الحمد لله يهب لمن يشاء إناثاً ، ويهب لمن يشاء الذكور ، وهي نعمة بين شاكرٍ لها وكفور .
أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ، ويجعل من يشاء عقيماً ، لحكمٍ بالغة ، ألا إلى الله تصير الأمور .
وأشهد ألا إله إلا الله العزيز الغفور .
وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله الصابر في تبليغ رسالة ربه ، العابد الشكور . صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، ما توالت الأيام والدهور
أما بعد : -
فإنَّ الله أسبغ على عباده النعم، ومن أعظمها نعمة الأولاد، وجعلهم فتنة يتميز بها العباد .
فمن أدَّى حق الله فيهم ، وحفظهم من أسباب الشر والفساد قرَّت عينه بصلاحهم في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .
وإنَّ الأولاد قرين الأموال في كتاب الله لكثرة تفريط الناس فيهما ، وقلة السَّالمين من عظم مسؤوليتهما .
) إنما أموالكم وأولادكم فتنة (
) المال والبنون زينة الحياة الدنيا (
وقال هود عليه السلام مذكراً قومه هاتين النعمتين ) واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعامٍ وبنين (
فإذا أصلح الله الأولاد – ذكورهم وإناثاً – تمَّت حينئذ النعمة ، وصاروا لأهليهم من الله رحمة .
فبصلاحهم تسكن النفس، ويطمئنُّ القلب، ويتفرغ العبدُ إلى ما سواهم من مصالح دينه وشؤون دنياه .
وإن لتحصيل هذه النعمة أسباباً كثيرة ، يأخذ بها العبد متوكلاً على الله موقناً أنَّ لله حكماً يجريها ، وأسراراً في خلقها يمضيها .
وفي قصة نوح - عليه السلام – مع ابنه عظة وعبر للمدَّكر ، حيث فتح الله أبواب السماء بماء منهمر ، وفجر الأرض عيونا ، قال الله تعالى )فالتقى الماء على أمر قد قدر ( .
فأدركت الأبَّ شفقةُ الأبوة ، وفاضت من قلبه الرحمة ، وهو ومن معه في فلك يجري بهم في موجٍ كالجبالِ فعبَّر عن هذه العاطفة مستعملاً مع ابنه آخر محاولة ) يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين (
وقدر الله نافذ ، وحكمنه مستعلية ) وحال بينهما الموجُ فكان من المغرقين ( .
ألا ما أصعبه من موقف ، وما أشده من امتحانٍ تبقى أحداثه في الذهنِ ، وملامحُ صورته رأي العين ، لا يستطيع دفعه وتناسي وقائعه إلا المؤمنون العارفون معنى قوله تعالى ) إنَّ ربك حكيم عليم (
وقوله تعالى ) إنَّ ربك فعَّال لما يريد (
ثمَّ تنتهي هذه القصة بمراجعة نوح عليه السلام ربه يستجلي الأمر ، ويستوضح الحال ) ونادى نوحٌ ربه فقال ربِّ إنَّ ابني من أهلي وإنَّ وعدك الحقُّ وأنت أحكم الحاكمين ، قال يا نوحُ إنَّه ليس من أهلك إنه عملٌ غيرُ صالحٍ فلا تسألني ما ليس لك به علمٍ إني أعظك أن تكون من الجاهلين (
فابنه ليس من أهله ، أي : الناجين فليس داخلاً فيمن وعد الله بنجاتهم خلافاً لما ظنه نوحٌ عليه السلام فما كان منه إلا أن أعلن ندمه ورجوعه إلى أمر ربه ) قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين (
ففي هذه القصة أعظم تسلية لمن ندَّ عن الهداية ابنه، وشرد إلى الضلالة مَن تحت يده ، وهو مع ذلك قد أفرغ جهده ، وطرق لإصلاحه كلَّ سبيلٍ في وسعة .
) لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب (
عباد الله :
إنَّ من أسباب صلاح الأبناء التي سلكها نوح مع ابنه هو دعوته ونصحه .
فلا بد من الدعوة و التوجيه السليم والتحذير المستمر ، فقد يجهل الولد ما يضره ، وما يبته له رفيق السوء ، وقد يخفى عليه ما ينفعه .
فعلى الولي من أب أو غيره النصح المتكرر مراعياً في ذلك حال المنصوح يلمح مرة ، ويصرح أخرى مبتعداً عن نصيحته أمام أقرانه ، وإخوانه فهذا يحرجه غالباً ، وقد يكون سبباً في ردِّ النصيحة أو عدم الاهتمام بها ، أو تأخذه العزة بالإثم فيرد النصيحة ، وتضيع الهيبة ، ويتجرأ على ما لم يجرؤ عليه من قبل .
واقرأ وصايا لقمانَ لابنه وهو يعظه فإنها وصايا جامعة متعددة يُظْهِر فيها لقمانُ لابنه التودد فيصدرها بقوله (يا بُنَيَّ ) .
(يا بني لا تشرك بالله )
(يا بني أقم الصلاة )، ومن طرق النصح رسالة يجدها في جواله سطرها أبوه بأحرف الإخلاص، وعبارات النصح ولا تطل الرسالة فالأبناء بعاطفتهم يقرؤن ما وراء السطور، ويدركون مرادك وإن قلت كلماتك .
( وما كان الرفق في شيء إلا زانه )
ومن أسباب صلاح الأولاد واستقامتهم أن يظهر الولي من أبٍ أو غيره أمام أولاده بمظهر المربي الصالح والقدوة الناجح .
فلا يقبل ابنك أن تحثه على الجلساء الصالحين وهو يرى في جلساءك المتهاون ، وبعض الفاسقين .
ولا يقبل منك ابنك أن تحثه على الصلاة ، وهو يراك فيها من المتكاسلين .
ولا يقبل منك ابنك أن تحثه على استغلال الوقت وحفظ القرآن ، ثم أنت في هذا كله من الزاهدين .
فالقدوة أبلغ تأثيراً ، وأدوم أثراً .
فإياك أن يراك ابنك على حال لا تحب أن تراه أنت عليها
ولذا من الأمور التي لا ينبغي للأب أن يغفلها ، وهي اصطحاب أولاده ، وإحضارهم مجالس كبار السن ليأخذوا من آدابهم ، ويتعلموا من حكمتهم .
ومن أسباب صلاح الأولادِ واستقامة حالهم الدُّعاء لهم والتضرع إلى رب الأرباب ، فهو القادر على ذلك وحده، وبيده مفاتيح القلوب ، وهو الهادي لأحسن الأخلاقِ لا يهدي لأحسنها إلا هو ، وهو المجنب عن سيئ الأخلاقِ لا يجنب عن سيئها إلا هو .
أجل ، يا عباد الله ، الدعاء !
لا سيما إن كان من أب بنية صالحة خالصة، وحالٍ مفتقرة .
قال النبي r ( ثلاثة لا تردُّ دعوتهم الوالد لولده ، ودعوة الصائم ، ودعوة المسافر ) رواه البيهقي ، وغيره وحسنه الألباني، والغالب أن ذلك يكون في ظهر الغيب فالملك يؤمن على دعائك، ولا ينصرف جل دعائك لأبنائك دون بناتك، وحق المغترب منهم آكد، وكم حفظ الأبناء المبتعثون من سوء أحاط بهم، وتفرج كرب ألَّم بهم قال الأبناء: لا نظن ذلك بعد لطف الله إلا بدعاء والدينا الذين نسيناهم ولكنهم لم ينسونا!
فجزى الله والدينا خير الجزاء، ما أعظم همهم
ولقد تفطن لهذا السبب العارفون
قال الله تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام ( و اجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) .
وقال ) رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي (
وقال عن زكريا – عليه السلام - ) رب هب لي من لدنك ذرية طيبةً إنك سميع الدعاء (
فادعوا لأولادكم بالصلاح ، وأن يقيهم مضلات الفتن ، فلا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم .
( ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرَّة أعين واجعلنا للمتقين إماماً )
بارك الله لي ولكم …
الحمد لله رب العالمين …
أما بعد :-
فأنتم معاشر الأولاد – معاشر الطلاب – هنيئاً لكم نجاحُكم ، وتفوقُكم في دراساتكم ، وجعل الله التوفيق لمن تخلَّف منكم .
وتذكروا وأنتم على أعتاب إجازتكم بعد دراسة طويلة ، وامتحاناتٍ مشغلة تذكروا أن أمامكم أياماَ من أعماركم يتخللها شهر كريم، وإن سميت عطلة أو إجازة .
فما أنتم بها صانعون ، وفي أي مجالٍ أنتم لها باذلون ؟
وقبل هذا وذاك يقول عبد الله بن مسعود : (ما ندمت على شيء ندامتي على يومٍ غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي )
والله تعالى يقول ) إن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون (
أيها الآباء ، أيها الأولياء : كما أنَّ الناس يستعظمون أن يغرر بفئة من أبنائنا وشبابنا فيحدثوا تفجيراً هنا أو هناك،
أو ترويعاً أو حملاً لسلاح على غير وجهه الشرعي، والاستنكار في هذا متجدد .
كذلك يستعظمون ويستنكرون أن يخطئ طائفة من الشباب استغلال الإجازة فيمضونها سهراً وعبثاً في الشوارع، أو تهوراً وتفحيطاً واستعراضاً في سياراتهم .
أو تجمعاً على منكر من السماع والمشاهدات في استراحاتهم .
كل هذه خطوط منحرفة ، وواجب على كل أحد أن يأخذ على أيدي هؤلاء السفهاء فالأب يحمل القسم الأكبر .
وإياك أيها الأب المبارك أن تظن أنك في راحة من المسؤلية بانتهاء ابنك من الدراسة .
نعم انتهت مسؤلتك من شيء ودخلت في مسؤلية أشياء.
فكيف سيقضي ابنك الساعاتِ الطوال التي كان يمضيها في المدرسة بعد انتهاء الدراسة، وما هي الأساليب التي يفرع بها الابن طاقته الجسمية والذهنية خلال هذا البحر من الفراغ .
إليك من باب التذكير شيئاً مما تفرغ به الطاقات ، وتشتغل به القدرات .
فهذه حلقات تحفيظ القرآن للبنين . ودور القرآن النسائية للبنات من خيرِ ما يرشد إليها الأبناء والبنات .
والقرآن خير ما تحفظ به الأوقات وتهذب به النفوس ، وأعظم هدية يهديها الأب لابنه أن يحفظه كتابَ ربه .
وهذه الدروس العلمية والدورات الشرعية يقتسم الناس فيها ميراث النبوة ، ينيرون بها قلوبهم ، ويحفظون من خلالها شيئاً من شرع ربهم ( ومن سلك طريقاً يبتغي به علماً سهَّل الله له به طريقاً به إلى الجنة ) .
وأنتم يا أصحاب الجوال الذكية وغالبكم كذلك في النت إذا وفقك الله وحرسك من جانبه المسود فيه رياض للمتزودين من كل نافع، فالدروس التي يشد لها الرياح هاهي بين يديك في ضغطة زر منك، وكذا الدورات التربوية، والاقتصادية، وتعلم اللغة الأجنبية كلها وغيرها في متناولك إذا تجاوزت مسالك الدحض والمزلة فستجد بناءك العقلي والروحي والبصير من بصره الله فكن من المتبصرين ورتب جدولا ففيه خيرا كثيرا
والأعمال التجارية والوظائف الصيفية وإن قلَّ راتبها فيها قطع للوقت بالنافع وإشغال بالمباح ، ولو أن يدفع المرتبَ أبُ الشاب إذا كان العوضَ حفظُ الشاب من الفراغ القاتل .
أيها الشاب أيها الطالب :
إن الإجازة تكون ناجحة إذا نجحت في حفظ وقتك ، وحفظ جوارحك فلا عينٌ منك زنت ، ولا أذن منك لمحارم الله سمعت .
الإجازة تكون ناجحة إذا لم تضيع فيها صلاة ، ولم ترافق فيها سفيهاً ظنَّ السعادة في هجر البيت، وشرب الدخان ، واحتقار الوالدين، والاستخفاف بما حرَّم الله .
فمثل هذا مسكين يستحقُّ منا الرحمة ، وضالٌ حقه علينا النصح والدلالة .
إنَّ الإجازة تكون ناجحة إذا راقبت الله فيها قبل الناس، ولم تسلم فيها عقلك لأي توجيه عماده على احتقار علمائك، والاستخفاف بولاة أمرك، واحتقار والديك، ونبذ النعمة التي أنت فيها، وتطلع إليها غيرك، فكن على بينة من أمرك، وسل ربك الرشاد واستعذ به من مظلات الفتنة، وأن يحفظك مما وقع فيه غيرك فأفرحوا عدوهم، وصاروا نقمة على أمتهم، مشمتة لأعدائهم .