمة بشرا وقال :
أما والله ، يا رسول الله ، لا أدع نفقة كنت أنفقتها في صد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله ، ولا قتالا قاتلته صدا عن سبيل الله إلا قاتلت ضعفه في سبيل الله .
فرضي الله عن عكرمة ...
الحمد لله ...
فقد وعد وصدق رضي الله عنه فما خاض المسلمون معركة بعد إسلامه إلا وخاضها معهم ، ولا خرجوا في بعث إلا كان طليعتهم .
حتى كان يوم اليرموك أقبل عكرمة على القتال إقبالاً شديداً.
حتى انتهت المعركة وكان يتمدد على أرض اليرموك ثلاثة مجاهدين أثخنتهم الجراح أحدهم صاحبنا عكرمة بن أبي جهل، وكان بهم رمق من الحياة فأتوا بماء ليشربوا فكل يدفعه ويؤثر به الآخر .
حتى عاد الساقي إلى الأول فوجده قد مات ثم رجع إلى الثاني فوجده قد مات ثم أراد أن يرجع إلى أولهم إيثاراً فوجده قد مات أيضاً .
فمات الثلاثة كلهم عطشى .
وسقاهم من حوض الكوثر شربة لا يظمأون بعدها . . .
وحينما تكلم ابن القيم رحمه الله على الإيثار بالقرب وأنه ليس ممنوعا قال: "وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة في فتوح الشام وعد ذلك من مناقبهم وفضائلهم"
ارجع إلى كلام النفيس في زاد المعاد
من دروس هذه القصة هذه الأخلاق السمحة في قبول العاصين، وتألف قلوبهم لا سيما إذا جاء تائباً نادما .
فماذا عن قبولنا لأقاربنا وأولادنا الذين استزلهم الشيطان فشط بهم وركبوا مركب العصيان في مسكر أو مخدر .أو غدرات في سفرات .
ماذا عن هاجري المساجد ؟
كيف قبولنا لأولاد وأقارب طال عقوقهم ، وتوسع هجرانهم (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)
ثم هذا الموقف الفريد والوفاء الأكيد من زوجة عكرمة أم حكيم
فهي اسم على مسمى !
فهل في بيوتنا أم حكيم ؟
انظر وابحث عنه في زوجة صابرة على زوجها تقابل جفاءه وقلة نفقته بالصبر والاحتساب وعدم الشكاية لأهلها .
انظر في زوجة هي القائمة على أولادها توقظهم للصلاة !
وترعاهم في صحتهم ودراسته ، ليبقى زوجها مرتاح البال مع رفاقه متفرع القلب لأصحابه .
اللهم ارض عن الصحابه ...