• ×

د.عبدالرحمن الدهش

فراق إلى لقاء

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  891
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

 الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله على كلَّ شيء قدير

ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير ، و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له العليم الخبير .

وأشهد أن محمد عبده ورسوله السراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .

أما بعد :-

فتناقل الناس خبر موت فلان من الناس، وجاءت رسائل الجوال تترى كل يخبر بوفاة ذاك الرجل الذي طالما حدثنا، وبعض من الرسائل تستثبت وفاته ، وهل هو فلان أو هو اسم على اسم !

وفي النهاية ثبتت وفاته، وتحقق الناس من كونه من رجال الآخرة ليس من رجال الدنيا .

وهذه سنة ماضية، وحكمة بالغة (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون).

والأهم بعد هذا ماذا بعد الموت ؟

الموت نقلة لابد منها (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) .

والمؤمن قد فهم مراد الله من الحياة والموت (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) .

المؤمن يعظم الموت بتعظيم الله له، ولكنه يراه أكبر حافز على العمل، وأعظم ناه عن التواني والكسل، من خلال الموت وذكره تطمئن نفسه ويقل تطلعه فيقصر العلقة بالدنيا والأمل.

كيف لا يكون كذلك والموت فرقة إلى اجتماع، و لقاء بعد طول غيبة وانقطاع !

ويذكر عن بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما حضرته الوفاة، كانت عنده زوجته فقالت زوجته : واحزناه، متأسفة على موته!

فكشف الغطاء عن وجهه و هو في سكرات الموت، و قال: لا تقولي واحزناه, و قولي وا فَرَحاه!

ثم قال : غدا نلقى الأحبة، محمدا و صحبه!

وأعظم اللقاء اللقاء بمن طال سيرك إليه، واجنهدت في رضاه، والوصول إليه ) يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه (

ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال سمعت رسول الله r يخطب على المنبر يقول (إنكم ملاقو ربكم حفاة عُراةً غرلا )

يقوم الناس من قبورهم أولهم وآخرهم على هذه الصفة حافية أقدامهم، عارية أجسادهم، غرلا أي: غير مختونين

وتدنو الشمس منهم، فتصهرهم فيكونون في العرق كقدر أعمالهم ، منهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه العرق إلى حقويه ، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً .

وتنشر في ذلك اليوم الدَّواوين وهي صحائف الأعمال ، فيأخذ المؤمنون كتابهم بأيمانهم مستبشرين ، مغتبطين ، ويأخذ الكفارُ كتابهم بشمائلهم أو خلف ظهورهم حزنين خاسرين .

أما المحاسبة فهي بالنسبة للمؤمن عرض فقط ، ومن نوقش الحساب هلك .

وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( سمعت رسول الله r يقول : ( يُدعى المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه ، فيقول : إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى صحيفة حسناته ، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق : هؤلاء الذين كذبوا على الله ) .

وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال قال رسول الله  r (ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان ، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم  ، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة ، وفي رواية ولو بكلمة طيبة) .

ويقيم الله عز وجل على عباده شهداء على أعمالهم من أنفسهم  قال الله تعالى ) اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون (

وتنصب الموازين التي توزن بها أعمال العباد ِ ) فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون (

وهي موازين عدل يتبين فيها رجحان الحسنات من السيئات، أو ضده

فترجح الموازين بالأعمال الصالحة ، وأوَّلُها وأوْلاها شهادة ألا إله إلا الله، فمن أتى بها وحققها، طاعة لله فعلاً لما أمر الله، وتركاً لما نهى الله فحَرِيٌّ أن ينجو بتوحيده، ويخلص بإخلاصه .

وحدَّث النبي r أصحابه قصة الرجل الذي يؤتى به على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، وينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً ، كلُّ سجل مدَّ البصر، وهو لا ينكر من هذه السجلات شيئاً ، حتى إذا ظنَّ أنَّه هلك تخرج له بطاقة كتب فيها (أشهد ألا إله إلا الله ، وأنَّ محمداً رسول الله)

ثمَّ توضع في الميزان فتطيش تلك السجلات ، وتثقل البطاقة ([1]) .

وقال النبي r ( ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق )

وفي الصحيحين عن النبي r ( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله ، وبحمده ، سبحان الله العظيم)

    )فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره (

ويحاسب الله الخلائق في ذلك اليوم فلا تظلم نفس شيئاً .

وأول ما يحاسب عليه العبد صلاته، فإن كانت صالحة أفلح ونجح ، وإن كانت فاسدة خاب وخسر، ويقضى بين الخلائق فتردُّ المظالم إلى أهلها من حسنات الظالم، فإن لم يبق شيءٌ من حسناته أخذ من سيئات المظلوم، فطرحت عليه ثم طرح في النار .

نعوذ بالله من الخذلان !

تؤخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليك !

يطرح عليك من سيئات تفريطه بالواجب، ووقوعه في المحرم!

هل تقوى بعد هذا على ظلم أحد ؟

اللهم إنا نسألك السلامة من حقوق عبادك، و النجاة من ظلمهم.

الحمد لله ....      أما بعد:-  

فهنالك الصراط ، وهو الجِسرُ المنصوب على متن جهنم ، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم ، فمنهم من يمر كلمح البصر ، ومنهم من يمر كالبرق ، ومنهم من يمر كالريح ، ومنهم يمر كالفرس الجواد ، ومنهم من يمر كركاب الإبل ، ومنهم من يعدو عدواً ، ومنهم من يمشي مشياً ، ومنهم من يزحف زحفاً ، ومنهم من يخطف خطفاً ، ويلقى في جهنم.

ودعوى النبي r في ذلك اليوم ( اللهم سلِّم سلم ) .

وفي عَرَصات يوم القيامة الحوض المورود للنبي r طوله شهر، وعرضه شهر، ماؤه أشد بياضاً من اللبن ، و أحلى من العسل ، وريحه أطيب من المسك ، آنيته كنجوم السماء في كثرتها ، وحسنها ، من شرب منه لم يظمأ بعدها أبداً ، فيرد عليه المؤمنون من أمته r غراً محجلين من آثار الوضوء ، ورسول الله r قائم عليه ينظر من يرد عليه من أمته ، فيذاد عنه أناس ، فيقول النبي r أمتي ؟ أمتي ؟

فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ؟

ما زالوا يرجعون على أعقابهم .

وفي هذا أبلغ التحذير من التبديل ، والرجوع على العقب، واستبدال ما شرع الله بما يهواه الإنسان، أو يريده بعض الناس، و ركوب موجة التغريب، والانسياق نحو كل جديد ولو كان نقصاً في الدين، واستجابة لدعوة المفسدين، و استفزاز الشاطين .

ثم بعد عبور الناس على الصراط، يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتص لبعضهم من بعض ، وإذا هذِّبوا ، ونقُّوا أذن لهم في دخول الجنة ، فلا يدخلونها إلا بعد التهذيب والتنقية كما قال تعالى ) طبتم فادخلوها خالدين (

)ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخواناً على سرر متقابلين ( .

قال النبي r ( حتى إذا هُذِّبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنْزله كان له في الدنيا )  رواه البخاري

وأوَّل من يستفتح باب الجنة محمد r ، وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته إكراماً له، ولأمته ، فهم الآخرون السابقون يوم القيامة .

أما الجنة فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال يا محمد أقرأ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان غراسها سبحان الله والحمد لله ولا اله إلا الله والله أكبر) رواه الترمذي وحسنه الألباني

اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول …  ([2]) .

 

 


([1]) رواه أحمد (2/213) ، الترمذي (5/25) .

([2]) ينظر: الضياء اللامع (1/70) ، شرح العقيدة الواسطية من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية (142  و ما بعدها ) ، ماذا بعد الموت ، للرعوجي .   



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 09:22 مساءً الثلاثاء 1 يونيو 1446.