إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله r
أما بعد :-
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ ، والمبادرةِ بالأعمال الصالحة ، قال النبي r " بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا ".
عباد الله: إن كل عاقل ذا فطرة سليمة يعلم أن الشيء الثمين حقُّه الحِفْظ في المكان الأمين ، فيعابُ عليه أن يضعه في مكان يكون عرضة للضياع ،أو تصل إليه أيدي السُّراق ، كما يعاب عليه أيضاً أن يضعه في مكان لا يناسبه فيلحقه به ضرر يفسده، أو ينقص قيمته
ألا وإنَّ أغلى ما يملكه الإنسان في هذه الدنيا دينه الذي به سعادته في الدنيا، ونجاته في الأخرى.
فواجب على الإنسان أن يحفظ دينه حفظه لماله بل أشدُّ .
عباد الله : إن على المسلم كما أنَّه يتعرض لأسباب الهداية والاستقامة ، وما به صلاحه عليه أيضاً أن ينأى بنفسه عن مواطن الفتن ، ومظنة تغير القلب .
وإنَّ من مناهج الناس في قضاء إجازتهم ، أو بعضاً منها السفرَ في أرض الله ، والسياحة في أرجائها ، والمشي في مناكبها ) هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها (
وإنَّ على السائح في الأرض أن يراعي آداب السفر فلا يفرطْ في واجبٍ ، أو يقع في محرم ، يعلم أنَّ الله مطلع عليه في سفره كما هو عزَّ وجَلَّ مطلعٌ عليه في حضره .
فأوَّلُ ما يجب على من أراد السفر أن يحسن اختيار المكان الذي يسافر إليه فلا يسافر إلى البلاد والأماكن التي نهي النبي r عن دخولها فقد نهى النبي r عن الدخول لديار المعذبين ، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال : لما مرَّ النبي r بالحجر ، قال : " لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوها ، لا يصيبكم مثلُ ما أصابهم " متفق عليه ([1]) .
والحجر هي ديار ثمود ، ويعرفها الناس بمدائن صالح شمال المدينة .
والحديث عامٌّ في سائر أماكن العذابِ .
ومن مراعاة مكان السفر ألا يسافر إلى بلاد ظهر فيها الفساد ، وتيسرت فيها أسباب المعصية ، وانتشرت فيها الرذيلة ، وطمست فيها كثيرٌ من معالم الفضيلة من بلاد الشرق أو الغرب ، القريبة أو البعيدة .
فصارت شَرَكاً يصادُ بها من كثرَ ماله ، وقلَّ دينه ، وساق نفسه إلى الفتنة سوقاً .
إنَّ مصيبتنا عظمى في أبنائنا وإخواننا الذين أعدُّوا للسفر عدَّته ، قاصدين مجتمعات مشبوهة باسم الفرجة والسياحة مستجيبين للدِّعايات المغررة ، منخدعين بالتسهيلات والحجوزات الميسرة ، والخدمات المعلنة .
إنَّ هذه الدعايات للسفر إلى بلاد الخارج التي تطالعها في صحيفة أو مجلة ، أو عبر قناةٍ ما إنها تعرض الوجهَ المنَمَّقَ المرغوبَ فيه في تلك البلاد .
تريك صورة البحر والنهر تمخره القوارب ، وصورة السكن و الغرف فيها النمارقُ ، والأعمدة المتهدمة زعموها بقايا حضارةٍ بائدةٍ .
تخاطب فيك بطنك لا عقلك فهي تغريك ، وتسيل لعابك بمأكولاتها الشرقية والغربية ، وأنواع مقبلاتها وأصناف حلوياتها
ناهيك عن دعايات قلَّ حياؤها وأظهرت فسادها وإفسادها فعرضت صُوَرَ المومِساتِ ، وكتبت ما كتبت من رديء القول والكلماتِ ، وأعلنت عن غناء وطرب وحفلات .
وصدق النبي r " دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه "
( وإنَّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت )
فمال هذه الدعايات إن كانت ناصحة في دعايتها ، صادقة في عروضها ، دنياً لا ديناً .
مالها لا تعرض أو تشير إلى أنه عليك أيها السائح : أن تحذر فإنَّ هناك من يتربص بالسائحين ليأخذ ما استطاع من أموالهم في حين غفلة منهم .
وهناك من يتظاهر بالدَّلالة والنصح لهم ليأخذ ما غفلوا عنه من متاعهم .
وليس عند هذا ولا ذاك أدنى مانعٍ أن يضرب أو يجرح بل ويقتل لتحقيق أيِّ غرض عَنَّ في خاطره ، واجتهد في تحقيقه .
وسرقة المال والمتاع تهون عند سرقة الدين .
وما بال هذه الدعايات لا تجمع مع دعايتها الترغيبية - للبلاد التي زعموها سياحية - ما بالها لا تجمع التحذير من مروجي المخدرات ، ومستحلي الخمور الذين يسمُّونها بغير اسمها . يتلقفون السياح ، يبادرونهم ما حرَّم الله ، وما يفسد عليهم دينهم ، ويقضي على مروءتهم .
بل ، ما لها لا تحذر من سماسرة الخنا ، والدعاة إلى اللواط والزنا ، وحاملاتِ الأمراض ، وناقلاتِ الإديز .
بل ، مالها لا تحذر من السَّحَرَةِ الكافرين ، والكهنة الكاذبين الذين ربما استجروا المغفلين لسحرهم ودجلهم تحت مسمَّى الألعاب المسلية ، أو ليستكشفوا له حظاً ، أو يعطف لها زوجاً ، أو ليداووا مريضاً .
وكيف يحذرون من هذه وهذه بضاعتهم ، ولأجلها اجهدوا أنفسهم ؟.
أبعد هذا وذاك تشكَّ أيها المسلم أنك مستهدف في دينك ، وفي أخلاقك ، وفي القرش الذي تحمله في جيبك ؟.
( ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً )
وإلا فما معنى أن يرجع بعض السائحين وقد تنكر لدينه ، وثقلت عليه عبادة ربِّه إلا من هول الفتنة ، وقوة العاصفة، وشدة القاصفة .
يعود متبرماً من أهله وولده ، يندب حظَّه ، ويعلن حسرته من انقطاع سفره .
يعود بحسده ، وقلبه معلق في البلد الذي قدم منه
ألا فليتّق الله أناس اختاروا بلاداً هذا بعض ما فيها ، ليتَّقوا الله وليعيدوا النظر في سفرهم فُرادى، أو بأولادهم وأهليهم فعظم الفتنة لا يغفل وإن حسن الجو واخضرت عندهم الأرض .
) أ فمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإنَّ الله يضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك حسراتٍ عليهم إنَّ الله عليم بما يصنعون ( .
الحمد لله فاضل بين الرغبات ، وجعل همة الصالحين في الباقياتِ .
وأشهد ألا إله إلا الله يرفع من يشاء الدرجات ، ويكفر الخطيئات .
وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ذوي الهمم العاليات .
أما بعد :-
فأنتَ - أيها الموفق الذي اختار بلاده على غيرها من بلادٍ سبق وصفها . وعلم أنَّ ما فاته مما يُزْغَمُ هناك فعوضه حفظ الدين ، وسماعُ النداء للصلوات ، وحماية المحارم ، والسفهاء من البنين والبنات .
تذكَّر أنَّ السفرَ كما قال النبي r : السفرُ قطعة من العذاب ، ولكنَّ الله يسر في زماننا هذا السبل فلم يعد المسافر يجد الكلفة التي يجدها الأولون ، قربت المسافات ، وتطورت وتعددت الناقلات ، فلله الحمدُ والشكرُ .
والسفر للنزهة والترويح على النفس، الأهل والأولاد مباح يؤجر الإنسان عليه مع النية الصالحة ، ومراعاة الحدود الشرعية هو فرصة سانحة يوجه الإنسانُ فيها أهله ، ويربي فيها أولاده ، ويقف على أمورٍ قد لا يبديها إلا السفر معهم .
فإليك بعض الآداب تذكيراً لا تعليماً .
فلقد سافر النبي r بعد سفره لهجرته سافر لأحد أغراض ثلاثة ، سافر مجاهداً في سبيل الله ، وسافر معتمراً ، ثم سافر حاجاً .
وكان النبي r إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفرٍ ، كبَّر ثلاثاً ، ثمَّ قال :
" سبحان الذي سخَّر لنا هذا وما كنَّا له مقرنين وإنَّا إلى ربنا لمنقلبون "
اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقي ، ومن العملِ ما ترضى ، اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا ، واطو عنَّا بعده ، أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل ، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر ، وكآبة المنظر ، وسوء المنقلب في المال والأهل "
وإذا رجع قالهنَّ ، وزاد فيهنَّ :
آيبون ، تائبون ، عابدون ، لربنا حامدون "
وكان الرسول r وأصحابه إذا علوا الثنايا وهي الأماكن المرتفعة - كبَّروا ، وإذا هبطوا سبَّحوا "
ثمَّ لا يكن للشيطان نصيب في سفرك فتضيع أو تتكاسلَ عن صلاة مكتوبة ، أو تفرط في حفظ من وجب عليك حفظهم من الأولاد والمحارم .
فتحفظهم مما يؤذيهم أو يضر بهم في أبدانهم فلا تسمح لهم بالذهاب إلى ما فيه خطرٌ عليهم .
أو يضرهم في أديانهم فلا تأذن لهم بالذهاب إلى أماكن فتنة فيها اختلاط ، أو تساهل من نساء في الحجاب ، أو سماع محرم من أغاني ، أو مشاهدات .
فهذه الأماكن لا يجوز الذهاب إليها إلا لمنكر لفسادها ، سواء تسمَّت باسم حدائق ، أو ملاهي ، أو أماكن ألعاب وترفيه ، أو مسارح، أو غير ذلك .
ولا يليق بالأب الذي حفظ أولاده في بلده أن يضيعهم إذا سافر بهم .
فإياك أن تقرَّ عينك إلا أن يكونَ أولادك تحت ناظريك فالسفر لا يبيح للأب أو غيره أن يخرج أولاده متى شاؤا إلى أسواق البلد الذي سافروا إليه ، والسفر ليس عذراً في السَّهر إلى الفجر أو قربه .
والسفر ليس عذراً أن يتميع الأبناء فيلبسوا البناطيل مسرحين شعورهم متسكعين في الأسواق
والسفر ليس عذراً أن تخلع البنت المراهقة حياءها في لباسها ومشيها على مرأى من وليها أو على حين غفلة .
فاتقوا الله عباد الله ، وقوا أنفسكم وأهليكم ناراَ وقودها الناس والحجارة
وبعد هذا يا عبد الله - تذكر بسفرك هذا القصير سفرك الطويل الذي عدته من نوعٍ آخر عدته العمل الصالح ، وزاده التقوى ، وتزودوا فإنَّ خير الزادِ التقوى .
ثم تذكر حينما تَجَمَّعُ متاعَك ، وتركُبَ أولادِك وتقلُّهم في سائرة أو طائرة أن هناك من جمع أولاده ومتاعه هرباً من زلازل مدمرة ، أو حروب مستمرة وقصفٍ متوالٍ فهو يخرج هارباً مضطراً ، وأنت تخرج سائحاً مختاراً !
تذكر ذلك لتعرف نعمة الله لديك ، وعِظَمَ الأمن الذي أسبغه ربك عليك .
) ولئن شكرتم لأزيدَنَّكم (
رزقني الله وإياكم شكر نعمته ، وحسن الرجوعِ إليه
([1]) ينظر : الفتح (6/378) ، اقتضاء الصراط المستقيم (80) ، زاد المعاد (3/532) . ذكر في الفتح أن في رواية أحمد ( فإن لم تكونوا باكين فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم )