الحمدلله جعل الغنى والفقر،وأمر بالصلاة والصبر فاضل بين عباده في حظوظِ الدنيا،وحظوظِ الآخرة،وأعظم الأجر
وأشهد ألا إله الا الله ذو العظمة والقدر وأشهد أن محمداً عبده ورسولله رفع الله ذكره وشرح له الصدر صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ماسجى الليل وانبثق من بعده الفجر اما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا ان الغنى الحقيقي ان تستغني بقلبك وترى فضل الله في نفسك وأهلك ومالك،في صباحك ومسائك فلا يزال حالك ومقالك يقول:اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لاشريك لك فلك الحمد ولك الشكر (رواه أبوداود وحسنه ابن القيم، وابن حجر، المحتار ص 41) .
وإن مما فقده كثير من المسلمين وخلت منه ديارهم وبيوتهم،وأفلست منه أنفسهم هو الرضا بما أعطى الله والقناعة بما قسمه له مولاه
فتطلعت الى المزيد من حظوظ الدنيا،مغترة بزهرتها،غافلة أو متغافلة عن حقيقتها وماهذا إلا ثمرة ونتيجة عن بعدها عن دينها وعدم قبولها تعاليم ربها
فالقناعة -ياعباد الله- هي الرضا بما قسم الله من أسباب العيش والأخذ بما تيسر من أمورالمعاش في مأكل ومشرب ومسكن وملبس.
لايرى أحدا أفضل منه في ذلك, وإن القناعة نعمة من الله تمتلأ بها بعض النفوس وتخالط بعض القلوب،فيصبح بها الإنسان غنياً وإن قلّ ماله، ثرياً مع خلو يده كما قال النبي صلى الله عله وسلم (وليس الغنى عن كثرة العرض،ولكن الغنى غنى النفس) متفق عليه
ولقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أباهريرة فقال له : (ياأباهريرة،كن ورعاً تكن أعبدَ الناس،وكن قنعا تكن اشكر الناس) إسناده حسن رواه ابن ماجه
وفي صحيح مسلم أن رجلا أتى عبد الله بن عمرو بن العاص – كأنه يشكو فقره- فقال هذا الرجل ألسنا من فقراء المهاجرين،فقال له عبد الله ألك امرأة تأوي إليها؟ قال نعم،قال ألك مسكن تسكنه قال نعم، قال فأنت من الأغنياء قال:فإن لي خادما قال:فأنت من الملوك) وعن ماقاله عبد الله بن عمرو لهذا الرجل لمنطلق من مشكاة النبوة فقد روى الترمذي عن عبدالله بن محصن- وهو حديث حسن- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) هكذا تكون القناعة من هذه الدنيا الفانية،فمن حصل الأمن في سربه يعني في نفسه وقيل في قومه ، ليس به مرض يقلقه ولا عاهة تعيقه فهو معافى في جسده
عنده القوت الذي يكفيه ليومه الحاضر أما يومه المستقبل فان قدّر الله مجيئه جاء رزقه معه فمن كانت هذه حاله فكأنما حيزت أي جُمعت له الدنيا كلها وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: (عرض عليّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا قلت:لا يارب،ولكن أشبع يومًا وأجوع يومًا فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك،وإذا شبعت شكرتك وحمدتك) رواه الترمذي بإسناد حسن
وبعد هديه صلى الله عليه وسلم لقوله فاسمع –يارعاك الله- إلى هديه الفعلي وكيف كان تقلله من الدنيا؟ كيف، وهو الذي يدعو ربه (اللهم اجعل رزق آلِ محمدٍ قوتًا)أي:مايكفي الحاجة بلا زيادة
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: إنا لننظر الهلال والهلالين، وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نارٌ ، فقيل:ماكان يعيشكم قالت:الأسودان التمر والماء! .
وقالت:ما أكل آل محمد صلى الله عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر.
ودخل عمر رضي الله عنه يومًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده مضطجعًا على حصير ليس بينه وبينه فراش قد أثر الحصير في جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر: فرفعت بصري في بيته فوالله مارأيت في بيته شيئا يرد البصر،ونظرت في خزانته فإذا بقبضه من شعير نحو الصاع.
قال عمر:فبكيت، فقال مايبكيك؟
فقلت:يارسول الله،إن كسرى وقيصر فيماهما فيه، وأنت رسول الله، ادع الله فليوسع على أمتك.
فجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة
وإن أولئك قد عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا.
فهذه اشارات تغني عن كثير من العبارات تبين لك صدق النبي صلى الله عليه وسلم في سيره إلى الله، وقناعته في مأكله ومسكنه فطوبى لمن هدى إلى الاسلام وكان عيشه كفافاً وقنع ولقد سار على هديّ النبي صلى الله عليه وسلم الموفقون منه اتباعه المستنون بسنته فرضوا بالقليل من الدنيا أخذوا ماقسم الله لهم،ولم يتأسفوا على مافاتهم فضربو بذلك أروى الأمثلة وأصدق الاتباع فهذا عمر رضي الله عنه الذي حدّث بما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عنه أنس رضي الله عنه كنّا عند عمر رضي الله عنهما فقرأ(وفاكهة وأبّاً)ثم سأل عن تفسيرها قال أنس وفي ظهر قميصه أربعُ رقاع واما ابنه عبد الله،والولد سرّ أبيه فقال عن نفسه: لقد رأيتني زمن النبي صلى الله عليه وسلم بنيت بيدي بيتًا يكنني يظلني من المطر ويُظلني من الشمس ما أعانني عليه أحد من خلق الله) رواه البخاري
فلله درهم،وفّروا دنياهم ليتكلموا أجور آخرتهم،قنعوا من الدنيا بالقليل واستعدوا للرحيل.
نسأل الله أن يهدينا لاتباع آثارهم والاقتداء بسننهم إنه على كل شيء قدير .
الثانية :
تأتي هذه الكلمات وهذه النقولات الموجزة في بيان قلة ذات اليد لدى الجيل الأول لتقول: لكل نفس أرهقها الطمع، وأتعبها التطلع رفقا يانفس، فالفقر ماكان عيبا يعاب به أحد، ولا كان عذرا للنفوس الأبية لتخرق ذممها، وتتوسع في دنياها على حساب دينها فتظهر نفسه بمظهر الأغبياء مجارات للناس تخنق نفسها بدون بنكية وأقساط زعمها مريحة!
تأتي هذه النقولات والناس يستقبلون موسمًا شتويًا ممطرًا باذن الله وقد نصبوا خيامهم
تأتي لتقول لهم: رحم الله أمرءاً عرف قدر نفسه ولم يجار غيره على حساب ارهاق ذمته والعاقل خصيم نفسه
(والذين اذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)