الحمد لله أمر بالصدق ، وحثَّ عليه ، وأعظم أجره وما رتَّب عليه ، فقال تعالى (والذي جاء بالصدق وصدَّق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك جزاء المحسنين)
وأشهد ألا إله إلا الله رب العالمين ..
أما بعد :
فإنَّ أعظم الصدق الصدقُ مع الله وفاءً بعهده بفعل أمره ، وترك نهيه
(ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألاَّ تعبدوا الشيطان إنه لكم عدوٌ مبينٌ )
فعهدُ الله لعباده أن يعبدوه ، ولا يشركوا به شيئاً، وهو حق الله على العباد .
وفي حديث سيد الاستغفار الذي من قاله حين يمسي فمات من ليلته دخل الجنة ، ومن قاله حين يصبح فمات من يومه دخل الجنة .
في هذا الحديث يقولُ العبدُ \" اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت \"
التزامُ تامٌ ، وتعهدٌ للرب جلَّ وعلا أنه على عهده ووعده
فيفلح حينئذ الصادقون بهذا الالتزام المراعون لهذا العهد، ومن نكث فوقع فيما حرم الله عليه واجترأ على ما نهاه ربه عنه مَن نكث فإنما ينكث على نفسه .
ثمَّ بعد هذا الصدقِ الأعظم الصدق مع الله يأتي الصدق مع عباد الله متحرياً مواطنه مبتعداً عما يناقضه من كذب وخيانة، ولا يزال كذلك حتى يبلغ مرتبة عظيمة ليس فوقها إلا مرتبةُ النبيين ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال \" إنَّ الصدقَ يهدي إلى البر ، وإنَّ البر يهدي إلى الجنة ، وإنَّ الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صدِّيقاً \"
وإنه بالصدق تستقيم الأحوال وتطمئنُّ القلوبُ ، ويثقُ كلٌ بصاحبه، وإنَّ مجتمعاً تخلَّق أهله بالصدق حريٌّ أهله بكل خيرٍ وتوفيقٍ .
وإن الصدق كما يكون في الأخبار، في قولها ونقلها ، فلا يقول عن نفسه أو غيره إلا صدقاً ، ويكون في نقلها فلا ينقل إلا ما علم صدقَه ، فلا زيادةَ ولا نقص فيما ينقل ، وخاصة عن العلماء وطلبة العلم ولمن لقولهم اعتبار ، ودع عنك الأراجيف، ونقولات المتهورين، وقد كره الله لنا قيل وقال .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم \" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت \"
وإنَّ الصدق كما هو في الأخبار نقلها وقولها يكون أيضاً في المعاملات بين الناس في بيوعهم وإجاراتهم ، وشركاتهم وغيرها .
قال النبي صلى الله عليه وسلم \" البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركت بيعهمت \" متفق عليه .
فليس من الصدق أن يبيع سلعة علم عيبها، أو رداءة نوعها ثم لا يبين للمشتري ذلك .
وليس عذراً له أن يقولَ : لِم لم يسأل المشتري، أو يقول: ها هي السلعة أمامه لم لم يفتش فيها ؟
وليس عذراً أن يجعل التبعة على العامل الذي هو تحت أمره ونهيه .
كل هذه وغيرها أعذار بل معاذير لا يقبلها الناس منه، فكيف يظنها منجية له عند الله .
فاتق الله أيها البائع، واصدق المشتري يبارك الله لك البيع
وعلى أصحاب العقار ومعارض السيارات خصوصاً أن يتقوا الله في عرضهم لعقارهم وسيارتهم فلا يجوز لهم أن يستغلوا غفلة المشتري، وجهلة بالأسعار كما لا يجوز لهم أن يستغلوا حاجة البائع ورغبته المستعجلة في البيع، وإن من عدم الصدق ومن الغش أيضاً ، أن يظهر لمن أراد بيع عقاره أو سيارته مثلاً ، أن يظهر له قلة الراغبين فيها، وأنها لا تساوي الثمن الذي يريده ، أو يكون قد قصر في عرضها على المشترين ، أو يتبين فيما بعد أنه اشتراها لنفسه أو صديقه ، أو قريبه ، وقد حاباه في ثمنها فاتقوا الله في ذلك واصدقوا البائع والمشتري فأنتم أمناء وواسطة خيرٍ إن صدقتم في وساطتكم تحصل بذلك الأجر من الله وحسن الثناء والشكر من عباد الله ، ولا يزال الناس يثنون على من عرفوا نصحه ، وصدق مشورته .
وإن الصدق أيضاً يكون في طلب الوظائف والمسابقات الوظيفية واختبارات القبول والترشيح، ودورات الترفيع فلا يظهر لهم شرطاً ليس فيه، أو ينفي عن نفسه مانعاً من توظيفه هو موجود فيه .
واصدق يا عبد الله ، يا طالب الوظيفة في بيان حالك ولا تملأ استبانة التقديم إلا بما هو صدق مطابق للواقع، واعلم أنه لا مانع لما أعطى الله ، ولا معطي لما منع الله وكل شيء عنده بمقدار، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها ثم الصدق بعد ذلك في الوظائف في أداء الأمانة التي كلف بها الموظف محافظاً على زمن الدوام ، مستفرغاً قدرته في تتمة أعماله المطلوبة منه، فلا يجوز له مماطلة المراجعين وإعطاؤهم المواعيد البعيدة لأعمال يمكن إنجازها بأوقاتٍ قريبةٍ، فاصدق أيها الموظف مراجعيك تبرأ ذمتك، وتيسر على عباد الله أمورهم
و لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه .
وواجب على كل أحد أن يشيع الصدق في المجتمع، ويحذر من الكذابين بعد نصحهم فلا يجوز أن يبقَى الكذِب أو يُعتاد على وجودِه.
ويجب أن يربى النشأ على هذه الصفة العظيمة، وعلى تحذيرهم من الكذب، وأول مراحل ذلك القدوة الصادقة بحيث لا ترى الكذب في والديها، ولا تشهدها في بيتها فعن عبد الله بن عامرٍ أنه قال: دعَتني أمّي يومًا ورسول الله قاعدٌ في بيتنا، فقالت: ها تعالَ أعطك، فقال لها رسول الله : \"وما أردْتِ أنْ تعطِيه؟ \" قالت: أُعطيهِ تمرًا، فقال لها رسول الله : \"أما إنَّكِ لوْ لم تعطِه شيئًا كُتِبَتْ عليكِ كذِبة \" رواه أبو داود بإسناد حسن، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: \" من قالَ لصبيٍّ: تعالَ هاكَ ثم لم يعطِه فهي كِذبَة \" رواه الإمام أحمد بإسنادٍ صحيح.
إنّه لا تهاونَ في الكذب، ولا عذر للكذابين ولو كان للتسليَة أو المزاح، فعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جدِّه رضي الله عنهم قال: سمعتُ رسول الله يقول: ((ويلٌ للذِي يحدِّثُ بالحديثِ ليُضحِكَ بهِ القوم فيكْذِب، ويلٌ له، ويلٌ له)) حديث صحيح رواه أحمد وأبو داود والترمذيّ والنسائيّ، وقال الترمذي: \"حسنٌ صحيح\". فارفقوا أيها المنكتون بأنفسكم، واحفظوا كلماتكم، وعدوا أنفاسكم، وفي الصدق غنية عن الكذب، وفي الحق غنية عن الباطل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمازح أصحابه ولا يقول إلا حقاً .
أقول قولي هذا
الحمد لله
إنَّ من الصدق ما يسميه بعض الناس الوضوح فالرجل الواضح هو الرجل الصادق الذي لا يعمي في أخباره وتصرفاته ، ولا ينشغل بتبرير أخطائه وتجاوزاته .
فاصدق ، يا عبد الله : في أمرك كله .
واعلم أنَّ مرارة الصِّدق وكلفته على نفسك أهون من مرارة تبعات التعمية وإظهار الأمر ملفقاً قد شدَّ بخيوط العنكبوت ينفرط في أول قارعة ويتبدد عند أول مواجهة.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (قل الحق ولو كان مراً) صححه ابن حبان .
وإنَّ من أوضح ما يفقد فيه الصدق ويرتكب فيه الإنسان وهو الظلوم الجهول مركباً صعباً ما يتعلق بالمعاملات المالية .
فمما يفت الفؤاد فتاً أن يبدي الإنسان حاجته في المساعدة في أجرة بيته أو في علاج ولده أو سداد فاتورة كهربه أو نحو ذلك ثم يتبين أنَّ هذه الحاجة قد قضيت من محسن سابق ولكن يتزود وحجته أنَّه فقير
ألا فليعلم أنَّ من فتح على نفسه باب مسألة فقد فتح على نفسه باب فقر !!
ومن ذلك أن يتوارى الغريم من غريمه ليسلم من مساءلته عن دينه ، وكذا المستأجر من مؤجره . فإن كان قادراً فهي مماطلة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول مطل الغني ظلم \"
وإن كان غير قادر فما كان الجزاء بمثل هذا للمحسن
والواجب أن تكون واضحاً وتبدي له عذرك وأنك معسر ثم هو واجب عليه إنظارك لقوله تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) .
لقد امتنع بعض القادرين عن بذل أموالهم للمقترضين لأن طائفة من المقترضين شوَّهوا صورة المقترضين بعدم وفائهم وتواريهم عمَّن أحسن إليهم بإقراضهم .
فانقطع جانب من الإحسان (ومن أقرض مسلماً قرضين كان له أجر صدقة)
لقد أفلح قوم اعتذروا عن قبول زكوات تعرض عليهم وقالوا هي أوساخ الناس وقد أغنانا الله .
وأفلح آخرون حينما أحجموا عن تقديم أسمائهم لجهات خيرية مستغنين بالله متورعين أن يكونوا ممن يستحق تلك المساعدات إنَّ هؤلاء يبشرون بقول الله تعالى (لئن شكرتم لأزيدنكم) .
فالشاكر موعود بالزيادة وأعظم الزيادة زيادة الإيمان والقناعة بقسم الرحمن .
فاللهم اجعلنا من الشاكرين لنعمك المثنين بها عليك، ونعوذ بك من كفران النعم ، والتعلق بما في أيدي الناس ...
للاستماع للخطبة من هنا