• ×

د.عبدالرحمن الدهش

خطبة يوم الجمعة الموافق 28-2-1431هـ بعنوان استقيموا ولن تحصوا

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  4.9K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

إن الحمد لله ... أما بعد : - فإن مما يدركه الإنسان البصير حكمة الله في تفاوت رغبات الناس ، وتباين هممهم ومراداتهم والتأمل في ذلك لا يقل عظة وادكاراً عن التأمل في اختلاف ألسنتهم وألوانهم وإذا كان الله يقول في ذلك (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) فقد قال أيضاً في الذين يريدون العاجلة ومريدي الآخرة الساعين لها (كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض) أيها الإخوة : إن الإنسان بطبيعته التي خلقه الله عليها ضعيف في بدنه ضعيف في إدراكه وتصوراته فهو يريد كل شيء ولا يستطيع أن يدرك إلا بعضاً من شيء ثم هذا الشيء الذي أدركه لم يدركه على أتم صفة فيه وأعلى درجة منه وكلامنا هو في الإرادات الباقية التي تنفع صاحبها ويسر بلقياها (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً خير أملاً ) وفي الآية الثانية (وخير مرداً) . ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم (استقيموا ولن تحصوا) ، (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون) قضيتان يلفت إليهما كلام النبي صلى الله عليه وسلم فلن تطيق كل عمل وما تطيقه لن تحصيه أي : لن تتمه على وجهه ؛ ولأجل هذا الخلل في بنية الإنسان اقتضت حكمة الله التخفيف على عباده (علم أن لن تحصوه فتاب عليكم) إذن هي سنة إلاهية تنبه لها الصحابة رضي الله عنه فسألوا عن أفضل الأعمال وعن أحبها إلى الله وأقربها إليه . ثم تبع هذا تفاوت الناس في أخذهم من هذه الأعمال فمن الناس من فتح الله له باباً من الأعمال الصالحة فهي ديدنه ومنهم من فتح له بابان وثلاثة وأكثر فهو ينقل نفسه بين رياض هذه الأعمال وفي كل واحد من هؤلاء خير يقول النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير) فقوي الإيمان على خير وهو في علية الناس وكتابه في عليين، وضعيف الإيمان هو الآخر على خير بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم . واله تعالى يقول: (ولعبد مؤمن خير من مشرك) ، ومع ذلك هو مطالب أن يزيد في إيمانه، وأن ينشط في نفسه، وأن يلحق بالسابقين من إخوانه (احرص على ما ينفعك واستعن بالله) (والسابقون السابقون أولئك المقربون) . (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) . إنَّ المسلم حينما يدرك أنه لن يستوعب كل أبواب الخير وإن حصَّل جملة منها، فإنه يستمسك بالباب الذي فتح له على حدِّ ما يروى عن عمر رضي الله عنه (من بورك له في شيء فليلزمه) فمن الناس من يفتح الله باب الصلاة فهو ذو النفس التواقة إلى مناجاة الله في إطالة الركوع والسجود ، ينتظر الصلاة بعد الصلاة فقلبه معلق بالمساجد فإن حلَّ أو ارتحل فهو ينظر في ساعته متى الصلاة ؟ و آخر يفتح له باب في النفقات وبذل المال فهو يعطي من ماله ومن طعامه ولباسه ، راحته أن يجد فقيراً ينفعه أو مسكيناً يخفف مسكنته إن كان ذا مال فهو يبذل من ماله وإلا سعى له بمال من غيره وفي صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الخازن المسلم الأمين الذي ينفذ (وربما قال يعطي ) ما أمر به فيعطيه كاملا موفرا طيبة به نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدقين ). فالسعي في أبواب الخير وتفقد المحتاجين وإيصال الصدقات والإعانات والنظر في أسر المساجين ومن ركبتهم الديون ومن ضيق عليهم المؤجرون همٌّ يجري في عروقهم ومتعة لا يعدلها متعة مع أهل ولا ولد . فلله درهم ما أكثر خيرهم وأعم نفعهم ، فعلى الله أجرهم . أما ذاك الثالث فلا تسأل عن أنسه بالصيام ومواصلة الأيام يصوم حتى يقال لا يفطر ينتظر الأيام الفاضلة كما ينتظر الغائب غائبه وفي الصحيحين من حديث عائشة أنَّ حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم \" أأصوم في السفر ؟ - وكان كثير الصيام قال : إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر \" لحظات الإفطار لا تقاس ببهجة الدنيا كلها ، فهو يصوم سراً وعلانية . ومع هؤلاء وبينهم قوم آخرون قد خصَّهم الله واصطفاهم ليكون أكنافاً موطئة لوالديهم فهم بررة بآبائهم وأمهاتهم يبذلون وقتهم وجهدهم ومالهم في الإحسان لهم ودفع ما يزعجهم فلا يرون راحة لهم إلا أن يرتاح والداهم ، فهم يسهرون ويسافرون ويهضمون أنفسهم لأجل والديهم . بلغ برهم مبلغ الخيال، وانتهى إلى أعالي الجبال . فبرهم أرجى عمل عندهم . وفي قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة توسل أحدهم للخلاص من كربهم ببره والديه وأنه لا يقدم عليهم أهلاً ولا ولداً فصار بره من أسباب خلاص من الموت وخلاص رفاقه . ومن أعظم الفتوحات في الأعمال أن يفتح الله على بعض الناس حبَّ الخير للغير فهو الناصح للمقصر والمعلم للجاهل والمذكر للناسي فالمتجاسرون على حدود الله هم شغله الشاغل والمتورطون في المنكرات هم محل تفكيره يرى هداية الخلق بالكلمة المشفقة ، والقدوة الناصحة واجباً عليه ، وبيان شرع الله للغافلين بالحكمة والموعظة الحسنة غاية مراميه . فهذا وأمثاله قد ارتاضت نفوسهم على سب الجاهلين وسخرية المجرمين وتغامز السافلين . فمهمة الرسل مهمتهم ، ولهم في صبر النبي صلى الله عليه وسلم المثل الذي تعلو بهم همتهم . فما أكبر نفوسهم وما أعظم أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم . كتب عبد الله العُمري العابد إلى الإمام مالك رحمهما الله: يحضُّه على العُزلةِ والعمَل المنفرد، فكتب إليه الإمام مالك رحمه الله : \"إنَّ الله قسم الأعمالَ كما قسم الأرزاق، فرُبّ رجلٍ فُتِح له في الصلاة ولم يفتَح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقةِ ولم يفتَح له في الصوم\"، ثم يقول الإمام مالك : \"ونشرُ العلم من أفضلِ أعمال البرّ، وقد رضيتُ بما فُتح لي فيه ، وما أظنّ ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكونَ كلانا على برٍّ وخير\" وصدق رحمه الله والله تعالى يقول (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره) . بارك الله لي ولكم ... الحمد لله أما بعد :- فتنوع الأعمال التي فتحها الله على عباده لا حدَّ له، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال المؤمن حارث وهمام فهو حارث بفعله يباشر أعماله، وما لا يستطيعه فهو همَّام به أي : له نية حسنة فيه لو استطاعه لعمله . فالتاجر في عمله والموظف في وظيفته والمعلم بين طلابه وصاحب الرأي برأيه ومشورته كل بحسبه وحيث يضعها يجدها ، ولا تزال دائرة الخير والعمل تتسع حتى لا تدع لأحد عذراً وتأمل جيداً ما رواه أبو ذرّ رضي الله عنه قال: يا رسول الله، أيّ الأعمال أفضل؟ قال: (إيمانٌ بالله، وجهاد في سبيله)، قال: فأيّ الرِّقاب أفضل؟ قال: (أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها ، قال: أرأيتَ إن لم أفعل؟ قال: تعين صانعًا أو تصنَع لأخرَق ، قال: أرأيت إن ضعفتُ عن بعض العمل ؟ قال: تكف شرَّك عن الناس ، فإنّه صدقة تصدَّقُ بها على نفسك) متفق عليه . فاعرف يا عبد الله : أين تضع نفسك في ميدان العمل وفي حياة المسارعة والمسابقة (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) (سابقوا إلى مغفرة من ربكم) . أيها الأخوة: من الناس من تنبه لأعمال صالحة أوجبتها ظروف الحياة، فوفق لعمل نافع هو ابن وقته فجاء عملهم سداً لحاجة قائمة، ومع ذلك لهم تحسب لامتداد الحاجة، وتطور الطلب، وتشعب المسؤولية، بعد أن أدركوا أنَّ هذه الجهود يجب ألا ترتبط بأشخاصهم فكانت لهم نظرة صائبة في تأسيس لبنات المستقبل، استغلالاً للفرص الحاضرة . وحيث كانت هذه الجهود مؤسسة على التقوى نحسبها كذلك، ترجو ما عند الله، وهي بهذه الصفة من الإحسان الذي قال الله فيه (إن رحمة الله قريب من المحسنين) وهي من أسباب تحصيل محبة الله وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم \"أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس و أحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم\" حديث له طرق حسنه الألباني . حيث كانت كذلك فإن نذكر شيئاً من أعمال الخير التي آتت ثمارها جبراً لقلوب منكسرة، ومواساة لقوم هم بأمس الحاجة لمن يأخذ بأيديهم، ويخفف مصابهم، ويتعاهد إيمانهم بتصبيرهم، وفتح باب الأمل في وجوههم، وإزاحة حظ الشيطان الذي يؤسهم من رحمة الله . إن نذكر من هذه الأعمال الخيرية شيئاً وهي كثيرة ولله الحمد فإن جهداً عني بمرضى السرطان عافانا الله وإياكم منه، وكشف كرب كل من أبتلي به . نعم مركز خيري لرعاية ومساندة مرضى السرطان تابع لجمعية البر الخيرية بالمحافظة . وهو اسم دال على مسماه ولله الحمد رغم قصر عمره وقرب افتتاحه فقد خط طريقة ضمن مشاريع الخير في هذا البلد فسجل فيه عدد ممن قدَّر الله عليهم هذا المرض فوجدوا الرعاية المعنوية والمالية والمتابعة من مدير المركز وفريق العمل معه، وأمام هذه الجهود لا نستطيع إلا أن نقول هنيئاً لمن استعمله الله في طاعته وجعل حوائج بعض عباده تقضى على يديه فكيف بضرورياتهم وكشف كربهم . فحق هؤلاء أن يذكروا ويشكروا، وأن يدعى لهم في ظهر الغيب بالتوفيق حيث بذلوا جهدهم وتفكيرهم ووقتهم لا لشيء عاجل وإنما لشيء آجل وما عند خير وأبقى . ثم من علم من نفسه قدره في دفع عجلة هذا المركز وتطويره فالقائمون عليه من أسعد بذلك, ومن دفع إليهم شيئا من زكاته أو صدقته فقد وقعت بإذن الله محلها، ومن ساهم في الوقف الخيري الذي هم ساعون في إتمامه ليكون رافدا لاحتياجات المركز فهو من الصدقة الخارجية (وإذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث أحدها صدقة جارية) . فاللهم اجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى . اللهم بارك في جهود القائمين على مشاريع الخير في البلد واجعل عملهم مشكوراً وسعيهم مبروراً . اللهم اجعلها سباً لحفظ هذا البلد من كيد الكائدين، وحسد الحاسدين .

 



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 09:13 مساءً الثلاثاء 1 يونيو 1446.