• ×

د.عبدالرحمن الدهش

شأن القدوة

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  916
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

الحمد لله رب العالمين ...

أما بعد :-

فجبل الله الناس يتطلع بعضهم لبعض ، ويأخذ بعضهم من أخلاق بعض ، وربما ردد كلماته من بعض كلمات اكتسبها ، بل ها هي أفعاله تحاكي أفعال خل يوده ، وصديق بأنس بصداقته لماذا ؟

لأن الإنسان مفطور على حب التقليد، وكثيرًا ما يكتسب معارفَه وخبراته ومهاراته بالتقليد والمحاكاة .

بل إنَّ التقليد والإقتداء جزء لا يهمل من عملية نموه وتطوره ألا ترى إلى الطفل كيف يحاكي أباه ويتقمص شخصيته؛ فهو يلبس نعله، ويأخذ جواله وعقاله، لأن التعلم بالرؤية والمشاهدة أسهلُ وأيسر بل وأسرع، والنفس بطبعها تحبّ الحصولَ على الشيء بأسهل الطرق وأسرعها .

إنَّه لا يكمل للإنسان تدينه ولا يقبل منه عمله إلا يكون مقتديا بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم

(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر)

(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعون يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم)

بل إنَّ من جعله الله قدوة للعالمين أمره أن يقتدي بمن سبقه من المرسلين (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل)

وقال تعالى (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ)

(ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين)

فالقدوة الحسنة ركن هامّ في كل مجتمع، فمهما كان أفراده صالحين متعلمين فهم في أمس الحاجة لرؤية القدوات ، وحينما يتطاول الزمن يحتاج الناس إلى قدوات يرونها في أوساطهم ويقابلونهم في مجتمعاتهم ومساجدهم بل وأسواقهم.

فالفضائل المنقولة ، والأخلاق المسطرة تبقى آثارها محدودة فيمن وقف عليها ، ولهذا اقتضت حكمة الله  إرسال الرسل من البشر؛ ليكونوا منارات هدى وقدوات حسنةً لأممهم ، فهم التطبيق العملي لشرع الله في كل عصر، وتطبيقهم حجةٌ على العباد ودليلٌ على واقعيةِ الشرع .

ولهذا تشمر النفوس للتأسي بالقدوات المرئية فهي ترى الصدق في أفعالها والتدين في هديها ، والوقار في سمتها ودلها .

وتأمل معي !!

تأمل دليلا على أثر القدوة ما وقع من الصحابة في يوم الحديبية ، ففي صحيح البخاري قال عمر : فلما فَرغ من قضية الكتاب ـ أي: بنود الصلح ـ قال رسول الله  لأصحابه: (قوموا، فانحروا ثم احلقوا) ، قال: فوالله، ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: يا نبيّ الله، أتحبّ ذلك؟ اخرُج لا تكلّم أحدًا منهم كلمةً حتى تنحر بُدْنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلّم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدْنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضُهم يقتل بعضًا غمًّا " .

مبادرة تامة ومسابقة في التنفيذ لم تحدثها كلمات الحث إلا لما رأوا القدوة لهم أول المبادرين .

هذا في جيل الصحابة ، وهم الصحابة رضي الله عنهم !!

أيها الإخوة : القدوات كغيرها من الطاقات تتوفر في زمن وتقل في آخر حتى تبلغ القدوة مبلغ الأزمة ، ويصبح الرجل القدوة عملة نادرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة "

فتشتد الحاجة إلى القدوة كلما بَعُد الناس عن الالتزام بقيم الإسلام وأحكامه، وتتأكد الحاجة حينما يكب الناس على الدنيا ، فهي حديثهم ، وهي محل تعاونهم وتقاربهم وتباعدهم ، وتصبح أمور الآخرة في معزل عنهم .

أيها الإخوة : ما منا معاشر الحاضرين إلا وهو قدوة لمن تحته قلوا أو كثروا ، كبرت قناعتهم به أو قلت .

ولنبدأ بعميد الأسرة ورب البيت فأنت أيها الأب الموفق  قدوة لأفراد البيت ذكورهم وإناثهم صغيرهم وكبيرهم فكيف تُرِي أفراد البيت نفسك ؟

فأعظم ما ينقل عنك وتقلد فيه هو تعظيمك لأمر الله فأفراد البيت معظمون لأمر الله ما عظمته أنت في نفسك فإن رأوا من أبيهم وقوفاً عند الطاعة حرصاً على الصلاة في الجماعة فأفراد البيت لا يقوى أحد منهم على تكاسل عن الجماعة وهو يرى الدرس العملي في بيته مرات عديدة .

ثم إن وفق رب البيت فعمر بيته بشيء من الذكر والصيام ومدارسة العلم ، ونوافل الصلاة والقيام فنعم الأب هو !!

وقل مثل هذا حينما يرون في أبيهم انتقاء في رفاقه فهو لا يصاحب الفاسقين ويتحرج من مجالس المغتابين فلا يخوض مع الخائضين، ولا يقع في لمز الصالحين، ولا يتفكه في التندر بأمور الشرع والدين .

يرونه متمثلاً قوله تعالى (ما يلفظ من قوله إلا لديه رقيب عتيد) .   

ويرون في أبيهم القدوة الصالحة في صلة أرحامه والقرب من أقاربه والإحسان إلى معارفه فتهون على أبنائه الصلة من بعده ومعه .

حينما يرون هذه المعاني الفاضلة في أبيهم فحينها طابت القدوة و حلَّت البركة، وتحولت عاداته إلى تربية و دعوة .

 

عباد الله : يقول الله تعالى (أفمن كان مؤمناً كمن قام فاسقاً لا يستوون) ، (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار)

فالأب الذي ألقى أمور بيته ومسؤوليته على من فيه فلا يراه أبناؤه إلا على أسوأ حال فهو الغضوب الساب الشاتم ، دروسه لأبنائه تخلف عن الصلاة إن صلَّى عكوف على محرمات ومشاهدات وربما ناله حظ الشيطان فهو يعاقر مخدراً أو يشرب مسكراً .

أما دروسه في معاملة أمهم وملاذهم الحاني فهو الوعيد بالطلاق المرات العديدة في اليوم الواحد، والتهديد بالطرد والتضييق ، والتقتير في إعطاء النفقة الواجبة   

حياة يؤس وبيت جحيم، ولكنها شجاعة عند قوم وقوة في الشخصية .

أيها الإخوة : إنَّ من رجالات القدوة الذين هم محل عناية طائفة من الناس المعلمون الذين يصبح الأبناء على رؤيتهم ويبقون زهرة اليوم في رعايتهم ، فالمعلم الذي يبدي تململاً وتثاقلاَ من عمله أمام طلابه يخلق فيهم روح التفلت من المسؤولية وعدم المبالاة في إنجاح رسالته التعليمية، فإن أتبع ذلك بسيئ لفظ ومزاجية عصبية ، وتحدث بفحش قول واهتماماته الدنية الشخصية فما أقبح أثره وأسوأ حاله ، وأتعس بالجيل الذي سوف يخرج من بين يديه .

وهكذا شأن الموظف المتساهل في إنجاز عمله والمفرط في ساعات دوامه ، المتفنن في عرقلة معاملاته وتعطيل مراجعيه يكون فتنة في منصبه وأذية في دائرته وقدوة سيئة  لمن حوله من زملائه ومن لهم رجوع إليه .

فاللهم أرنا الحق حقاً ...

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أما بعد :-

فإن من عباد الله من صاروا مباركين على أنفسهم وعلى من يتصل بهم فهم قدوات خير في مجالاتهم بل بلغ خير بعضهم أن اهتدى على يديه فئام من الناس ، ولا ننسى ذلك الكفيل الذي حمل مكفوليه على أطايب القول والعمل فمكفولوه يسابقون الناس إلى المساجد ترك بعضهم الدخان وربى بعضهم لحيته ، ومنهم الصائم القائم وهو لم يتكلم معهم بكلمة بقدر ما أثر فيهم بخلقه وخوفه من ربه .

ومع هذا أعانهم على دينهم ، ولم تتعطل منهم مصالح دنياه.

أيها الإخوة :

نحن في زمن طرحت فيه خفافيش من البشر لتكون قدوات لأبنائنا، ولعبت وسائل الإعلام وقنوات الرذيلة دوراً آثماً في ذلك حينما غالطت شبابنا وشاباتنا فيمن يستحق أن يقتدى بهم فعرضت سقط الناس من الممثلين والمغنين المخنثين ولاعبي الكرة من الكافرين والمتشبهين بهم عرضتهم على أنهم رموز للناس .

وأصبحت الشهرة وكثرة المتابعين، وصور السلفي التي التقطها مع عدد من المسؤلين هي مقياس القدوة !

ومع هذا فبعض هؤلاء مع السوء الذي يبدونه والتفاهة التي يعرضونها في سناباتهم وغيرها عند بعضهم ما هو أسوأ منها من إضاعة للصلاة وتقصير في حق والديه، وفشل متعمد في دراسة أو وظيفة!  والإناء إنما ينضح بما فيه .

والشباب تبنى أمورهم على البساطة، وربما السذاجة إلا من وعى قلبه، فالإعجاب يقودهم إلى محبة بعض هذه النوعيات من البشر فيعبر المخدوع من هؤلاء عن إعجابه بتقليد من أعجبه بالمظهر واللباس ، في غفلة من وليه أو تغافل ويبخل الولي من أب أو غيره بكلمة يعبر فيها عن خطأ هذا المنهج الذي يسلكه ذلك الشاب .

والكلام على تجاوزات أبنائنا الشباب يطول ويسوء .

ولكن الكلمة الناصحة الصادقة لا يعذر من منعها مستحقها بحجة أنها لا تنفع . بل – والله - إنها تنفع !!

ومن نفعها أن تبقى ثقلاً في قلب ذلك المقصر لعله يتذكر ولو بعد حين أو يخجل ، ومن أعظم نفعها أن تحدث عنده تردداً فيما يقدم عليه، وإن لم يقلع عن سيئ حاضر !! 

أيها الأولياء والمربون:

ألا فلنعد علاقتنا بأبنائها ولنحذرهم من قدوات التميع والانحلال كما كنا ولا نزال نحذرهم من قدوات الغلو والانغلاق .

ارفعوا همم من تحت أيديكم بتبصيرهم  بأسافل الأمور والطيش الذي يحذر، وبيان من هم نجوم المجتمع بحق، وقدوات الناس وأن شرط ذلك العقل والدين .

فاللهم أصلح لنا ذرياتنا ...

 



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 07:47 مساءً الخميس 19 مايو 1446.