• ×

د.عبدالرحمن الدهش

خطبة الجمعة 14-6-1436هـ بعنوان أولى العفو

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  2.3K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

إنَّ أطيبَ حياةٍ يعيشها المؤمنُ في هذه الدنيا حينما يكونُ مراقباً لله حسنَ الطويةِ لعباد الله ، أصلح ما بينه وبين الله فأصلح الله له ما بينه وبين عباد الله . طهَّر قلبه من الشحناءِ والحسدِ فظفر بقلبٍ سليمٍ ، ونفسٍ راضيةٍ . علم أنَّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له ، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه . عامل الناس بالعفو مع أمره بالمعروف ، وإعراضه عن الجاهلين ، امتثالاً لما أرشد الله تعالى إليه نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله (خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين ) . قال مجاهد في قوله (خذ العفو) قال : من أخلاقِ الناس وأعمالهم من غير تجسس . فهو لا يكلف الناس ما يشقُّ عليهم ولا يطالبهم بما يعسر منهم . وإنَّ أولى الناس أن تمتثل الآيةُ معهم من كثرت بهم صلتك وتردد عليهم مجيئك بحكم قرابةٍ أو جوارٍ أو زمالةِ عملٍ أو سفرٍ . فالأقاربُ حقهم عظيمٌ ، وصلتهم واجبةٌ وأعظمُ الأقاربِ حقاً الوالدان . واعلم أنَّ للشيطان مداخلَ في العلاقة مع الأقاربِ يتخللُ منها الشيطانُ ليوقعَ الإنسانَ في قطيعة أقاربه ، وعدمِ صلتهم ، وهذا من كبائر الذنوبِ . لقد نزغ الشيطان بين بعض الأقارب ، وأفسد الودَّ الذي بينهم ، فعادَوا أقاربهم ، وقطعوا أرحامهم على أمور قديمة انقضت، أو لم تنقض بعد ولكنها لا تقوى على أن يخاصم الإنسان أقاربه، ويعيبهم في مجلس القاصي والداني، وامتدَّ ذلك إلى أولاد الطرفين فنشأ الجيل الثاني على خصومات آبائهم ، ومعاداة أرحامهم . ولقد نفخ الشيطان في هذه الخصومات ، وسعَّرها مِن الناس مَن قلَّ دينه وضعفت بصيرته من الطرفين فوصلت الحال إلى الهجر التام فلم يعد أحدهما يزور الآخر بل ولا يسأل عنه، ولو جمعته مع قريبه مناسبة أو أخرى أعرض عن قريبه وفرَّ منه فراره من الأسد بل وصلت حال بعضهم أن مرض قريبُه المخاصمُ له ولزم فراشه فلم يعده بل مات ولم يشيعه !! قتل الإنسان ما أكفره !! إنَّ الناظر في أسباب ذلك يجدها جملة أمور ، منها أمور مالية، تركت لم تقسم ، أو قسمت ولم يرض القسمة، أو خلاف حول أراضي وعقارات ، وغالبها أمور نفسية فهو شَرِه ، لا يمرر أيَّ كلمة ، ولا يتجاوز عن أيِّ فعله . كبَّر الشيطانُ أخطاء أقاربه في عينه ، وأظهرهم بمظهرِ المقصرين في حقه ، فلا يزالُ الإنسانُ يفسر كلَّ تصرفٍ منهم أنه من احتقارهم له ، وعدمِ الاهتمام به ، فإن طالت غيبتهم أو تباعدت زياراتهم ، أو لم يدعَ إلى عرسٍ، أو وليمةٍ عندهم فليس لهذا معنى عنده إلا المعاداةُ المكشوفةُ ، والمنابذة الواضحة من قبلهم له ، وعدم الرغبةِ فيه . ولم يجعل لحسنِ الظنِّ والتماس العذر مجالاً في حياته . فلا يزالُ من هذا طبعُه متعباً نفسه ! خواطرُ مقلقلةٌ ، وظنونٌ سيئةٌ ! ولا يزالُ متعباً لغيره ، فالناسُ يتعاملون معه بحذرٍ شديدٍ ، وحيطةٍ مفرِطةٍ ، يخشونَ مِن تقصيرٍ غيرِ مقصودٍ ، أو خللٍ غيرِ مرادٍ يقطعُ علاقتهم معه ، ويئد صلتهم به . فأين هؤلاء من قوله تعالى (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم) ؟ وأين هم من قوله تعالى (ولمن صبر وغفر إنَّ ذلك لمن عزم الأمور) ؟ فاتقوا الله – يا عباد الله – واعلموا أنَّ شأنَ القرابةِ والرحم شأنٌ عظيمٌ ، استعاذت بالله من القطيعة ، فقال الله لها : من وصلك وصلته ، ومن قطعك قطعته . واعلموا أنَّ النبي صَلَّى الله عليه وسلم يقول : ليس الواصل بالمكافئ ، ولكنَّ الواصِلَ الذي إذا قطعت رحمه وصلها " رواه البخاري . وإنَّ من أولى من تعاملُه بالعفو تتلمس عذره ، وتتجنب مخاصمته هي من خُلِقَت من ضلعٍ أعوج ، فإن ذهبت تقيمُه كسرته ، وإن تركته استمعت بها ، وفيها عوج . فلقد أوصى النبي صلَّى الله عليه وسلم بالزوجاتِ خيراً ، وجعل الله القوامة من الرجال على النساء ، وقال (وإن تعفو وتصفحوا وتغفروا فإنَّ الله غفورٌ رحيم) فلا تستقيمُ حياة الزوجين ولا يصفو كدرها ويذهبُ شرُّها إلا بالعفو والتغاضي عمَّا يسعُ فيه العفو والتغاضي والنبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يَفْرَك مُؤمِن مُؤمِنة إن كره منها خُلقاً رَضِي منها خلقاً آخر " ولقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم الكذب بين الزوجينِ فيما لا يسقط واجباً عليهما ، أو يوقعُ في محرَّمٍ منهما . وذلك أنَّ الكذبَ بينهما قد يحتاجُ إليه أحياناً بحيثُ يخفي أحدُهما عن الآخرِ ما قد يسبب النفور أو يثير النِّزاعَ ، ويزرعُ الشقاق . وإنَّ الأخذ بالعفو مطالبٌ به المسؤولُ مع موظفيه ، والموظفُ مع مراجعيه، فلا يكلف شططاً ، ولا يرهقُ عسراً يتذكرون جميعاً قول النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشقَّ عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به " رواه مسلم . فخذوا – رحمكم الله – بتوجيه ربكم وأعطوا كُلَّ ذي حقٍّ حقه ، وتجاوزوا عن التقصير ، وغضوا الطَّرفَ عن النقص ، ولا تتكبروا على صغيرٍ لصغره ، ولا على جاهل لجهله ، ولا على فقيرٍ لفقره ، والتمسوا الأعذارَ ، واحملوا المحامل الحسنة ، ولا تدعوا للشيطانِ مدخلاً تسيئون به الظن … أقول قولي هذا … الحمد لله على إحسانه … أما بعد : - فإن من أسوأ الخصومات خصومة بين إخوة عاد ضررها عقوقاً للوالدين من حيث لم يحتسب . نعم تخاصم الآباء على إثر خصومة بين أبنائهم الصغار نعم الصغار ! فأصر الآباء إلا أن يكونوا طرفاً فيها نسوا التغافل الذي فيه العافية كلها! وأين هم من قوله موجهاً نبيه صلى الله عليه وسلم (وأعرض عن الجاهلين) ؟ وربما أزت الزوجات أزواجهن حتى تخيل الأب المسكين أن جانبه مكسور إلا أن يرد الصاع صاعين، وكرامته لا يمكن أن تنزل في الأرض ! وحي شيطان ونفخ إبليسي !! ثم علم أبو الآباء وأمهم ! علموا بخصومة أحفادهم فتفطرت أكبادهم كيف تردت حال أبنائهم ؟ وشاهدوا بوادر الفرقة في حياتهم قبل مما تهم ! والعجب أن هؤلاء الآباء يرون أنفسهم من أبر الناس بوالديهم ولكن استمع إلى مدخل الشيطان !! لقد بلغ الجهل والسفه والحمية الشيطانية أن بعض هؤلاء المتخاصمين بالوكالة عن أبنائهم أن يقول لوالدته المسكينة: إن قصرت في حقك فعاتبيني، ولكن اعفيني من التواصل مع أخي فلان! سبحان الله! ألا يعلم هذا أن تقصيره في حق أخيه وتجافيه عنه، واستبعاد صفحة العفو والتسامح أن هذا تقصير في حق والديه وخلل في بره !! ألا يعلم مدى الحسرة والأسف في قلب الوالدين حينما يتذكران ما بين أولادهم من الجفوة، وقد باءت جهودهما بالفشل لأن حضور الشيطان أشد . إذن تبجحك بالبر لوالديك، وكثرة الزيارة، وقبلات الرأس . يوشك أن تكون هباء منثورا ! ألا إنه لزام على كل من يسمع هذه الكلمات أن يعقل حق العقل، ويفهم كل الفهم أن البر هو فعل ما تقر به عين والديك في غير مخالفة شرعية لا يستثنى من ذلك ما لا يروق لك، أو يشق عليك فعله لهوى أو قلة توفيق . وإن أعظم بر في هذا الزمن أن يشعر الوالدان أن أولادهم على قلب واحد ! فما أعظم سعادة الأبوين حينما يريان أولادهم وبينهم من التعاون والتخادم على مصالحهم الدينية والدنيوية . إذن استعفاؤك أحد والديك من أن تصل أحد إخوانك هو نوع من العقوق مع كونه نوعاً من القطيعة ! فانظر ماذا ترى ؟! وأزيدك إن حسن صلتك لأرحامك وفي مقدمتهم إخوتك وأخواتك من أبواب البر المستمر حتى بعد وفاة الوالدين واستمع عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال : بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال : يا رسول الله ، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما ؟ فقال : ( نعم ، الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنقاذ عهدهما من بعدهما ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ، وإكرام صديقهما ) رواه أبو داود. إذن أين من يدعون بر والديهم في حياتهم وأنهم مستمرون على البر بعد وفاتهم فهم يضحون لهم ويعشون في رمضان وغيره . فأقول لهم: تقبل الله منكم ، ولكنكم حرصتم على شيء لا يقارب ما فرطتم به، فصلتكم وتواصلكم وتغاضيكم مع إخوانكم وعموم أرحامكم كما سمعت دليله أعظم عند الله من هذه الطقوس الموسمية التي فقدت قيمتها، وقد وقع خلاف في مشروعيتها ! فيا أيها البارون، العافون عن الناس بركم الحقيقي وعفوكم التي لا يدانيه عفو هو ما يكون بينكم وبين أرحامكم وبخصوص إخوانكم فهذا العمل الصالح الذي لا يعوضه كثرة ركوع ولا قراءة ولا سرد صيام . فانقلب يا رعاك الله بعد هذه الجمعة بهذه الكلمات وقد سمعت دليلها وسل الله الإعانة واعلم أن الجنة حفت بالمكاره، ومن المكاره إكراه النفس على ما يشق عليه في أبواب البر والصلة . أعاننا الله وإياكم على طاعته، وأعاذنا جميعاً من نزغات الشيطان . حديثنا أيها الإخوة ليس منفصلاً عن أحداثنا، فإن الله عز وجل حذرنا الخلاف والتنازع، وبين أنه سبب للفشل ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) وإن الوحدة الداخلية للأمة هي من أسباب النصر على الأعداء، ومن أقوى الموانع لصد الحرب الكلامية، التي تسمى الحرب الإعلامية أو النفسية . فلإن كان الجنود على الثغور يقومون بواجب الكفاية، ويردون المبطل، ويردعون المجرمين فإن كل واحد منا هو جندي في موقعه فليحفظ موقعه وليحزم مع نفسه بتقوى الله وإصلاح ذات البين، ورفع الظلم، والاجتهاد بما يستطيعه من عبادة ودعاء، وليعلم أن ضعفاء الأمة في وقت أزماتها هم الأقوى فيها!! كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم، وصلاتهم وإخلاصهم" رواه النسائي بسند صحيح .



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 03:40 مساءً الخميس 19 مايو 1446.