إن الحمد لله نحمده ...
أما بعد:-
فهل سألت نفسك يا عبدالله يوما من الدهر ؟
كم عمرك ؟
كم السنوات التي لك ؟
كم أيامك وشهورك التي تعيشها في هذه الدنيا ؟
غريب هذا السؤال !
نعم هو غريب إن فهمت أنني أقصد كم ستعيش في هذه الدنيا ؟ أو كم بقي لك فيها ؟
إن فهمت ذلك فهو سؤال غريب لا يجيب عليه أذكى مخلوق، ولا أعرفهم بوسائل الصحة ولا أمهر طبيب !
لأن لله غيبا في أعمار الناس فهم يعيشون إلى نهاية لا يدرون متى تكون ؟
(فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)
بل ولا يدرون أين تكون (وما تدري نفس بأي أرض تموت)
إذن تدع الغيب لله عالم الغيب (فلا يظهر على غيبه أحدا)
ونعود لسؤالنا الذين نقصد منه ما هي السنوات التي تحتسبها من عمرك ؟
حينما تعيش ثلاثين أو ستين أو تسعين سنة أو أكثر من ذلك أو دون ذلك .
بعد أن تتذكر صنفاً من عباد الله قال فيهم (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا)
وقال فيهم (أفرأيتم إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون)
فالخلق يسعون في هذه الدنيا بأعمار مقدرة متفاوتة (إن سعيكم لشتى)
فما سعيك في هذه الدنيا وأنت تسلخ عاماً كاملا مر عليك كأنه شهر واحد ؟
ما سعيك وأنت تستحضر النهاية (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) .
ولم يغب عن بالك (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون)
طول العمر منية تسعى إليها النفوس بفطرتها، وتلهج بها الألسن بدعواتها.
ولكن في طول العمر خير وشر !
بينه النبي صلى الله عليه وسلم فعن أبي صفوان عبد الله بن بسر الأسلمي ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير الناس من طال عمره وحسن عمله
وشر الناس من طال عمره وساء عمله) رواه الترمذي، وقال : حديث حسن .
إذن طول العمر الذي يسعد الإنسان ويسعى له هو طول العمر مع العمل بل مع حسن العمل بحيث يكون مخلصاً متبعاً فيه سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
حينها يكون العمر مباركاً على صاحبه، يكون مباركاً على أهله ومن له بهم صلة وعلاقة .
بل يكون مباركاً على أمته بنفع يبذله ، وخير يتسع انتشاره وكل يصيب منه .
وحينما يكون الحديث عن بركة الأعمار فليس من شرطها أن تتعدد السنوات فيها ويلتحق صاحبه بالمعمرين .
كيف وقد روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ".
وقد علم الله ضعفنا وقصر أعمارنا بالنسبة للأمم قبلنا .
فبارك في أعمار طائفة من عباده فكانت أعمالهم أوسع من أعمارهم، وامتدت آثارها بعد آجالها .
وإذا أردنا أن نتذاكر بعضاً من هؤلاء فالنفوس ترتقي بأخبار الراقين، وتعتلي همتها بذكر أصحاب الهمم العالين .
نذكر من أقسم الله بعمره الشريف (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون)
عاش النبي صلى الله عليه وسلم الحد الأقل من أعمار أمته فقد توفي صلّى الله عليه وسلّم عن ثلاث وستين سنة .
ليس بالعمر الطويل ولكنّه أحدث فيه أعظم تغيير في حياة البشريّة، فقد أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور ونبذ الشرك، وقرر التوحيد وأرسى قواعده في النفوس، وصار الناس في حباته وبعد مماته يدخلون في دين أفواجاً .
حتى قال أبو ذر رضي الله عنه: ( ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم ، طائرا يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما)
هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يزال العارفون يتلمسون خطاه سائرين على نهجه والله تعالى يقول (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) .
والتاريخ الإسلامي في القديم والحديث يسطر أسماء كثيرة طالت أعمالهم وانتشر خيرهم مع قصر أعمارهم .
كل في ميدانه .
فهذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو يكر الصديف عمره كعمر النبي صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثا
وستين سنة جمع الله به الكلمة وقت الردة وأرسل الجيوش الفاتحة وأسس الخلافة الراشدة في خلافة لم تتجاوز مدنها عامين وثلاثة أشهر تقريباً .
ثم تمدد السلسة في المباركين في أعمارهم .
فمن منا لم يسمع عن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله أحد المجددين في تاريخ الإسلام، فقد رجع بالخلافة ونظام الحكم إلى عهد الراشدين حتّى عده بعضهم خامس الخلفاء الراشدين ، برده المظالم، و قمع المتزلفين النفعيين وخلافته إنما هي سنتان ونصف سنة، أما عمره حين توفي فهو ثمانية ليست وثمانون ولا سبعون !
بل وثلاثون فعمره ثمانية وثلاثون عاماً فقط! رحمه الله .
أتعرف الشافعي الإمام صاحب المذهب المشهور الذي ينتسب إليه الشافعية في الدنيا كلها، وأخباره تطول لم يعش سوى 54 سنةً. رحمه الله .
وختام من نذكره – وليس خاتما لهم - نذكر صاحب الكتب النافعة وأشهرها كتاب رياض الصالحين كتاب سارت به الركبان وقرأه العرب والعجم وقد لا يخلو منه بيت أو مسجد إنه النووي الفقيه الشافعي مات وعمره أربع وأربعون سنة رحمه الله .
فالأعمار يا عباد الله إنما تقاس بما أودعتها من أعمال، وبما يسطر وتجده من دقائق الأفعال والأقوال (فمن يعمل مثقال يره ...)
الحمد لله ..
فهل لبركة العمر من طريق يسلكه الراغب في استدراك عمره، ويحرص عليه من هو سائر إلى ربه، خائف من عاقبة تقصيره ؟
أجل أيها الموفق جعل الله لكل شيء سبباً، والمؤمن مأمور بأخذ الأسباب (احرص عبى ما ينفعك واستعن بالله) .
وقد جعل الله هذه الصلوات المفروضة بركة في يوم المسلم يعرف من خلالها تنقلاته الزمنية اليومية فلا بركة في يوم من لم يحافظ على صلاته (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) .
وأنزل الله على هذه الأمة كتاباً مباركاً (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته)
ومن بركة القرآن أن المرتبط بكتاب الله يجد بركة وقته عيانا ليس بالأوهام، وحقا ليس بالخيال .
فأهل القرآن بصدق هم أسعد الناس بأوقاتهم، وأوقاتهم تسع مشاغلهم . .
قال أحد السلف :كلما زاد حزبي من القرآن، زادت البركة في وقتي ، ولا زلت أزيد حتى بلغ حزبي عشرة أجزاء.
وقال إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي موصيا الضياء المقدسي لما أراد الرحلة للعلم :
" أكثر من قراءة القرآن ولا تتركه؛ فإنه يتيسر لك الذي تطلبه على قدر ما تقرأ ".
قال الضياء:فرأيت ذلك وجربته كثيراً ، فكنت إذا قرأت كثيراً تيسر لي من سماع الحديث وكتابته الكثير ، وإذا لم أقرأ لم يتيسر لي ..ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب( 3/205)
ومن أسباب بركة العمر التعرض والحرص على أوقات البركة فقد النبي صلى الله عليه وسلم في البركة في البكور وهو أول النهار فقال (اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا) حديث صحيح.
ومن أسباب البركة تعرف على المسلم الحريص على الأجور الواردة والأعمال الفاضلة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصيام في هذا الشهر (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم ) وقال في الغاشر منه يكفر السنة الماضية.
ولم يثبت شيء غير الصيام في هذا الشهر .
كما أنه لم يثبت شيء في بداية العام الهجري لا من دعاء خاص، وليس هناك صحف تطوى في نهاية العام، ولا تشرع الدعوة إلى التسامح بين الناس بخصوص هذه المناسبة
ولكن التسامح ومحاسبة الإنسان نفسه مشروعة في كل وقت وكذا الخروج من المظالم واجب لا يجوز تأخيره .
جعل الله عامنا عاما مباركاً علينا وعليكم وعلى المسلمين في كل مكان .
وأدام على بلادنا أمنها وإيمانها وحفظ لنا ولاة أمورنا وقواهم بالحق، وجعلهم حماة لدينه ورحمة لعباده .