• ×

د.عبدالرحمن الدهش

خطبة الجمعة 4-3-1436هـ بعنوان شيء من هديه صلى الله عليه وسلم

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  2.5K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

 

الحمد لله رب العالمين ، لك اللهم الحمد لا نحصي ثناء عليك ، جعلتنا مسلمين ، وأكملت لنا بفضلك معالم الدين ، وشرفتنا فجعلتنا من أمة سيد المرسلين . وأشهد ألا إله إلا الله إله الأولين والآخرين . وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، اصطفاه لحمل رسالته ، وتأدية أمانته ، فبلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين فصلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين ... أما بعد :- فإنَّ الله هدانا بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور، وآتانا ببركة رسالته ، وبمن بعثته خير الدنيا والأخرى ، وكان من ربه بالمنزلة العلية، أوجب على العباد تعزيره وتوقيره . والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث عن العظماء . والحديث عن العظماء تقف دونه العبارات ، وتتلجلج فيه الخاطرات ، فتكفى العظيمَ عظمته ، وينبئ عن كمالاته هديه وسيرته . وقفاتنا أيها الإخوة في هذه الكلمات من غير إحاطة ولا قريب منها حول من عصمه الله من الناس، ودافع عنه فلن يصل إليه منهم بأس . نعم أوذي في الله ، شجَّ وجهه ، وكسرت رباعيته ، وتسلط عليه سفهاء من قومه ، رمي بالحجارة حتَّى أدمي عقبه ، وأراد أعداؤه حبسه أو قتله أو طرده (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) . تطاول عليه أحفاد القردة والخنازير فخططت يهود لقتله ، ودسَّت يهودية سُمَّا في لحم شاة ففضحها الله وحمى نبيه من ضر سمِّه كلامنا أيها الإخوة عن نبي حنَّ إليه جذع نخلة وعرفه الشجر ، وأشرقت الأرض بطلعته وسلَّم عليه الحجر . أيها المسلمون : إنَّ نبينا الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم أدَّبه ربه فأحسن تأديبه ، صنعه على عينه ، بعد أن اختاره على علم يقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنَّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم " رواه مسلم رقم (2276) . فهو خيار من خيار ، شرح الله صدره حساً ومعنى ، فهو المثال الصادق لمن عرف حقيقة الإيمان ، حيث كان خلقه القرآن . خيَّره ربه بين أن يكون عبداً رسولاً أو ملِكاً رسولاً . فاختار العبودية مع الرسالة ، اختار الآخرة على الدنيا ، والباقية على العاجلة فكيف كانت حياته ؟! كانت حياته كلها في عبادة وتعليم ، وجهاد وتنظيم أمضى أربعين سنة قبل البعثة لا يعرفه قومه إلا بالصادق الأمين ثم أتاه الروح من أمر ربه (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) فنبئ بـ(إقرأ) وأرسل بالمدثر فأنذر عشيرته الأقربين ثم عمَّ قومه أجمعين وبقي في مكة داعياً إلى ربه ثلاث عشرة سنة ، وهو في محاجة قومه ينذر ويبشر ، ويلين ويغلظ فلاقى هو وأصحابه من أذى المعاندين للدعوة الشيء الكثير ، استهزئ به ورمي بالتهم ، حاصرهم المشركون في شعب أبي طالب حتى أجهدهم الجوع توفي عمه أبو طالب وزوجه خديجة وهما عضداه في الدعوة فصبر واحتسب . حتى كاده قومه فأذن له ربه بالهجرة ومفارقة أهله وبلده فخرج مهاجراً خائفاً يترقب إلى المدينة ، خرج حيث أمره الله إلى قوم بابعوه على النصرة ، والحماية مما يحمون منه أولادهم ونساءهم فأظهره الله وكتب له تمكيناً في المدينة وهو مع هذا لم يفارقه البلاء والتمحيص له ولإتباعه فهو بين أذية المنافقين ومن ورائهم من اليهود الحاسدين ، وبين مناوشات المشركين وتحزبهم حرباً لرب العالمين . كل هذه وغيرها لم تفت في عزمه بل كانت حياته كلها جدُّ ونشاط لم يعرف العجزُ إليه سبيلاً ولا الكسلُ لنفسه مدخلا . فإن عرجنا على عبادته صلى الله عليه وسلم فإنك تسمع عجباً ، كان يقومُ مِن الليل حتى تتورَمَ قدماه ، ويُصَلِّي مواظباً في يومِهِ وليلته على أربعين رَكْعَةً لا يَخُلُّ بها . منها سبعةَ عشرَ ركعة فرضاً، والباقي اجتهاداً وتزوداً، عشر ركعات، أو ثنتا عشرة ركعة سنة راتبة ، وإحدى عشرة، أو ثلاثَ عشرةَ ركعةً قيامه بالليل ، وما زاد على ذلك فعارِضٌ غيرُ راتبٍ زاد المعاد (1/327) . وأما بذله للمال وتفريقه للصدقات فكان يبادر أصحابه بما يأتيه من الصدقات والغنائم يوزعها عليهم ويبالغ في عطاء من يتألفهم، وهو القائل عليه الصلاة والسلام " اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا هي المعطية والسفلى هي الآخذة " وأما الصيام فلقد كان يصوم حتى يقال: إنه لا يفطر . وربما واصل الصيام فلم يفطر أياماً متواصلة مع نهيه أصحابه عن المواصلة شفقة بهم . وأما الحج فلقد حجَّ تلك الحجة التاريخية وحجَّ معه أصحابه تلك الجموع الغفيرة بين يديه وعن يمينه وعن شماله ومن خلفه ما بين راكب وماش ، فعلمهم حجهم وقال : خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا. وقال في أعظم جمع " وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون " قالوا قد بلغت وأديت ونصحت . أما أخلاقه وجميل صفاته فقد زكاه ربه بقوله (وإنك لعلى خلق عظيم) فلقد كان أحلم الناس وأشجعهم وأعدلهم وأعفهم . وكان غاية في التواضع وحسن العشرة يخصف نعله ويرقع ثوبه، ويخدم في مهنة أهله . وكان أشدَّ الناس حياء؛ لا يثبت بصره في وجه أحد ، يقبل الهدية ويثيب عليها ، يجيب دعوة العبد والحر ، يغضب لربه ، ولا يغضب لنفسه ، يقبل عذر المعتذر ويمازح أصحابه ، ولا يقول إلا حقاً ، وكان لا يمضي عليه وقت في غير عمل لله تعالى ، أو فيما لا بدَّ له منه من صلاح نفسه فصلوات الله وسلامه عليه . إنَّ من هذه بعض أوصافه حقُّ على النفوس أن تحبه فطرة قبل أن تحبه شرعه وأن تقدمه على كل أحد فليس قبل محبته إلا محبة الله الذي منَّ علينا ببعثته (لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) وكيف لا تحبه وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) . وكيف لا تحبه وهو رحمة للعالمين (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) . ثم لما بلغ أجله المكتوب شدّد عليه فعانى من سكرات الموت ما لم يعان غيرُه، ومع هذا في هذه اللحظات الحرجة كان يوص أمته ويحذرهم أن يتخذوا قبره مسجداً ، يحذر طريقة اليهود ، وأوصاهم آخر ما أوصاهم بالصلاة وما ملكت أيمانهم ، فكان يقول : الصلاة، الصلاة وما ملكت أيمانكم ... وكان يقول أيضاً: (في الرفيق الأعلى) ثم وافى ربه رافعاً بأصبعه شاخصاً ببصره راضياً مرضياً عند ربه صلى الله عليه وسلم الحمد لله ... أما بعد : - فإن الحديث عن عظمة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخلاقه وقربه من ربه مناسب في كل وقت، فالحديث عنه عبادة، ومدارسة سيرته ذكر، والتأمل في منهجه يزيد الإيمان، ويحقق ما أمر به الرحمن (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) . وكيف لا يكون أسوة وقدوة و الذي اختاره ربه فلم يختره قومه، ولم ينتخبه أصحاب أغراض ليحققوا أعراضهم . ولذا بتأييد من ربه دانت له الدنيا كلها فأعجب به أعداؤه فضلا عن أصحابه وأتباعه فهي عظمة حقيقية إذا قال فعل، وإذا فعل عدل، وإذا وعد صدق . ليس لديه لحن في قول، ولا لي بلسان، ولا شراء لذمم، فيشابه الذين قال فيهم (ولتعرفنهم في لحن القول) ، (يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب) . أمن جانبه العدو المحارب، ووثق بصدقه الغادر الخائن فلا يقابل الخيانة بخيانة أخرى (ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين) فحياته واضحة، ورسالته كاملة . حق الضعيف عنده محفوظ، بل الحرج على من تساهل به قال النبي صلى الله عليه وسلم (إني أحرج حق الضعيفين : اليتيم والمرأة) . حتى كان في آخر حياته خطب صلى الله عليه وسلم خطبة عظيمة فقرر به حقوق الدول والأفراد خطبهم في اليوم المشهود، يوم عرفة، في جمع الصحابة أعظم في الوجود . وكان من عظيم قوله (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) وألغى الدماء الجاهلية، وقرر أمور معاش الناس في اقتصادهم على أسسها فحرم الربا وأبطل العقود السابقة فيه وإن كانت لأخص أقاربه فقال (وأول ربا أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب) . والمرأة لها نصيب من خطبته فاستوصى بها خيراً، وهذا يعني أن يحفظ حقها الديني فتعلم أمر دينها وما تحتاجه في دنياها، وحفظ حقها المالي، ولم يأت في كلامه صلى الله عليه وسلم في حق المرأة أنها تساوي الرجل لا من قريب ولا بعيد لأن خالق الرجل والمرأة يقول (وليس الذكر كالأنثى)، والدعوة إلى مساواة بين الرجل والمرأة دعوة إلى ظلمها فهل تقوى المرأة على أعمال الرجال، إلا أن يقولوا: نزيد مساواة إلا في كذا . وهل يمكن أن يقوى الرجل على أعمال المرأة إلا أن يقولوا: هو مساو لها إلا في كذا فعادت مساواتهم المطلوبة ثوباً مخرقاً أستر منه وأسبغ عدل الإسلام للمرأة ومن عدله في حقها أن أبعدها عن ساحة الخصومات، وألاعيب السياسات في المناصب العليا والولايات الكبرى فقال "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" . فاعتزوا رحمكم الله بدينكم واحذروا ما يعيقكم عن دينكم الصحيح، وما يفرق جماعتكم، وما يشوش على وحدة عقيدتكم ومن ذلك ما تسمعونه وربما تشاهدونه عبر وسائل الإعلام من اشتغال كثير من المسلمين في كثير من البلدان الإسلامية بما يسمونه بالمولد النبوي، يعنون بذلك مولد النبي صلى الله عليه وسلم فيحيون أيام أول هذا الشهر ولياليه باحتفالات يجتمعون عليها ينشدون فيها المدائح النبوية، وربما كان في بعضها شركيات وتوسلات محرمة ويزعمون بذلك تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم فاعلموا رحمكم الله وأخص إخواننا الوافدين الذين قد تكون هذه المظاهر أمراً عادياً أو مشروعاً عندهم ، وربما لم يسمعوا فيها نكيراً من قبلُ . فاعلموا أنَّ الاحتفالات بالمولد أمر بدعي لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ " وهذه الاحتفالات لم يفعلها النبي صلى الله غليه وسلم ولا الصحابة من بعدهم وإنما أحدثها من أحدثها في القرن السابع الهجري لإشغال المسلمين عن شعائر عن دينهم الصحيح ، ومشابهة للنصارى في عيد المسيح . ومن كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم فإنَّ محبته تكون بطاعته ، واتباع شرعه ، ولا تكون محبته بالدعاوى. اللهم هيأ للمسلمين من أمرهم رشداً .



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 04:46 مساءً الخميس 19 مايو 1446.