الحمد لله أمر بشكره، وأذن للشاكرين بمزيدفضله.
وأشهد ألا إله إلا الله الشاكر العليم،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بالمؤمنين رؤف رحيم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين...
أما بعد:-
فنقل لك: أن فلاناً يتشكر منك، أو بلغكأن ذلك الرجل الذي قابلته، أو أن صاحباً قديماً لك يهدي لك شكره وامتنانه.
أو عملت معروفاً لأحد من خلق الله فقال:لك شكراً .
الله أكبر،كم لهذه الكلمات من أثر في نفسمن وجهت له، فهو مغتبط بها، فرح بمسمعها، يرددها، وينقلها لأخص الناس به.
فالشكر الصادق يعمل أثره في النفوس، فهويلين ما صعب من أخلاق الرجال، ويدفع سيء الأقوال والأفعال.
ولا تقوى الطباع السوية على رد الشاكر،فعبارات الشكر قيد يصد بها سفه السفهاء، ولجام يلجم به طيش غير الأسوياء.
هذه بعض آثار الشكر بين الناس.
فكيف إذا كان الشكر طبعاً لك، وركنا منأركان جميل أخلاقك، فأنت الشاكر، فغلب شكرك نكرانك، وذكرك نسيانك .
فأكرم بها من صفة!
مدح الله بها نوحاً أول رسله (ذرية من حملناما نوح إنه كان عبداً شكوراً)
وسطرها في مناقب خليله (إن إبراهيم كانأمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين شاكراً لأنعمه) .
ثم ها هو خليل الرحمن لم ينس أن يأمر بهاقومه في أول ما أمرهم به، بعد أن أنكر عليهم عبادة أوثانهم يقول عليه السلام"فَٱبْتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرّزْقَ وَٱعْبُدُوهُ وَٱشْكُرُواْ لَهُ"
وتفطن لهذا الصفة نبي الله سليمان بن داودعليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام حينما مكنه الله من ملكة سبأ وقومها الذين يسجدونللشمس، وجاءه عرشها من اليمن قبل أن يرتد إليه طرفه، جاءه عرشها بقدرة الله بلمح البصرفكيف قابل هذا النعمة ؟
وكيف خرج من حظ الشيطان، وبطر النفس ؟
تأمل !
(قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفرومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم) .
عباد الله: مما يعينك على الشكر أن تتعرفعلى نعم الله لديك .
من هذا الذي يقدر أن يقول إن الله لم ينعمعلي ؟
نعم قد تجد، وصدق الله العظيم (إن الإنسانلربه لكنود)
الإنسان بطبعه يجحد نعم الله، ولا يثمنحقيقة ما يتفيأ من النعم، فالغفلة تنسي، والتعود على النعمة يطغي، وطول إلفها يرخصقيمتها.
وعلاج هذا بما قال النبي صلى الله عليهوسلم "انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ, وَلَا تَنْظُرُوا إِلَىمَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ, فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
حينما ينظر الإنسان إلى من فاتت بعض النعمالتي هي عنده حينها سيعرف العاقل قدر نعمة الله، وأن الله خصه بفضله، ومنَّ عليه بجودوكرم منه.
فإن شكوت نقصاً في صحتك فهناك من هم أشدنقصاً منك، وإن عاودك تعب، أو ألم فتذكر من لازمهم التعب والألم فهم على فرشهم يئنون،وبشدة كرب يصبحون ويمسون .
وما رائي كمن سمع !
احتسب زيارة لإخوان لك على الأسرة البيضاءكيف ليلهم ونهارهم ؟
واسأل عن أطولهم مدة، وأشدهم لمكانه ملازمة.
ولا أظنك بعد هذه إلا أن تقول: اللهم لكالحمد كم تنعم علي، ولا أشكرك .
وأنت يا مبتغي مالا، وترى كلا أغنى منك،وفي بحبوحة عيش فاتت عليك.
تذكر من تقلقهم وجبة النهار قبل وجبة الليل.
ومن ركبتهم الديون، وهمهم في أجرة مسكنهم،ومصاريفَ تفاجئهم لم يعدوا لها عدة .
(انظروا إلى من هو أسفل منكم)
أيها الأفاضل: عبادة الشكر، هي عبادة السراءوقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له) فأين الشاكرون،أين مريدو الخير .
(وقليل من عبادي الشكور)
الشكر بين الناس سبب لدوام العلاقة بينهم،والشاكرون هم عِلية القوم، فالقلوب تحبهم، والباذلون يسعدون بالوصول إليهم.
والبيوت إنما تطمئن حينما يشيع الشكر بينأفراده، فالزوج شاكر لزوجته، حينما تخدمه، وتسعى في مصالحة، وتكفيه مؤنة البيت، وشكرالزوج لا يلغي شخصيته، ولا يفتح على الزوجة باب المنة في أعمالها فهذه وساوس تمليهاالنفوس الناكرة الكنودة .
وشكر الأب لأولاده سبب في دوام العلاقةبينهم، وذهاب الوحشة عنهم، وهو عون من الأب لأولاده ليبروه، ويحسنوا إليه، ومن أعانعلى خير فله مثل أجر فاعله.
وشكر الأولاد لوالديهم بِرٌّ منهم بوالديهم،وسبب لاستمرار الوالدين في عطائهم، وهو امتثال لأمر الله (أن اشكر لي ولوالديك)
وهو سعادة يدخلها الولد إلى قلب والديه،قد يصعب وصفها إلا أن تذوق طعمها إذا كنت في مقامهم.
ثم الشكر بعد ذلك مع خاصتك فالأقارب ماتبادلوا الشكر بينهم إلا زادت صلتهم، وقوي الرحم الذي بينهم.
فالشكر صلة، وسبب لدوام الصلة.
ثم الشكر بين عموم المتعاملين، عمال، وباعة،وموظفين
وطلاب ومعلمين به تتشجع النفوس، وتدفع الشحناء،وتحل البركة، ويشعرون بروح الفريق الواحد (إنما المؤمنون إخوة).
(وسيجزي الله الشاكرين) .
الثانية
أما بعد:-
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول(من لا يشكرالناس لا يشكر الله) حديث صحيح رواه أحمد وغيره.
فشكر الناس معين على شكر الله تعالى، لأنمن شكر ذا الإنعام الصغير فإن عقله وشرعه يقوده إلى شكر المتفضل المنعم الكبير (ومابكم من نعمة فمن الله)
وإن شكر الله هو نعمة يمن بها الله علىمن يشاء من عباده، فيكون من الشاكرين (رب أوزعني أن اشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلىوالدي)
فقيدوا نعم الله بالشكر، واستزيدوا منهابشكرها (لئن شكرتم لأزيدنكم)
شكر الله وفق له أناس فلا يزالون معترفينلله بفضله، فقلوبهم شاكرة، ثم يثنون على الله بنعمه بألسنتهم، وهو من التحديث الذيأمر الله به (وأما بنعمة ربك فحدث)
ولكن باباً من أبواب الشكر غفلنا عنه وهوشكر الله بجوارحنا، واستعمال النعمة فيما يرضي خالقنا، فلم يشكر من كانت قوته فيمايسخط الله، هو ذو صحة فأين صحته ليحضر بها إلى المسجد، أو أنه وفر صحته للسهر الطويل،والتخبط فيما يقسي قلبه، ويبعده عن ربه، فلم يحفظ بصراً ولا سمعاً، ولم يصن منطقاًوقد علم حرمت الأعراض، وكبر إثم الغيبة والنميمة والسباب، فأي نعمة يعيشها الإنسانوهو لم يقم بشكرها فهي نذير خطر على صاحبها .
فإذا رأيت ربَّك يوالي عليك نعمَه وأنتَتعصيه فاحذر من قوله تعالى(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ، وأمليلهم إن كيدي متين)
قال سفيان رحمه الله: "يُسبغ عليهمالنعم ويمنعهم الشكر".
أيها الإخوة: غدا يوم عاشوراء، وهو يوممن أيام الشكر نجا الله موسى وقومه من الغرقوأهلك فرعون وقومه فصام موسى عليه السلام يوم النجاة شكراً لله على نعمته، ثم لما قدمالنبي صلى الله عليه وسلم المدينة ووجد اليهود يصومونه صامه، وقال نحن أولى بموسى منكممعاشر اليهود . وبين أن صيامه يكفر السنة الماضية فلا يفوتنكمصيام غد صوموه، وذكروا به من قد يجهله أو يغلبه الكسل فلا يصومه من أهل البيتوالصغار والعمال والخدم ونحوهم .
ومن وفق وصام هذا اليوم الجمعة التاسع فهو أفضل لتتحقق محالفة اليهود . ومن اقتصر على العاشر وهو يومغد وصام السبت وحده فلا حرج وبين أهل التحقيق من مشايخنا أنه لا يصح حديث في النهيعن إفراد يوم السبت . والحديث الذي تداوله الناس بعض ضعيف شاذ، بل قال الشيخ ابنباز رحمه الله إنه باطل، ومن كان عليهقضاء من رمضان فله أن يصوم عاشوراء ويدع القضاء فيما بعد، وله أيضا ً أن ينويالقضاء وحيث وافق يوما فاضلاً فنرجو أنه يحصل الأجر الوارد .
أيها الإخوة: في صيام النبي صلى اللهعليه وسلم عاشوراء درس نبوي عظيم وهوأن النعمتقابل بالشكر بعدها اعترافا من العبد بقبولها، وتعظيما لمسديها ولا يزال هذا طبعاًللعارفين أن من أنعم عليه ربه بنعمة صحة أو ولد أو مال أو وظيفة أو نجاة من خطر فليبادربعمل صالح، فلكل نعمة جدت عبادة تجددها (والله أعلم بالشاكرين)
وبه تدرك خطأ الذين لا يعرفون الله إلافي الضراء فإذا حلت به نازلة، وخافوا من حصول مكروه شرع الواحد منهم يقول: لله علينذر إن شفي المريض أو حصل كذا أن أصوم أو أتصدق كأن الله لا يعطي إلا بمقابل، فإذازال غمه وانكشف كربه (نسي ما كان يدعو إليه من قبل)، وطلب مخرجا من هذا الذي ضيق بهعلى نفسه .
وخير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلمفقد قام من الليل حتى تورمت قدماه، ثم يقول أفلا أكون عبدا شكورا.
(بل الله فاعبد وكن من الشاكرين)
ثم اعلموا رحمكم الله أن من أفضل الأدعيةما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأوصى به معاذ بن جبل" فقد قال: يا معاذ،أني أحبُّك، فلا تدعنّ أن تقول دبرَ كلّ صلاة : (اللهم أعنِّي على ذكرك وشُكرٙ?حسنعبادتك) .
فاستعينوا بنعمة الله على طاعته، واحذرواكفرانها فإنها من أسباب نزع البركات، وقلة الأمطار وجدب الديار،