• ×

د.عبدالرحمن الدهش

خطبة يوم الجمعة 16-5-1431هـ بعنوان الصدقة الجارية

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  22.1K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

 

الحمد لله أما بعد :- فالأعمار قصيرة، والأعمال قليلة، والأماني عريضة، والنقلة من هذه الدنيا قريبة، غير بعيدة . ولكن الله لطف بعباده فسد نقصهم، وقوى ضعفهم، ومن عليهم بوصل في أعمالهم بعد انقطاع آجالهم، فهو في عالم الغيب عاين ما يوعد به ومع ذلك فأجره لم ينقطع . فما أعظم الربح، وأكرم بهذه التجارة يقول الله تعالى (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدَّموا وآثارهم) فـ(ما قدموا) هي أعمالهم التي باشروها، وحرصوا عليها في حياتهم . فعلوا ما استطاعوا من الواجبات، واستعانوا بالله على ترك المنهيات تمثلوا قول النبي صلى الله عليه وسلم (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم) فهل لك أيها الموفق بعمل بل بأعمال لا ينقطع أجرها بانقطاعك من الدنيا فهي أجور تتوالى عليك يرفع الله بها درجاتك، ويحط بها من خطيئاتك . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ) رواه مسلم . فأولها الصدقة الجارية فهي ليست لقمة أكلها فقير، أو لباسا أبلاه مسكين، بل جارية يتعاقب أناس على الانتفاع بها، يرثها جيل بعد جيل إلى ما شاء الله فما أعظم النفع ! فمن الصدقة الجارية الأوقاف التي تسمى الأسبال كبناء المساجد والمدارس لتعليم العلم النافع ودور القرآن، وكذا المساكن للفقراء واليتامى ونحوهم . وكل شيء تبقى عينه فهو من الصدقة الجارية الذي ينفع الله به. فالصدقة الجارية هي وقف، والوقف: هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة لعموم المنتفعين فلا يباع، ولا يورث ولا يوهب وحينما يذكر الوقف فلا ننسى الوقف الأول في الإسلام وقف الفاروق عمر بن الخطاب يقول ابن عمر أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال يا رسول الله: إني أصبت مالا بخيبر لم أصب مالا أنفس عندى منه فما تأمرني فيه فقال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها غير أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث قال فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى والرقاب وفى سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقا غير متمول فيه\" وفى لفظ \"غير متأثل\" متفق عليه . وفي هذا الحديث عدة دلالات لعلها تبقى على ذكر منك فأول ما يلحظ في هذا الوقف أن عمر رضي الله عنه استشار في وقفه ماذا يفعل به وأين يجعله ؟ وهذا هو الذي يتعين على كل من أراد أن يوقف بيتاً أو مزرعة أو غيرها فاستشر طلبة العلم والعارفين بأحوال الناس وحاجة البلد الذي توقف فيه ولا تمش على طريقة الأجداد والآباء السابقين؛ فلكل زمن ما يناسبه فلقد كانت الأضحية والعشاء في رمضان، أو عموماً من أنفس الصدقات . وأما الآن فقد وسع الله على المسلمين فصارت الوصايا بهذه من أكلف الوصايا وأقلها نفعاً وصار الورثة يتدافعونها كل يتنصل منها ويرجو السلامة من مسؤوليتها فالحكمة والنصح للموصي أن يقال انظر إلى ما يكون أكثر حاجة للناس، ووسع دائرة النفع وأعط صلاحية للوصي بتبديل ونقص وزيادة حسب المصلحة بعد المشاورة وقد سمعت مصارف وقف عمر رضي الله عنه فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى والرقاب وفى سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقاً. فاجعل في وقفك مجالا لإطعام الطعام والكسوة في داخل البلد وخارجها . وكذا دعما للمناشط الدعوية وطباعة الكتب والأشرطة والبرامج الحاسوبية النافعة والمواقع الالكترونية الموثوقة . وكذا علاج المرضى وشراء الأدوية وتأمين الأجهزة الطبية لغسيل الكلى أو غيرها ولا حرج عليك أن تجعلها استقلالا أو مشاركة إن قل مالك (ولكل درجات مما عملوا) . فالمشاركة في العمل وإن كان أصل الوقف قائماً، واحتاج إلى توسيع أو تطوير فإن للمشارك ما يرجى لصاحب الأصل، وفضل الله واسع وهذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم لما أراد عثمان (رضي الله عنه) توسيع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن عبيد الله الخولاني: أنه سمع عثمان بن عفان يقول عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم إنكم أكثرتم أي بالإنكار عليه - وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة ) فاعتبر عثمان رضي الله عنه تجديد المسجد وتوسعته داخلا في العمارة وموعودا صاحبه ببيت في الجنة . فطيبيوا نفساً يامن ساهمت في عمارة مسجد أو تجديده على قلة من مالكم أو وفرة . أيها الإخوة: لا يخفاكم أن الأوقاف كي يستمر نفعها فلا بد لها من ناظر ناصح فبعد أن وفقك الله لما وقفته تبتغي بذلك وجه الله فانظر بعد ذلك فيمن يكون ناظراَ يقوم على الوقف بعمارة أو إصلاح إن لزم ذلك، وكذا بجمع دخله وتفريقه واختيار الأنفع من جهات الصرف وهذه الأعمال ليست بالهينة في زمن الأشغال والانشغال فأعينوا أيها الموقفون النظار على نظارتهم وذلك بجعل نصيب من الوقف مقابل النظارة ولا تتكل على احتساب الناظر أو كونه من أولادك الصالحين فالنفوس قد تستشرف لشيء من المال إذا خرجت غلته فاقطع استشرافها بنصيب مجزئ وبالغ فيه ثم الناظر إن استعف أعفه الله وإن أخذ فهو أجرة أحلها الله . الحمد لله فلعلك أدركت أن الصدقة الجارية عامة في كل ما يجري عليك بعد موتك، وكنت سباً في إيجادها، والمساجد تأتي في مقدمة الصدقة الجارية مع ما ورد فيها من الأجر الخاص وأن من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة . فهنيئاً لمن وفقه الله لبناء مسجد فلا يزال الناس يصلون فيه فيأتيه من أجرهم حيث هيأ لهم مكاناً يتعبدون فيه. وإن جلس فيه أحد لقراءة القرآن، أو أقيم فيه درس، أو ألقيت فيه كلمة أو محاضرة، أو وضع فيه طعام للمحتاجين في رمضان أو غيرهم فأجره من هذه كلها لا يعرف قدره إلا مقدر الأجور الذي يعطى ويجزل . والأجر الوارد في عمارة المساجد يشمل أن تكون في داخل البلد أو خارجها شريطة أن يتولاها الثقات عبر الطرق المعروفة . ويشمل أن يكون المسجد جامعاً تقام فيها الجمعة، أو هو للفروض الخمس فقط . ويشمل أيضاً أن يكون المسجد من المساجد التي يكثر المصلون فيها أو يقلون. ومن تمام بناء المساجد وليس شرطاً في حصول الأجر أن يسعى عامر المسجد في إيجاد بيوت تابعة للمسجد قريبة منه تكون عوناً لمن يتولى إمامة المسجد ومئذنته . وإن سعى في إيجاد وقف له دخل يصرف في صيانة المسجد، ورعاية مصالحه فهو نور على نور، وصدقة جارية إلى صدقة جارية . بقى أمر يرد في أذهان بعض الموقفين سواء أو أوقف مسجداً أو عمارة أو بيتاً ؟ يا ترى هل سبيقى هذا الوقف إلى يوم القيامة ؟ فأقول أما بقاء عينه فالله أعلم، والدنيا مبنية على التغير والزوال ! ولهذا لو سألت أين وقف عمر الذي سبقت الإشارة إليه وهو أول وقف في الإسلام بل أين أوقاف الصحابة وما من أحد من الصحابة يستطيع أن يوقف من الصحابة إلا أو أوقف. كلها في عالم الغيب اندرست وجهلت ولكن ذهاب أعيانها لا يعني ذهاب أجورها. فالموقفون على نياتهم وأجورهم ثابتة عند ربهم، وقد سئل شيخنا ابن عثيمين (رحمه الله) أيام هدم الجامع الكبير ما شأن الذين ساهموا في بناء المسجد الأول؟ فكان نص جوابه: أن الذين بنوه يبتغون به وجه الله تعالى، وما وعدهم النبي صلى الله عليه وسلم من الثواب فأجرهم تام، وإن هدم ما بنوه يقول تعالى في المهاجرين الذين حال الموت بينهم وبين مهاجرهم (ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما) ا.ه فالحمد لله على فضله وكرمه في أجره . لنا عودة إن شاء الله للخصلتين العظيمتين (علم نافع، أو ولد صالح يدعو له) .



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 09:28 مساءً الثلاثاء 1 يونيو 1446.