الحمد لله جعل محبة الخير في المسلم من كمال الإيمان، وحذر التعدي وحرم الظلم والعدوان . وأشهد ألا إله إلا الله ربنا الرحيم الرحمن ، وأشهد أن محمداً عبده بلغ الرسالة للإنس والجان . أما بعد :- فنحن أمام قصة من قصص الإنسان في ارتفاعه وانحطاطه، في طاعته ومعصيته، في سعادته وشقائه ، هذا الإنسان الظلوم الجهول جعل الله عز وجل في قصة له قديمة درساً بليغاً لبني جنسه لكل الناس من بعده . أمر الله عز وجل نبيه الكريم عليه أتم الصلاة والتسليم أن يتلو هذه القصة على قوم يهود، اليهود الذين سبوا الله وآذوا أولياءه وقتلوا أنبياءه، اليهود الذين حسدوا الناس على ما آتاهم الله من فضله، أمره الله أن يتلو عليهم هذه القصة، والتلاوة ذكر الحقائق مرتبة، حقيقة تلو حقيقة ، تتابعها القلوب وتعيها قبل الآذان \" وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بالحق \"، النبأ هو الخبر المهم ، الخبر المتميز ، الخبر الذي سيق لحكمة , فهو نبأ حق لأن الله سبحانه وتعالى هو المتكلم، ولأن الله تعالى هو الذي يقص هذه القصة، فهي قصة حق، أي: لابس الحقُّ أحداثها، أي إن هذه القصة هكذا وقعت تماماً ، بلا مبالغات ولا زيادات ولا لا إغفال لما لا يصح إغفاله من فصول القصة . (إن هذا لهو القصص الحق) ، (نحن نقص عليك نبأهم بالحق) . إننا أمام قصة ابني آدم عليه السلام لصلبه قابيل وهابيل . أما عن بداية القصة وبداية الأحداث يقول ابن كثير : وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف أنَّ الله تعالى كان قد شرع لآدم عليه السلام أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال، ولكن قالوا : كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى، فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر، وكانت أخت هابيل ذميمة ، وأخت قابيل وضيئة، فأراد أن يستأثر بها على أخيه فأبى آدم ذلك إلا أن يقربا قرباناً، فمن تقبل منه فهي له ، فقربا فتقبل من هابيل ولم يتقبل من قابيل ، فكان من أمرهما ما قصَّ الله في كتابه . فهذه البداية تشريع مؤقت يناسب البداية الأولى فيتزوج أخته من البطن للآخر . فتأتي المنافسة المذمومة لأنَّ حقيقتها الاعتراض على شرع أمر به الله (ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) . فكيف موقف الأب المشفق على ولديه ؟ كيف نصرف آدم تجاه ثورة الغضب التي لا بد أن تلجم بلجام الشرع ؟. أمرهما أن يقربا قرباناً صدقة لله عزَّ وجل، ولم يكن ثمت مساكين يتصدق عليهم ولكن من قبلت صدقته نزلت نارٌ من السماء فأكلت ما قبله الله من الصدقات والقرب، وتركت ما لم يتقبله الله لكونه مغشوشاً أو فيه غلول والله طيب لا يقبل إلا طيباً . فقرب الابنان قرباً قرباناً فصاحب الغنم على ما ذكر وهو هابيل قرب كبشاً أبيض أقرن من خير ماله وأنفسه ، قربه طيبة بها نفسه . وقرب قابيل وهو صاحب زرع صبرة من طعام من شر طعام حقله ، قدمه غير طيبة بها نفسه . قال الله تعالى عن قربانهما (فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر) فيا للخسارة، وما أشد الفضيحة . فتحركت في نفس الخاسر دواعي الشر ، ودبت الغيرة الآثمة في قلبه ، فقال لأقتلنك ، هكذا مواجهة بالظلم والعدوان . فما كان من أخيه إلا أن حاول ردَّه إلى رشده فقال له (إنما يتقبل الله من المتقين) في عملهم الذين تقربوا به فزاد غيظه وصمم على غيه . فطوعت ذلك كلَّه نفسُه الأمارةُ بالسوء فقتله . ضربه بحديدة كانت معه فقتله، وقيل: إنما قتله بصخره رماها على رأسه وهو نائم فشدخته، وقيل: بل خنقه خنقا شديدا وعضه كما تفعل السباع، فمات، الله أعلم بكيفية قتله !! فانتقل بعظم ذنبه وكبيرة جُرم \"فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ \" ، خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين . فحينئذ اختل توازنه وصار أمام الأمر الواقع مع ذنبه فكيف يواري هذه الجثة الهامدة . هو تخلص حسب زعمه من روح المنافس فلن يتقابل معه في منافسة أخرى، ولن يخوض معه جدالاً لأنه مات بين يديه بل أماته بيده . فركبه همَّ مواراة سوأة أخيه، أيحمله معه ولكن إلى أين أم يتركه على وجه الأرض فتلك فضيحة ومناداة بالجريمة وإدانة للمجرم . فطال تفكيره بهذه السوءة ؛ والسوءة هو المنظر التي تتقزز النفس منه ، فالإنسان إذا مات وانتفخ ، وأصبح أزرق اللون ، مخيفا ، صار هذا الإنسان المقتول سوءة . ففي هذه الأثناء العصيبة ولحظات الهم المتسارعة بعث الله غراباً طيراً ، والطيور من أضعف خلق الله يبحث في الأرض ينقب برجله الأرض فحينئذ وعى الدرس من هذه الحركة ، فالإنسان المتكبر الذي طالما أعجب بعقله وغرَّه طول مكره ها هو يأخذ درساً أحوج ما يكون إليه من غراب، لائماً نفسه حقيراً عند ربه (قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخيه فأصبح من النادمين) من النادمين حيث لا ينفع في تلك الحال الندم إلا تقطيعُ القلب وعضُّ الأنامل ، وبئست الفائدة . وبهذا تنتهي خطوات الجريمة ، وتأتي هذه القصة لتكشف أنموذجا لطبيعة الشر والعدوان ، بل كما يقال عدوان صارخ لا مبرر له . دفن المقتول في الأرض وغابت آثار الجريمة ، ولكنها لم تدفن ولم تغب عن علام الغيوب، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : \" لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل \" متفق عليه . الحمد لله وكفى ، وصلى الله على نبيه المصطفى ، ومن نبعه بإحسان واقتفى ، وسلم تسليماً كثيراً . أما بعد :- فإنَّ من أعظم عظات هذه القصة المؤلمة تلك المفارقة المتباعدة بين بني آدم عليه السلام بل بين ابنيه لصلبه والمفارقة بين من بعدهم أشد وأبين ... إن شأن ضعاف الإيمان وضعاف الشخصية أن يكملوا أنفسهم بتنقص الآخرين فلا يكادون يرون لأحد فضلاً فالفضل كلهم عندهم والتميز هو في ذواتهم وأفعالهم ، وكل شيء هو دونهم . بل لو عصى الواحد منهم ربه تمنى أن يتحول المجتمع كله إلى عصاة مثله حتى لا يكون لأحد فضل عليه ، وهذه هي نفسية قابيل فلم يطق أن يتفضل عليه أخوه حينما تقبل الله منه القربان ولم يتقبل منه . مع أن طريق القبول سهل وواضح فلو أخذ به لحصل ما حصَّل أخوه (إنما يتقبل الله من المتقين) . فما الذي منعه من التقوى ؟ والتقوى باب مشرع يدخله من صدق مع الله وسار على نهجه فعلاً للأمر وتركاً للنهي . ولكنه اختار الطريق الآخر الذي يهلك الإنسان فيه نفسه قبل غيره، ويقتلها قتلات، وتموت قبل موتها حسرات ، اختار جادة الحسد والاحتراق على النعم التي عند الغير . والحسد رذيلة إذا تمكنت من النفس البشرية أوردتها المهالك ووصلت بها إلى الهاوية، بل وزينت لها البغي والطغيان والإثم والعدوان. فقتل أخاه فما أعظمها من جريمة ! وهذا هو المعنى الواضح الجلي الذي تعرضه الآيات الكريمة لأن حسد قابيل لهابيل كان على رأس الأسباب التي حملته على فعل جريمته الشنعاء . إن الحسد عباد الله أول ذنب عصي الله فيه في السماء حينما حسد إبليس أبانا آدم ، وأول ذنب عصي الله فيه في الأرض فهو ذنب قديم وما يزال للأسف يشق طريقه في نفوس بعض المسلمين ، ويخلخل صفوفهم ، فالحسد يفسد الود بين المتصافين ، ويقضي على الأخوة الإيمانية ويتحول المجتمع بسببه إلى مجتمع مبني على المكر والخديعة وتحقيق المصالح الذاتية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول \" لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخواناً \" . فاتق الله أيها الحاسد وبادر لإصلاح قلبك . والله يقول (يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر) فإن استعصى عليك قلبك ولم يطاوعك في أول أمرك فاحذر البغي والظلم ... واحذر أن يحملك حسد على الحيلولة دون خير لمسلم فتسعى في إفساد بيعة لأخيك المسلم أو أن تحول دون تزويجه أو توظيفه، أو تنغيص صفاء بينه وبين أهله وأولاده أو والديه . احذر هذا كله وأنت تعلم من نفسك الضعف وقلة الحسنات ، فكيف إذا سلطت عليها الحسد فصار يأكل منها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم \" إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أو العشب \" رواه أبو داود . فاللهم اصلح لنا قلوبنا وأعمالنا ... اللهم طهر قلوبنا من الحسد والغل، ربنا لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين أمنوا