إن الحمد لله ....
أما بعد:-
فالارتباط بغير الله خور ومذلة، والوثوق بغير الغني الكريم فقر وقلة، (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد)
لأنَّ الدنيا بنيت على النقص، أحزان وأفراح، وابتهاج وأتراح، شدة ورخاء، وعسر ويسر.
أما الذين لهم ما تشتهي الأنفس، ولا يبغون عنها حولا فهم سكان الجنة، (ولنعم دار المتقين جنات عدن يدخلونها).
(فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) .
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا)
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك فيقول: هل رضيتم ؟
فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا" رواه البخاري ومسلم.
وعن صهيب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم ؟ فيقولون ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل" رواه مسلم.
أيها الإخوة: هذه الدنيا لا بد أن تقابل بشعار رفعه النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية في وقت ضيق وشدة، في وقت كان الأعداء يتشاورون كيف يغيظون النبي صلى الله عليه وسلم، ويحفظون كرامتهم؟
لما قدم سهيل بن عمرو وكان مشركاً يومئذ، قدم ليفاوض النبي صلى الله عليه وسلم .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : "سهل لكم من أمركم" تيمنا باسم هذا الرجل القادم وهو لا يزال على كفره .
هذا هو مبدأ التغلب على صعاب الدنيا، ونكد عيشها، وكيد الأعداء فيها .
أيها الإخوة: من أعظم أعمالك التي تعملها في الدنيا، وتكون عوناً لك في سيرك إلى الله، وتعمر بها قلبك إنه حسن الظن بالله، والثقة أن لهذا الكون رباً خلقه فهو المتصرف فيه، وهو العالم بما يصلحه (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) .
كان النبي صلى الله عليه وسلم مثالاً للعمل لهذا الدين دعوة للناس، وإصلاحاً لما يستطيعه من أديانهم وأخلاقهم (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني)
ومع صدق قيامه بهذه المهام الجليلة لم تصف له الدنيا لا في خاصة حياته، ولا في مسير تبليغه لدعوته.
استهزئ به ورمي بالتهم، حاصره المشركون وأصحابه في شعب أبي طالب حتى أجهدهم الجوع
توفي عمه أبو طالب وزوجه خديجة وهما عضداه في الدعوة فصبر واحتسب .
حتى كاده قومه فأذن له ربه بالهجرة ومفارقة أهله وبلده، فخرج مهاجراً خائفاً يترقب إلى المدينة ، خرج حيث أمره الله إلى قوم بابعوه على النصرة ، والحماية مما يحمون منه أولادهم ونساءهم فأظهره الله وكتب له تمكيناً في المدينة وهو مع هذا لم يفارقه البلاء والتمحيص له ولإتباعه فهو بين أذية المنافقين ومن ورائهم من اليهود الحاسدين، وبين مناوشات المشركين وتحزبهم حرباً لرب العالمين .
ومع ذلك لم يتسرب يأس إلى قلبه، أو قنوط من تغير حال، وتبدل وضع!
كيف ؟ وهو المبلغ عن ربه (ولا تيأسوا من روح الله)
(ومن يقنط من رحمة ربه إلا القوم الضالون)
وإذا كان الأول يقول:
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!
فإن الله تعالى يقول (فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا)
إن حسن الظن بالله تعالى يجعل الإنسان دائماً متفائلا في أمره كله فيقبل على صعوبات الحياة بنفس واثقة رضية.
وفي الحديث القدسي: يقول الله تعالى "أنا عند ظن عبدي بي" حديث صحيح رواه أحمد وغيره.
التفاؤل يعطي الإنسان أملا في إصلاح نفسه .
نعم هو عاصي، جريء على محارم الله، ليس له همة في التزود في الخير يشرب الدخان، أو ما هو أسوأ وأعظم منه ، ومهمل في حقوق بيته من والديه، وأولاده، ليس له صلاة يذكر بها .
هل من سبيل إلى حال جديدة، وصفحة مضيئة ؟
أجل، وليس بينك وبين هذا إلا همة وتأكيد، وعزم على نقلة وتجديد.
التفاؤل يفتح للإنسان باب أمل في صلاح أولاده، وعودتهم إلى حظيرة البيت المطمئن فحسن ظننا بعد دعائنا وانكسارنا بين يدي ربنا يجعل الحياة المتنغصة حياة ملؤها الفأل وحسن الظن وانتظار فرج قريب .
فإنَّ الذينَ يعرفون مجريات الحياةِ، ويدركون سنن الله هُمْ أكثرُ الناسِ أملاً وتفاؤلاً، وأقلُّهمْ يأساً وتشاؤماً .
ولقَدْ كانَ رسولُنا صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ الفأْلُ لأنَّه حُسْنُ ظَنٍّ باللهِ سبحانه وتعالى، ففي الصحيحين عَنْ أنسٍ رضى الله عنه أنَّ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يُعُجِبُه الفأْلُ: الكَلِمَةُ الحسَنَةُ، الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ".
وكان إِذَا خَرَجَ لِحَاجَةٍ يُعْجِبهُ أَنْ يَسْمَع: يَا نَجِيح يَا رَاشِد. وَكَانَ عليه الصلاة والسلام إِذَا بَعَثَ عَامِلاً يَسْأَل عَنْ اِسْمه, فَإِذَا أَعْجَبَهُ فَرِحَ بِهِ .
بل بلغ من تفاؤل النبي صلى الله عليه وسلم أنه غيَّر بعض أسماء أصحابه بأسماء جديدة ذات معان حميدة، فقد غير عاصية إلى جميلة، وغير اسم الصحابي حزن إلى سهل.
أيها الإخوة الحياةَ قصيرةٌ فلا تُقَصِّروها بالهمومِ والأحزانِ، ولا تَحْمِلُوا الأرضَ فوقَ رؤوسِكُمْ وقَدْ جعلَها اللهُ تحتَ أقدامِكُمْ .
ورُبَّ مِحْنَةٍ ولدتُ مِنْحَةً، وربَّ نورٍ يلوح من وسط الظَّلامِ، فإنَّ النصرَ معَ الصبرِ، وإنَّ الفرجَ معَ الكربِ، وإنَّ معَ العُسْرِ يُسْراً، فأبشِروا وأمِّلُوا فما بعدَ الليل إلا الصبْح المشرِق.
بارك الله لي ولكم ...
الثانية
الحمد لله . أما بعد:-
فالمتفائل يعيش بعقله ويفكر باعتدال ولا يطلب المستحيل، ويكلف نفسه أو غيره الشاق التقيل .
المتفائل معتدل النفسية فسعيد بما أنعم الله به عليه فهو يأكل ويشرب وينام ويسافر ويجالس الناس ويدخل السرور على جلسائه، ويعد الوعود الحسنة، وله أمل عريض وثقة كبيرة أن دوام الحال من المحال فليس للخوف في حياته مجال، وقد أمنه الله (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن)
المتفاؤل بتفائله يسعى في المحافظة على صحته البدنية؛ فإن النفوس المتفائلة سوف تؤثر على الأجساد قوة إلى قوتها، وإذا تشاءمت أصبح الإنسان عليلاً من غير علة، وسكنته الهواجس والأوهام وتوقع السيء والأسوأ في كل ما يأتي ويذر !
هل تعلم أن المتفائلين أطول الناس أعماراُ ؟
الأعمار بيد الله، وقد جعل الله لكل شيء سبباً يحصل به، وسبباُ يدافع به !
وقد أثبتت الدراسات أن المُعَمرين عادةً هم المتفائلون في حياتهم.
والمتفاؤلون يقاومون بتفائلهم أمراضاُ تنهش من أجسادهم، والدواء الحسي والعقاقير العلاجية تعمل بإذن الله بكفاءة عالية مع النفوس الراضية المتفائلة !
فأين المرضى المتفائلون؟
(وفي أنفسكم أفلا تبصرون)
ألا يكفي المتشاؤم ليقلع عن تشاؤمه أن يعلم أنه بالتشاؤم لا يرد قدراُ نافذاُ !
ألا يكفي المتشاؤم أنه بشاؤمه إنما يحرق نفسه، ويتصارع في داخله وأمر الله لا مرد له (وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) .
ألا يكفي المتشاؤم أنه بتشاؤمه يحيي آثار الجاهلية، ويعيد إلى حياته طرائق الوثنية !
وفي الصحيحين قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « لا عدوى ، ولا طيرة ولا هامة ، ولا صفر » متفق عليه .
فليس هناك عدوى بين الأمراض إلا بتقدير الله (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) ومن الأمراض مرض الهامة
ولا طيرة وهو التشاؤم بالطيور ومنها طير الهامة وتسمى البومة .
وكان من عادتهم أن يتشاؤموا بشهر صفر ويعتقدوا فيه نحساً يحذرونه، ومصائب يترقبونها فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ليبقى المؤمن مرتبطاً بالله تعالى .