الحمد لله . أما بعد :-
فإن القلوب تمل كما تمل الأبدان فبعد تعب وجهد وعناء تميل النفوس إلى التجديد والتنويع، وترنو إلى الترويح واللهو المباح دفعاً للكآبة ورفعاً للسآمة ليعود العبد إلى ميدان عمله بهمة جديدة، ويرجع العامل إلى مصاف عطائه بنفس راضية، وهمة عالية .
عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ آخَى النَّبِيُّ r بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً : فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ ؟
قَالَتْ : أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا،
فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ : كُلْ قَالَ : فَإِنِّي صَائِمٌ ، قَالَ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ ، قَالَ فَأَكَلَ
فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ نَمْ فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ ، قَالَ سَلْمَانُ قُمِ الْآنَ ، فَصَلَّيَا
فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ : \" إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ \"
فَأَتَى النَّبِيَّ r فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ r صَدَقَ سَلْمَانُ ) رواه البخاري .
هنا يبين الإسلام عن مراعاته لحاجات الإنسان النفسية ومتطلباته الروحية .
الإسلام دين السماحة واليسر يساير فطرة الإنسان وحاجاته، فحين شاهد النبي r الحبشة يلعبون قال «لتعلم يهود أن في ديننا فسحة إني أرسلت بحنفية سمحة» رواه أحمد.
أيها الإخوة : لسنا بحاجة إلى كثير قول في دعوة النفوس إلى الترويح واللهو المباح فمحبة الانبساط والتخلي عن روح الجد أمر فطر الله الناس عليه وهو من مقتضى ضعفهم في أبدانهم وعقولهم والمترفع عن الهزل في وقته كالهازل في وقت غير وقته .
وخير الهدي للمسلم في جده وهزله هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه
كان رسول الله يداعب أصحابه حتى تعجب الصحابة من مداعبته لهم وقالوا : يا رسول الله إنك تداعبنا ؟ قال: (إني لا أقول إلا حقاً ) رواه الترمذي .
والنصوص الشرعية فيصل في بيان أن هذا الدين وسط وأن التوازن في حياة المسلم مطلب قال تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا).
نعم أيها الإخوة : إن الموازنة مطلوبة بين سائر الحقوق والواجبات، فها هو الإسلام يراعي الإنسان عقلاً له تفكيره وجسماً له مطالبه ونفساً لها رغباتها وشهواتها.
فلم يصادم الشرع هذه المتطلبات مجتمعة ولا متفرقة .
قال ابن مسعود t: ( كان النبي r يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السامة علينا ) متفق عليه.
لأن السآمة والملل يفضيان إلى النفور والضجر .
وعن جندب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( اقرؤوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه)
فقوله (ما ائتلفت قلوبكم) أي ما دمتم نشطين وقلوبكم حاضرة وخواطركم مجتمعة .
(فإذا اختلفتم فقوموا عنه) أي إذا اضطرب فهمكم لمعانيه بسبب الملل فاتركوا القراءة حتى يذهب عنكم ما أنتم فيه.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت عندي امرأة من بني أسد فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من هذه ؟ . قلت فلانة لا تنام بالليل تذكر صلاتها فقال ( مه عليكم ما تطيقون من الأعمال فإن الله لا يمل حتى تملوا) متفق عليه .
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ( تحدثوا بكتاب الله وتجالسوا عليه وإذا مللتم فحديث من أحاديث الرجال) .
وهذا إمامهم وقدوتهم محمد r يقول: ( يا حنظلة ساعة وساعة ) رواه مسلم .
والناظر في هدي السلف من الصحابة مع نبيهم صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم يدرك كيف فهموا الترويح عن النفس ؟
فهاهم يروحون عن أنفسهم فلا يتجاوز أحدهم حدود الشرع، بعيداً عن المحرمات أو المكروهات، لم يكن ترويحهم هدفاً لذاته فيتنادون له الساعات الطوال، والأيام تلو الأيام، ويحيون له الليال بل كان ترويحهم بمقدار، كان وسيلةً لتجديد الهمة مع تصحيح النية لعمل أفضل وإنتاج أكمل فأوقاتهم محفوظة، وساعات أعمارهم هم أشح بها من الدينار والدرهم .
فإذا جَدَّ الجِدُ كانوا هم الرجال كما ثبت من فعلهم أنهم كانوا يتبادحون - أي يترامون - بالبطيخ فإذا جد الجد كانوا هم الرجال.
وقال عمر بن الخطاب t :\" كان القوم يضحكون والإيمان في قلوبهم أرسى من الجبال\"
ترويحهم وضحكهم وسمرهم وسفرهم وترفيههم لا يضعف إيمانهم ولا يفسد أخلاقهم، لا يتعدى وقتُ الترويح على أوقات الصلاة ولا يقضي على ذكر الله وصلة الرحم و عموم الطاعات.
أولئك هم الرجال (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار)
كانوا يروحون عن أنفسهم بعيداً عن سهر في ليل طويل، وسمر فارغ هزيل، يخل بحقوق كثيرة ومنها حق الجسم وحق الأهل وفوق ذلك حق الله تعالى وتبارك.
فسيرهم وتاريخهم نرى عدم الإفراط في استهلاك المباح لعلمهم بأن المهمة الكبرى للإنسان هي عبادة الله ولأن الوقت ثمين ومن منهج الإسلام عدم الإفراط في كل شيء حتى ولو كان في الصوم والصلاة والجهاد فكيف باللهو والترويح، كل ذلك حتى لا تُضَّيع الحقوق الأخرى يقول النبي r لعبد الله بن عمرو رضي الله عنه : (صم وأفطر، وقم ونم ، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً ، وإن لزوجك عليك حقاً ، وإن لزورك أي : ضيفك عليك حقاً ) رواه البخاري .
الحمد لله رب العالمين.
يستقبل أولادنا ومعلموهم غدا أسبوع إجازة: فتأمل حديثاً عظيماً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لتكون على بينة من أمرك واستعداداً لنقلتك يقول r: \" لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ما له من أين اكتسبه وفيما أنفقه \"..
فاستشعار ذلك عباد الله - يجعل للحياة قيمة أعلى ومعنى أسمى.
بتأمل هذا الحديث ترتفع الهمة من أن يحصرها المرء في دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها أو منصب يطلبه أو رفاهية ينشدها أو مال يجمعه حتى إذا انتهى راح يطلب المغريات الكاذبة، كلا ليس الأمر كذلك فالله عز وجل يقول : \"وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون \" ، ويقول سبحانه: \" أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون\" .
كيف وقد أنعم الله علينا بالأمطار، ورطوبة الجو، فانتعش الناس، واستبشروا بخير من ربهم.
ثم جلل كل هذا الأمن على الأنفس والأموال والأعراض أمن سابغ، وطمأنينة تامة فلا حروب ولا قلاقل (بلدة طيبة ورب غفور)
ألا فلنحفظ أمننا بطاعة ربنا، وقيامنا بشرعنا، ورعاية أسرنا، ومناصحة من ولاهم الله أمرنا، بالأخذ على أيدي سفهائنا.
فالترويح يخرج عن دائرة المباح، ويخشى عقوبته إذا ضيعت بسبه الصلاة نوم عن صلاة الفجر وربما عن صلاة الظهر أوالعصر .
والترويح يخرج عن دائرة المباح إذا ضيع الإنسان فيه بناته وصرن يأتين ما شئن من الأماكن والحدائق إلى ساعات الليل المتأخرة.
وليس الترويح مباحاً بحضور الأماكن المختلطة، وإجابة كل ناعق يستنفروا بيوتنا، ويقود أولادنا، ويزاحمنا قوامتنا .
أما أنتم يا أبنائي الشباب فليس الترويح مباحاً في حقكم بالألبسة الضيقة والبناطيل والتميع بالمساحيق .
فتخلوا بمروءتكم وتتخلوا عن رجولتكم فيسر بحالكم العدو ويشمت بكم الحاسد .
فاعرفوا أين تضعون أقدامكم ولا تتقبلوا كل ما تتقيؤه وسائل الإعلام، وقنوات الرذيلة وأعداء الفضيلة .
أيها الآباء: ليس من الترويح في شيء أن يمكن الأبناء على صغر سنهم من السيارات أو الدبابات فيهلكوا أنفسهم، ويحصدوا أنفساً بريئة بتهورهم.
وفي حوادث الأيام الماضية القريبة عظة وتنبيه.
فهل عُمِّي علينا فلا نعرف أن نسعد أبناءنا إلا بما يضرهم، أو يضرون به غيركم.
ألا إن هذا نكران للنعم الله وجريمة تنذر بالشؤم والخطر .
والدنيا من حولنا تموج بالحروب، والزلازل ومؤنة العيش، وكلفة الحياة
فاللهم إنا نعوذ من زوال نعمتك وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك وجميع سخطك.
اللهم احفظ شبابنا من تضييع أمر ربهم واجعلهم قرة عين لأمتهم وحماة لعقيدتهم .
للاستماع للخطبة من هنا