• ×

د.عبدالرحمن الدهش

لعلكم تتقون

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  787
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

الحمد لله عَمَر بتقواه قلوبَ المتقين ، وجعل التقوى سبيل نجاة الأولين والآخرين

وأشهد ألا إله إلا الله رب العالمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين r ، وعلى آله وأصحابه أجمعين .

أما بعد:-

فـ(يأيها الذين آمنوا) نداء رباني، فرب العالمين ينادي عباده المؤمنين .

يقول ابن مسعود رضي الله عنه (إذا سمعت الله يقول يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك !

إما خير تؤمر به أو شر تنهى عنه .

فلننظر في خطبتنا اليوم إلى نداء من تلك النداءات، وإلى تشريع من أوائل التشريعات في السنة الثانية من الهجرة .

يقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب الصيام كما كتب على الذين من قبلكم)

فنادى الله عباده ليبين لهم أن الصيام الذي كان على الأمم السابقة، وصامته الأمم في شرائعهم الماضية لن يفوتكم معاشر الأمة المحمدية فهاهو يكون أحد شرائع دينكم، وركنا من أركان إسلامكم وتعبدكم .

فالصيام عبادة متكررة عبر الشرائع .

والصيام على مشقته لا يمكن أن تخلو منه شريعتكم فتكون الأمم الصائمة أحظى بالخير منكم وأنتم أفضل الأمم! .

والإنسان ينشط على العمل وإن كان شاقاً عليه حينما تجعل منافسة فيه، ويعلم أن هناك من قام بهذا العمل نفسه فإياك أن تسبق!

فما أعظم التنافس والتسابق في مرضاة الله، تلك المنافسة التي يبقى أجرها، وتحمد عاقبتها (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)

فجاء فرض الصيام بلفظ (كتب) والكتابة توثيق بين العبد وربه، فمن امتثل فقد أدى ما اقتضاه المكتوب (ومن نكث فإنما ينكث على نفسه) . (ولا يضر الله شيئا) .

ولتعرف نعمة الله على هذه الأمة نقف على رحلة تاريخية قبل استقرار هذا التشريع بصيام شهر رمضان .

يقول الله تبارك وتعالىى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فالذين يطيقونه والصيام عليهم سهل إن شاؤا صاموا وإن شاؤا أفطروا وأطعموا فأخرجوا فدية طعاماً لمساكين بقدر أيام الصيام .

ولكن الصيام أحب إلى الله ولا يعدله الإطعام وإن كان يكفي عنه (وأن تصوموا خير لكم) .

فبقي الحكم ما شاء الله أن يبقى على هذا التخيير مع ترجيح الصيام .

ثم جاء الصيام لازماً لايغني الإطعام للقادر عليه .

(فمن شهد منكم الشهر فليصمه)

ولكنه جاء بصيام طويل ابتلاء للعباد وليعرفوا نعمة الله في التخفيف فيما بعد .

عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: كانَ أصحابُ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا كان الرَّجلُ صائمًا فحضر الإفطار فنام قبْلَ أن يُفطِر أو صلى العشاء لم يأكلْ ليلتَه ولا يومَه حتى يُمسي – إن فرصة الأكل من غروب الشمس حتى ينام أو يصلى العشاء، ومن فاتته هذه الفرصة فيلزمه أن يمسك إلى اليوم الثاني ينتظر فرصة الأكل بعد غروب الشمس من اليوم التالي ! – فما الذي حصل ؟

صام الصحابي المسمى بقيس بن صرمة الأنصاري رضي الله عنه وكان رجلاً فلاحاً يعمل في نخله فلمَّا حضَر الإفطار أتى بيته، وقال لامرأته: أعندَكِ طعام؟ قالت: لا.

ولكن أنطَلِق فأطلب لك.

وكان مجهدا من عمل يوم كامل، فاتكأ في بيته فغلبتْه عيناه ونام، فجاءتْه امرأتُه فلمَّا رأته قد نام قالت: خيبة لك!

لأن نومه يعني وجوب الامساك إلى غروب الشمس من الغد .

فامتثل الصحابي وزوجه أمر الله، وعقد الامساك على جوع وتعب ليوم ثاني .

ولم يمنعه ذلك من الخروج لعمله ونخله من الغد لأن بقاءه لا معنى له ويتعطل به عمله .

ذهب الصحابي على ضعف في بدنه، فلمَّا انتصف النهار وهو في حقله نفد ما بقي منه من قوة فغُشِي عليه اجهادا وجوعاً !

والفرج مع الكرب ذكر ذلك للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم – فجاء التيسير من الله، وصار الليل كله زمنا للأكل والتقوي على صيام الغد ونزل قوله تعالى ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ إلى قوله تعالى ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ﴾ ففرح بها الصحابة فرحاً شديداً .

وهو تخفيف للأمة إلى قيام الساعة .

علم ضعفنا فعفا عنا، ولم تخف عليه حاجتنا فجبر كسرنا وأجزل أجزنا .

ولا يزال راغبو الصيام يحيطهم الله بلطفه، ويفتح لهم أبواب اليسر، ولا يريد بهم العسر   

(ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)

فمن شق عليه الصوم لمرض عارض أو مستمر فإنه يفطر ولا يجوز أن يشق على نفسه ويكون صومه فيما بعد إذا برأ إن استطاع أو يطعم عن كل يوم مسكيناً بعد رمضان أو بعد جزء من أيامه يطعم بمقدار ما مضى من الأيام .

ومثله المريض كبير السن الذي يعقل الصيام ولا يستطيعه فإنه يطعم أيضاً

وأما الذي لا يعقل الصيام ولحقه الخرف وصار يطلب الطعام والشراب وقت الصيام فهذا معفو عنه وقد زال تكليفه فلا صيام عليه ولا إطعام .

وقد رخص أيضا في الآية للمسافر فله الفطر.

ولكن من سهل عليه الصيام في السفر وأحب الصيام فهو أولى في حقه وأسرع في إبراء ذمته .

فاللهم بلغنا رمضان على أحسن حال، اللهم اجعلنا ممن يصومه ويقومه إيماناً واحتساباً ..    

الحمد لله ...

أما بعد:-

يتكلم الناس عن برامج رمضان، ومشاريعه العامة والخاصة ولهم في ذلك تنظير وتمثيل والموفقون في ذلك متفاوتون

وإن أعظم مشروع رمضاني لا تتنازل عنه لأي سبب، ولا يجوز أن يزاحمه أي مشروع أو عمل .

هو المشروع الذي شرع من أجله الصيام ، والحكمة التي عقب الله بها على كتبه وفرضيته يقول الله تعالى  

(كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) 

أجل يا عباد الله: ابن يا عبد الله في هذا الشهر بنيان التقوى في قلبك (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم) .

هذه التقوى التي فقدناها أحوج ما نكون إليها !

فالقلوب لم تعد تشعر ببردها، وضاعت طمأنينتها منذ أن أخللنا بأسباب تحصيلها بل إن الواحد منا يأخذه العجب بحاله والاغترار مع تقصيره فيزكى نفسه ويشير إلى قلبه ويقول التقوى هاهنا .

وصدق التقوى هاهنا في القلب!

ولكن أما علم أن كل إناء بما فيه ينضحك .

فالتقوى تمنع من حلت في قلبه كل ما يبعده من الله، أو بسلط عليه شياطين الإنس والجن .

فهي وقاية من عذاب الله بفعل أمره وترك نهيه

إنَّ التقوى صلاح الجسد والروح ، ونور البصر والبصيرة، يحصل بها العبد معية الله

)إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (، ) واعلموا أن الله مع المتقين(

وينال بها الأجر في أخراه )إن للمتقين عند ربهم جناتِ النعيم(

كتب عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – إلى أحد أصحابه فقال : (أوصيك بتقوى الله، فإنها أكرم ما أسررت، وأزين ما أظهرت، وأفضل ما ادخرت ).

فاطلبها واسع في تحصيلها في شهر التقوى، حينما تجد المعين بتصفيد الشياطين، ومجالسة الصائمين، ورؤية المصلين الذاكرين ومشاهدة المبكرين للجماعة والجمعة، الذين يعدون لحظات الشهر ويبخلون بها وهم على خوف ماذا يدركون منها؟

فهم أعقل من ملاحقة ما لايعنيهم في مواقع التواصل، وتتبع تفاهات، ورديء المقاطع !

وهم أشد عقلاً  من أن يخرقوا صيامهم أو يمضوا جزء من ليلهم في مشاهدات ما تسميها قنوات الرذيلة  بالبرامج والمسلسلات الرمضانية فتخدر المشاعر وتسرق روحانية رمضان، ويسوق لنزع الحياء، ووتطمس أخلاق وفضائل المجتمعات.

وسيعلم الذين يعشون أمتهم أي منقلب ينقلبون .

اللهم لاتشمت بنا الحاسدين، ولا تفرح علينا المتربصين .

وقنا شرور الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون .

فلنصم صيام مودع !

ولهم أكبر عظة في أقوام كانوا ينتظرون رمضان الماضي فأدركوه والآن مرتهنون بعملهم، قدموا على ما قدموا .

بل العِظة أعظم فيمن أمل إدراكه هذا العام ولكن سبقت آجالهم وطويت صحائف أعمالهم ، ونحن إلى ما صاروا إليه صائرون، وإلى ما عاينوا معاينون، والله المستعان .

فاستقبل شهرك بنية جازمة أن تصلح ما أفسدت من قلبك، وأن ترفع الظلم عن نفسك، وعمن تجرأت على حق من حقوقه.

فرمضان فرصة الراغبين، وهو سعادة المقبلين التائبين.

 



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 03:10 مساءً الخميس 19 مايو 1446.