فتح الله على رسوله ذاك الفتح العظيم فتح مكة ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وقرت عين النبي ﷺ برؤية مكة بلداً إسلامياً، وأعلن انتهاء الشرك من مكة وقال (لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ).
ولكن هذا الفتح صار انغلاقاً لقلوب لا يزال الشرك مخيماً عليها، والحمية الجاهلية في نفوسهم على أشدها.
هذه حال جيران مكة في الطائف كبرى مدن الجزيرة بعد مكة والمدينة.
فما خبرها؟
وما قصة قائدهم سقيم الرأي، سيء المشورة!
ما قصته؟ لتعرف أن الشجاعة والإقدام ليست كلَّ شيء إذا عدم الرأي الصواب.
الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ |
هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني |
فكيف إذا كان عمى الرأي في الدين حتى يقدم الإنسان نفسه رخيصة في سبيل عقيدة باطلة، أو فكر منحرف، أو يصهرها في معارك خاسرة ليبقى زعماء على نفوذهم، وقد مقتهم الناس، ومقت الله لهم أكبر.
وشاهد المقال ما تشهده بلاد الإيمان والحكمة، والشام المباركة من عبث الرافضة، وكيف آلت حالهم إلى أسوأ حال ؟!
كشف الله بلطفه الغمة، وحفظ المسلمين بحفظه وأعاد بقوته عزة الأمة.
أيها الإخوة: لقد حمل مالكَ بنَ عوف سيدَ هوازن رأيُه المعوج وقد اجتمع عليه قومه ومن حولهم من ثقيف على أن يبادروا الجيش الفاتح لمكة بضربة كما يقال: استباقية، قبل أن يتوطن الفتح، ويجتث الشرك.
وإذا حضر القدر عمي البصر.
فأصر عوف على قومه أن يأخذوا في خروجهم للتصدي للنبي ﷺ كلَّ شيء معهم، يأخذوا نساءهم وأموالهم وذراريهم.
وظن بتهوره هذا أن الناس سوف يقاتلون دون أموالهم ونسائهم فلن يفروا من مواقعهم مهما كانت الحال!
ولم يسمع في ذلك رأي المعارضين، ولم يقبل نصيحة الناصحين شأنه شأن من قال: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ)، وشأن من قال ويقول: إما أن أحكمكم أو أقتلكم.
فما أعظم حلم الله، وهو سريع الحساب، وإن أخذه أليم شديد !؟
نصح مالكاً دريد بن الصمت الفارس المعمر ذو التجربة والحنكة، وقال له: يا مالك، وهل يرد المنهزم شيء، إن كانت الدائرة لك لم ينفعك إلا رجل برمحه وسيفه، وإن كانت عليك فُضحت في أهلك ومالك!
فلم يعجب مالك هذا الرأي، وأصر على ما في نفسه.
فدعِ الأيام تمضي لنرى حكمة الله في أمره، وشؤون خلقه!
نقل للنبي ﷺ تحركات هوازن ومن معهم، وعلم المسلمون بمخرج عدوهم.
فتفاءل عليه السلام بالعاقبة الحميدة، وبث روح الظن الحسن في الله في نفوس أصحابه الذين لا يزالون مغتبطين بفتح مكة.
ففي سنن أبي داود أن رجلاً جاء إلى النبي ﷺ فقال له: إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا، وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم وبنعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم النبي ﷺ وقال: (تلك غنيمة المسلمين غدًا إن شاء الله). إذن كل شيء بتدبير الله، والعاقبة للمتقين.
وصلت هوازن ومن معها، وسبقت المسلمين إلى وادي حنين، واختاروا مواقعهم، فتوزعوا في منحدرات الوادي السحيق ومرتفعاته، وأهل البلد أدرى بشعابها ووديانها.
أما الجيش الإسلامي فهاهو يسير في عدد لم يجتمع عدد مثله فط، الصحابة الفاتحون، والطلقاء الراغبون، ممن انضموا إليهم من أهل مكة.
وقد أعجبوا بكثرتهم، حتى قال بعضهم (لن نغلب اليوم من قلة).
وما علموا أن لله تأديباً ينتظرهم، ودرساً لن يتجاوزوه حتى يفهموه، وقد قرؤوا من قبل (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)، (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) .
هذه المعاني لابد أن يروها في هذه الغزاة وفي هذا الوادي رأي العين، ويراها معهم من انضم إليهم من حديثي العهد بالإسلام.
ليعرف الجميع أن المسلمين لم يقاتلوا يوماً من الدهر بعددهم ولا بعدتهم، وإنما قتالهم الحقيقي بإيمانهم الذي ربط الله النصر به (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).
وصل المسلمون إلى وادي حنين ووجدوا المشركين قد سبقوهم إليه، فنزلوا قريبا منه، وفي ساعات السَّحر قبيل الفجر عبأ النبي ﷺ الجيش، ورتبه.
ومع أنفاس الصباح، وغبش الفجر، واختلاط النهار ببقية ظلمة الليل تنحدر طلائع الفرسان جموعاً غفيرة، وأعدادا متوالية تنحدر في الوادي وتتكاثر في دروبه، ومسالكه، فلم يرعهم إلا نبال الكمين تمطرهم وإذا كتائب العدو قد شدت عليهم، ووابل السهام يتساقط على رؤوسهم.
فيا لَهول الموقف!
وما أشد تلك اللحظات!
فاختلط الجيش بعضه ببعض، وتبعثرت الصفوف، وفزع الناس أيَّ فزع، وهجمت كتائب العدو مستغلة هذا الارتباك فهي فرصتهم، فكان الخيار الصعب أن ارتد الصحابة على أدبارهم، لا يلوي أحد على أحد.
فطريق الرجعة والخروج من هذا الوادي وادي الهلاك هو شغلهم الشاغل.
موقف يسر العدو، وهو ما أفصحت عنه ألسن بعض الطلقاء حديثي العهد بالإسلام حتى قال من قال منهم (لا تنتهي هزيمة هؤلاء – يعني الصحابة - دون البحر)
وآخر يقول: (ألا بطل السحر اليوم) .
بدت رواسب الجاهلية، لم تتطهر منها قلوبهم!
ولعلك تسأل وتقول: بادرنا ماذا فعل النبي ﷺ؟
وما حاله وهل بقي معه أحد ؟
فأقول: ثبَّت الله تعالى رسوله ﷺ بعد أن فرَّ عنه أصحابه، فانحاز إلى جهة اليمين، وهو يقول: هلُّموا إليّ أيها الناس، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله، ولم يبق معه في موقفه إلا قليل.
وظل ﷺ يركض ببغلته إلى الكفار وهو يقول: أنا النبي لا كــذب أنا ابن عبد المطلـب
ويدعو: اللهم أنـزل نصــرك.
وأمر النبي ﷺ العباس ـ وكان جهوري الصوت ـ أن ينادي في الناس, فنادى بأعلى صوته: أين أصحاب السمرة، يا معشر الأنصار، يا أصحاب البيعة يوم الحديبية.
فما إن بلغ الصوت آذانهم حتى أجابوه: لبيك لبيك، ويذهب الواحد منهم ليثني بعيره فلا يستطيع لكثرة المنهزمين، فما يكون منه إلا أن يأخذ درعه و سيفه وترسه ويترجل عن بعيره تجاه الصوت المنادي!
واجتمع المهاجرون والأنصار حول النبي ﷺ فظلوا يقاتلون قتال رجل واحد، ونظر النبي ﷺ إلى ساحة القتال، وقد استمر واحتدم فقال: الآن حمي الوطيس، ثم أخذ قبضة من تراب فرمى بها وجوه القوم وقال: شاهت الوجوه، انهزموا وربِّ محمد.
ولم تصمد هوازن وثقيف طويلاً بعد تجمع الصحابة حول نبيهم، بل فروا من الميدان تاركين وراءهم نساءهم وأموالهم، ويتعقبهم المسلمون للقضاء على شوكتهم، حتى لجأ أكثرهم إلى الطائف فتحصنوا بها مهزومين.
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَذٰلِكَ جَزَاء ٱلْكَاٰفِرِينَ) [التوبة:26,25].
الحمد لله ...
فلقد سطَّر أهل التاريخ والسير دروساً من هذه الغزوة مع شدتها في أول أمرها على الصحابة مع نبيهم ﷺ كما قال تعالى: (ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ)
فمن أعظم دروسها التنبه لمكن الحرمان ومعول الهزيمة، ومفرق القوة والكثرة هو الإعجاب بالعمل، والاعتداد بالنفس أو بالجيش عدة أو تدريباً.
فلينته المعجبون بغرورهم، المستخفون بعدوهم.
وليكن ديدن الجميع الافتقار إلى الله، والتضرع إليه، واللهج بالدعاء، والاشتغال بالعبادات الظاهرة والباطنة فهي عدتنا، وقوة لنا وللجنود في ثغورنا.
الأمر الآخر الذي هو من معالم تلك الغزوة هو نظر النبي ﷺ للمال وتلك الغنائم الكثيرة التاريخية ومما قيل في عدد إبل الغنايم أنها أربعة وعشرون ألف بعير، وأكثر من أربعين رأساً من الغنم، وغيرها كثير من الأموال والسبايا.
فالنبي ﷺ وسلم لم يتعجل في قسمها وانتظر قدوم أهلها تائبين بضع عشرة ليلة لعلهم يرجعون فيحرزوا ما فقدوا.
ولكنهم أبطأوا وأخذتهم العزة بالإثم وبقوا على ما هم عليه فأمر النبي ﷺ بحبسها في الجعرانة حتى رجع من الطائف لما رأى المصلحة في الرجوع فقد أمن جانبهم، وأيقن أن أهل الطائف مصيرهم إلى النزول من حصونهم.
رجع النبي ﷺ إلى موقع تلك الغنائم العظيمة وقد تسامع الناس بها وتطلعت لها نفوسهم.
فقسمها عليه الصلاة والسلام وجعل المال وسيلة للإيمان، وتأليف القلوب فأعطى رؤوساء القبائل، وبالغ في إعطائهم.
أعطى أبا سفيان مائة من الإبل، وأربعين أوقية فضة، ثم سأله أبو سفيان لولده معاوية ويزيد فأعطاهما مثل ما أعطى أبا سفيان.
ثم لا يزال رؤوساء القبائل والراغبون في الدنيا من الأعراب يأتون من كل حَدَب وصوب حتى شاع في الناس أن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وهو كذلك ﷺ .
ودرسُنا من هذا كله ليعه الذين هدموا بيوتهم، وخاصمهم أولادهم حينما بخلوا بما آتاهم الله من فضله فهم لا ينفقون النفقة الواجبة وهم قادرون عليها .
ونفضوا أيديهم من إصلاحات ضرورية في بيوتهم، وتجهيزات لابد منها لأولادهم.
ثم يُعَذّرون لأنفسهم أن هذه تجهيزات كمالية، ومظاهر ترف!!
أما لو كانت كذلك فحُقَّ لك! ولم يرد الترف في كتاب الله إلا مذموماً !
ولكنك تعلم في نفسك أنها حوائج لازمة، وضروريات مسكن ملحة ! (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
فاللهم قنا شحَّ أنفسنا!
بُذِل المال يتألف به قلوب الكافرين، فلنتألف به قبول العاصين والشاردين عن طاعة الله من أبنائنا ومن هم تحت أيدينا إذا كان المقابل لذلك هو توبتهم وقربهم منا، وإغلاق منافذ الشر دونهم .
لمَنْ تَطْلُبُ الدّنْيا إذا لم تُرِدْ بها |
سُرُورَ مُحِبٍّ أوْ مَساءَةَ مُجرِمِ. |
(فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ ~ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ ~ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ)
(اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، وغلبة الدين وقهر الرجال)