• ×

د.عبدالرحمن الدهش

آية الرياح

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  1.1K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول ، لا إله إلا هو إليه المصير .

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير .

صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيراً .

أما بعد :-

فتتوالى النذر ويري الله آياته عباده في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق وأنَّ ما يدعون من دونه هو الباطل، وأنَّ الله هو العلي الكبير .

ومع توالي هذه الآيات وتنوع صروفها تبقى طائفة من عباد الله كما قال تعالى (وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون) (وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون)

عباد الله : إن شأن ما يحدثه الله في هذا الكون من أمور تخرج عن مألوف الناس وما اعتادته حياتهم شأن عظيم .

لا يدركه إلا من ملأ قلبه بعظمة الله، وتشربت نفسه الإيمان بكمال قدرته، وأيقن أنَّ كل دقيق و جليل هو منطوي على أمر الله وحكمته (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون)

(وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار)

لقد ذكر الله الرياح في كتابه بأوصاف عديدة فمن الرياح ما تكون بشرى بين يدي رحمة الله بعباده (وهو الذي يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته)

فالرياح تثير السحاب فينتشر في السماء (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء)

ثم لا تدع السحاب حتى تلقحه فينزل المطر بإذن الله (وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه).

فللمطر خمسة رياح : ريح ينشر سحابه وريح يؤلف بينه وريح تلقحه وريح تسوقه حيث يريد الله وريح تفرقه .

ثم من ريح الخير ما يكرم الله بها أولياءه وبعض أنبيائه فتكون قضاء لحوائجهم وعوناً في أمورهم (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره)

(ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر)

بل تعظم المصلحة في الرياح حتى تكون سبباً لنصر أولياء الله وخذلان أعداء الله يقول النبي صلى الله عليه وسلم (نصرت بالصَّبا وأهلكت عاد بالدبور) والصَّبا هي الريح الشرقية ، والدَّبور هي الريح الغربية .

ففي غزوة الأحزاب التي جعلها الله فيصلاً بين المسلمين والكافرين والنبي صلى الله عليه وسلم يقول بعدها : اليوم نغزوهم ولا يغزوننا .

يقول الله في هذه الغزوة (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً)

فلم تبق الريح للمشركين خيمة إلا قلعتها ولا بناء إلا أزالته ولا قدراً إلا كفأته ولا ناراً إلا أطفأتها .

حتى جعل أبو سفيان وهو قائد معسكر المشركين ينادي: يا معشر قريش : إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقينا من هذه الريح الذي ترون ، والله ما يطمئن لنا قدر ، ولا تقوم لنا نار ، ولا يستمسك لنا بناء فارتحلوا فإني مرتحل .

وبالجملة يا عباد الله : فحياة ما على الأرض من نبات وحيوان بالرياح ، فإنه لولا تسخير الله لها لعباده لذوى النبات ومات الحيوان وفسدت المطاعم وأنتن العالم وفسد، ولهذا يخبر الله عن رياح الرحمة بصيغة الجمع لاختلاف منافعها ، ومن حكمته أنَّ الرياح قد تتعدد مهابها فتنكسر حدتها وتخف سورتها فتبقى لينة رقيقة على ما تمر به .

يحبسها الله سبحانه إذا شاء ويرسلها إذا شاء تحمل الأصوات إلى الأذان والرائحة إلى الأنوف والسحاب إلى الأرض الجرز وهي من روح الله تأتي بالرحمة وهي من أقوى خلق الله كما رواه الترمذي في جامعه من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال عليها فاستقرت فعجبت الملائكة من شدة الجبال وقالوا يا رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال ؟ قال نعم الحديد قالوا : يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الحديد ؟ قال نعم النار قالوا : يارب فهل من خلقك شيء أشد من النار ؟ قال : نعم الماء قالوا : يارب فهل من خلقك أشد من الماء ؟ قال نعم الريح قالوا : يارب فهل من خلقك أشد من الريح ؟ قال نعم ابن آدم تصدق بصدقة بيمينه يخفيها عن شماله ) ورواه الإمام أحمد في مسنده ، وفيه ضعف إلا أنه صحيح بمعناه .

أما ريح العذاب فهي ريح توحدَّت في جهة هبوبها وفي قصدها فهي مرسلة لا تلوي على أحد (فيرسل عليكم قاصفاً من الريح فيغرقكم بما كفرتم)

فريح العذاب ريح عقيم، تكون عاصفا قاصفا، صرصرا عاتية ، يسلطها على من حقَّت عليه كلمة العذاب .

أهلك الله بها عادا الذين كذبوا الرسل وقالوا من أشدُّ منا قوة فقال تعالى في عقوبتهم : (إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر) أي جذوع النخل الخاوية .

ولقد بلغت عاد في الأمن من مكر الله مع إصرارهم على سبب العقوبة ما حكاه الله بقوله (فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين)

والمقصود أن الرياح من أعظم آيات الرب الدالة على عظمته وربوبيته وقدرته .

واسمع عجباً من القصص ففي صحيح مسلم (ج 4 /1784) عن أبي حميد قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك حتى قدمنا تبوك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ستهب عليكم الليلة ريح شديدة فلا يقيم فيها أحد منكم فمن كان له بعير فليشد عقاله فهبت ريح شديدة فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طئ في شمال الجزيرة .

أو تشك بعد كل هذا أن الرياح من جنود الله وصدق الله العظيم وما بعلم جنود ربك إلا الله .

فعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة في السماء - والمخيلة : السحابة يخال فيها المطر - أقبل وأدبر ودخل وخرج وتغير وجهه فإذا أمطرت السماء سري عنه فعرفته عائشة ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما أدري لعله كما قال قوم عاد (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم  الآية ) متفق عليه .

ومعنى قوله (سرِّي عنه) أي : زال عنه ما خالطه من الخوف والوجل .

فأصحاب القلوب الحية يخافون ربهم ويشفقون من ذنوبهم والله تعالى يقول (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) .

أقول قولي هذا ....

الحمد لله ...    أما بعد:-

فإنَّ أيامكم هذه أيام رياح يشتد هبوبها ويخف، تكون باردة حيناً ودافئة حينا آخر وبين ذلك أحياناً أخرى تحمل الغبار والرمال، وقد تغطي الأرض بظلمتها حتى لا يستطع الإنسان معها أن يرى ما بين يديه، بل هو مضطر لإغماض عينيه .

فتضيق بالناس الحيلة أين يذهبون ؟

فحينئذ يدرك العاقل ويوقن المؤمن ألا ملجأ من الله إلا إليه.

فلو زادت عن حدها بمقدار أو طالت في زمنها للحق الناس ما الله به عليم فلا إغلاق نوافذ يمنع ولا لباس كمام أنف يدفع ولا جلوس تحت المكيفات يرفع .

ومن الذي ينصب نفسه ويعمل أسبابه ليقاوم قدرة الله .

 (ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون)

واعلموا أن هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم عند هبوب الرياح ما حدَّثت به عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشرما فيها وشر ما أرسلت به)

واحذروا مسبة الرياح ولو كان الإنسان مازحاً، أو تناقل نكت السفهاء الشامتين حينما يقولون:يستغيث الناس فيأتيهم العجاج  والتراب!

فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تسبوا الريح، فإنها من روح الله تأتي بالرحمة والعذاب، ولكن سلوا الله من خيرها وتعوذوا بالله من شرها)

رواه ابن ماجه، و قال الشيخ الألباني : صحيح

وعن ابن عباس أن رجلا نازعته الريح رداءه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلعنها فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تلعنها فإنها مأمورة وإنه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه)  رواه أبو داوود ، قال الشيخ الألباني : صحيح .

فتأدبوا بأدب الله واتعظوا بآياته ، وتذكروا بهذه الرياح التي قد تؤذي بأذية محدودة تذكروا دخان آخر الزمان الذي قال فيه (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) .

وجاء في وصف هذا الدخان أنه يغشى الناس فأما المؤمن فيصيبه منه كالزكام، وأما الكافر فينفخه حتى يخرج من منخريه وأذنيه ودبره .

وتذكروا أيضاً دخان نار جهنم حين يغشى الناس ويعمهم .

 فاللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلِّها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة .

أيها الإخوة: يستغيث الناس ربهم طلباً للماء الذي جعل الله عماد الحياة عليه (وجعلنا من الماء كل شيء حي) .

وهاهو موسم الأمطار يوشك أن ينتهي ولم تمطر كثير من نواحي البلاد بشيء يذكر!

ولله في ذلك حكمة، فاللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت .

والمؤمن يتهم في مثل هذه الأحداث نفسه، ويعود عليها بالمحاسبة !

كيف؟

ونحن نرى أموراً وخللاً وإخلالا بأشياء كثيرة هي من أسباب فوات رغد العيش، ومدعاة لسلب النعمة، وتغيير الحال إلى ضدها حينما لم نقم بتقييدها بشكرها، ودفع أسباب زوالها ، أصلح الله أحوالنا رعاة ورعية .

ليس العطاء دائما دليلاً على الرضا لاشك، ولهذا كثير من بلاد الكافرين عجلت لهم حسناتهم فبلادهم بلاد الأمطار والأنهار .

ولكن أيضاً من أسباب المنع هي المعاصي والإعراض عن طاعة الله ثم الاعتقاد أن هذه الأمطار مربوطة بسنن كونية لا علاقة لها بالطاعة والمعصية، ولهذا انصرفت متابعة بعض الناس إلى كلام أهل الأرصاد والفلكيين، وماذا قالوا ؟

وغفلوا عن بديع خلق الله، وقوة سلطانه حينما جعل للأشياء الحسية أسباباً شرعية .

فالموفقون فهموا هذا، واتسعت قلوبهم أن الشرع لا ينافي الكون (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) .

(ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) فبركات السماء والأرض من أسبابها الإيمان والتقوى .

فأين المجادلون في الله وهو شديد المحال!

فسبحان الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً!

وإن النظر فيما قاله الفلكيون هو نظر في علم علمهم الله إياه، وهو علم محدود في مكانه وزمنه كما يعترف بذلك الفلكيون أنفسهم، وهو ظنون غالبة، والله غالب على أمره!

ولهذا يعبرون عنها بتوقعات .

وقد شهد الناس صدق توقعاتهم وخطأها، وإصابتها ومجيء عكسها .  ليبقى علم الله وتقديره قدرا مقدوراً .

 

 



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 09:12 مساءً الثلاثاء 1 يونيو 1446.