إنَّ الحمد لله نحمده ، … أما بعد :- فسنة الله في خلقه أن أحوج بعضهم لبعض، وجعل مصالح بعضهم إلى بعض. فمن الذي يزعم استقلاله في كل أموره؟ والحياة تكامل وتعاون (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا) بتغير الزمان، وتداول الأيام، وتوالي المستجدات ينكشف جانب من البشر، وطائفة من خلق الله يحتاجون إلى من يواسيهم، ويحمل عبء من ثقل الحياة عهم (لقد خلقنا الإنسان في كبد) فالمواساة: هي معاونة ومشاركة لمن حلت به نازلة . ولا يتم ذلك إلا حينما ينزل الإنسان ما حل بغيره وكأنه نازل به (لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) فالمواساة ضرورة إيمانية، ومقصد شرعي، ومطلب إجتماعي. بالمواساة تحصن النعم، وتدفع النقم، وتجدد المؤاخاة . روى مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية". روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحدٍ، ثم اقتسموه بينهم في إناءٍ واحدٍ بالسوية؛ فهم مني وأنا منهم" ما أعظمه من حث للنفوس, وحفز للهمم أن يتخلص الإنسان من شح نفسه حتى يجمع الطعام ثم يقتسم بالسوية فلا يرى أحد فضلا على أخيه، فقبل أن يواسوا بالطعام سويت النفوس فلا يجد أحدهم حرجاً من أخيه أن يرجع بأكثر مما جاء به. في صحيح مسلم عن عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: أن أصحاب الصفة كانوا ناسًا فقراء، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مرةً: "من كان عنده طعام اثنين، فليذهب بثالثٍ، ومن كان عنده طعام أربعةٍ، فليذهب بخامسٍ، بسادسٍ"، وإن أبا بكرٍ جاء بثلاثةٍ، وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرةٍ . ما أعظم هذا الدين، وما أعظم هذا المربي العظيم! لم تطب نفس النبي صلى الله عليه وسلم ان يبقى أهل الصفة - وهم فقراء الصحابة - جياعاً وفي المسلمين من يستطيع إطعامهم . كيف؟ وقد وصفه الله بقوله (بالمؤمنين رؤف رحيم) بل سجل القرآن في حق الأنصار أهل المدينة ما هو أبلغ من المواساة وهو الإيثار قال الله تعالى: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9] . فصاروا يقدمون حاجة إخوانهم المهاجرين الغرباء على حاجة أنفسهم، ويبادرونهم قبل سؤالهم، ويعطونهم قبل طلبهم أين هذا ؟ شعارهم ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ . المؤمن الموفق يختار لعبادته أفضل أوقاتها وأعظم أوصافها، (فلا أقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة) فواجب الوقت هو أن ينظر الإنسان في خير الخيرين، وأفضل الطريقين . نزلت حاجة في المدينة، واحتاج الناس إلى من يواسيهم بالطعام ووافق هذا وقت الأضاحي فيأتي التوجيه النبوي الصريح للصحابة ألا يفوتوا وقتاً للمواسات بلحوم ضحاياهم عن سلمة بن الأكوع، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من ضحَّى منكم، فلا يصبحن بعد ثالثةٍ وبقي في بيته منه شيء"، فلما كان العام المقبل، قالوا: يا رسول الله، نفعل كما فعلنا عام الماضي؟ قال: "كلوا وأطعموا وادخروا؛ فإن ذلك العام (أي الماضي) كان بالناس جَهد (مشقة من ضيق العيش وكثرة الجوع)، فأردت أن تعينوا فيها (أي ينتفع بها المحتاجون" . أيها الإخوة: هل بقي لنا نصيب من هذه العبادة العظيمة عبادة المواساة، والشعور بحاجة أخيك المسلم . أما إنه بقيت أشياء ! فالحمد لله لم يفت شيء، ولا تزال المتاجرة مع الله في التوسيع على المحتاجين، وفك ضائقتهم باقية . فأين المشمرون ؟ بارك الله .... الحمد لله أما بعد:- فتأت التنظيمات الوزارية في رواتب الناس، فتنهال القراءات المتعددة لهذا القرارات في مبادئها وخلفياتها وعواقبها، تكلم المتشاؤمون، والمتفائلون، والراضون والساخطون, والواعظون والناصحون . وفي هذا المقام وبعيدا عن كل هذا لنا قراءة أخرى هي أشد وطء وأقوم قيلا، وهي خير وأشد تثبيتا . هذه التنظيمات هي على قوم نقصت في أرقام ما يودع في أرصدتهم . وعلى أخرين كانوا يرقبونها لسداد ديونهم, وهم على موعد مع مؤجريهم، والمقسطون لهم لم يفتؤ يذكرونهم، وبرسائلهم ويتعاهدونهم . فحق هؤلاء أن نتذاكر لأجلهم أموراً لعل الله أن ينفع بها، وتكون فاتحة لغيرها . أولا أوجب الله إنظار المعسر وعدم مطالبته (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) لا سيما من كان منهم صادقا في معاملته، جادا في إبراء ذمته . فإن قلت: وماذا لو اسقطت الدين عنه؟ وأبرأت ذمته ؟ أو تقدر على ذلك ؟ اسمع إذن : عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "كان تاجر يداين الناس؛ (أي: يبيع لهم مع تأخير الثمن إلى أجل)، فإذا رأى معسرًا، قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه" متفق عليه . الله أكبر ! أين الموسرون ليكون رحمة لعباد الله المعسرين . وإنما يرحم الله من عباده الرحماء . أين الراغبون في عفو الله وتجاوزه ؟ تجاوزوا عن عباد الله يتجاوز الله عنكم، والله أكرم من عباده. فما أعظمها من بشارة تبشر بها من أهمه دينه، وأقلقه ثقله. وأكرم برسالة مفادها إن الله قضى دينك، فمزق الورقة التي بيني وبينك . جعلنا الله مفاتيح خير لعباده . وفي هذا أنبه أن العلماء قالوا: لا يجوز إحتساب ما تسقطه عن المدين من الزكاة، وإنما هي صدقة وتنفيس كربة، ومن نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله له في الدنيا والآخرة . أيها الإخوة: ومن المواسات الشرعية إقالة المشتري في سلعة اشتراها من عقار أو سيارة أو مزرعة أو محل استأجره ثم لم يستطع سداد ما التزم به ، تغيرت حساباته، وتخلفت توقعاته, وفي فضل الإقالة يقول النبي صلى الله عليه وسلم " مَن أقال مسلمًا (أي بيعه)، أقاله الله عثرته" حديث صحيح رواه أبوداود . أيها الإخوة من المواساة الشرعية تلك الجمعيات الأسرية بين أفراد الأسرة، وزملاء العمل يتناوبون أخذها من غير زيادة فهو من القرض الحسن (ومن أقرض مسلما مرتين كان كعدل صدقة) حديث حسن رواه البيهقي وغيره