الحمد لله لا كاشف للكرب إلا هو ، ولا مغيث للمستغيثين إلا هو ، أمر بطاعته ووعد من أطاعته بجنته ونجاته ، وحذر معصيته وتوعد من عصاه بدار نقمته ، وزوال نعمته .
وأشهد ألا إله الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :-
فإنَّ الله يقدر المصيبة ، وينزل النازلة ليرجع العبد إلى ربه ، ويقلع عن غفلته وغيه .
(ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون)
(وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو )
حدَّث النبي r أصحابه يوماً قصَّة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدخلوه ، ولم يجر في خاطرهم أنَّ هذا الغار هو محل فتنة لهم ، وعلى ضيقه إلا أنه مكان اتصال بربهم وصدق مع خالقهم .
انحدرت صخرة عليهم من أعلى الجبل فسدَّت عليهم الغار .
فعظمت حينئذٍ مصيبتهم، وانعدمت بالناس صلتهم.
فقالوا: لا ينجيكم من الورطة، ولا يزحزح عنكم الصخرة، إلا القادر على كلِّ شيء الذي يجيب المضطر إذا دعاه.
فادعوا الله بصالح أعمالكم.
وهكذا يتوجه العارفون، و لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون .
فقال أولهم : اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا و لا مالاً. أيْ: لا أقدَّم في الشرب قبلهما أحدا.
فتأخر عليهما ليلة حتى نام أبواه قبل أن يأتي إليهما فلما وجدهما نائمين، انتظر استيقاظهما، والقدح في يده، ولم يرض أن يسقي صبيته قبل أبويه، ولم يستيقظ أبواه حتى برق الفجر .
قال: اللهم إن كنت صنعت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه.
فانفرجت الصخرة شيئاً قليلاً لا يستطيعون الخروج معه .
ثم تقدم الآخر، وتوسل إلى الله بتركه الفاحشة بابنة عمه التي يحبها لما قالت له: اتق الله ولا تفضن الخاتم إلا بحقه، فقال: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه .
فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج .
وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمَّرت أجره حتى كثر، فجاء بعد حين يريد أجره.
فقلت: كل ما ترى من إبل وبقر وغنم ورقيقٍ هو أجرك.
فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي !!
فقلت: لا أستهزأ بك، فأخذه كله فاستاقه.
اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون.
قصة عجيبة وكرب عظيم وموت محقق نجى الله منه ، وكذلك ينجي الله المؤمنين.
فمن أعظم عبر ومواعظ هذه القصة فضيلة إخلاص العمل لله، فيعمل المؤمن من أجل الله لا يريد من أحد جزاء ولا شكورا .
فإخلاصهم كان سبباً في خلاصهم.
فأولهم توسل إلى الله بعبادة عظيمة أخلصها لله توسل ببر والديه، وحرصه على راحتهما وعدم تنغيصِ النوم عليهما، بل وإيثارهما على أولاده .
وحب الأولاد طبع، وحب الوالدين شرع
والنفس ربما قدمت الطبع على الشرع، ولكن هذا غلب الشرع على الطبع ، وهذا ما لا يستطيعه إلا من قوي إيمانه، وحزم مع نفسه .
فيا من عقَّ والديه أو أحدهما ؟
ماذا أعددت للنوائب، ونوازل المصائب ؟
أتتوسل لربك بعقوقك ؟ وتقديمك زوجَك وولدَك .
بل أما علمت أن العقوقَ نفسه سبب للمصائب والنوازل قال النبي r : اجتنبوا السبع الموبقات، وأحدها عقوق الأمهات .
أما الرجل الثاني من الثلاثة، فهو من ترك المحرم لله بعد أن تمكن منه، ولم يحل دون ارتكابه حائل.
إلا حائلُ التقوى، حُرِّك في قلبه فتحرك، وذكِّر به فتذكر ( اتق الله ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقه ).
فقام عن الفاحشة، وانصرف عن الزنا خاف مقامه ربه فنهى النفس عن الهوى .
قام عن الفاحشة تعظيماً لله، ليس انغلاقاً نفسياً، وإعراضاً لا إرادياً، بل قام عن ابنة عمه وهي أحب الناس إليه .
فأين هذا ممن يبذل ماله ، وفكره ، وجهده ، وسلامة دينه مقابل ما هو أقل من ذلك من نظرة أو نظرات محرمة، ويقال له: اتق الله ، ويخوف بسطوة الله وقرب انتقامه ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون .
والله تعالى يقول :] يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور [ .
أما ثالث الثلاثة فقد تقرب إلى الله بالأمانة، وحفظ حق الضعيف، ولم يأكل عليه ماله بحجة أنه هو الذي تركه .
بل لم يقتصر عمل هذا أن حفظ الأمانة على وجهها، بل كان محسناً، فنَّمى المال لصاحبه، ولم يتردد بدفعه إليه فغلب بهذا شحَّ نفسه ، (ومن يوق شحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون).
فتأمل هذا أيها المؤتمن على مال غيره ، ويا أيها القائم على مال أيتام والناظر على أوقاف أموات أو أحياء .
وتأمل هذا أيها المستأجر في أجرة ما استأجرته
وتأمل هذا ثم تأمله أيها الكفيل في مرتبات من كفلته، وفي مستحقات من استقدمته .
] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدَّمت لغدٍ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني الله وإياكم بهدي سيد المرسلين ، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب
الحمد لله...
أما بعد :-
فقد رأيتم في قصة أصحاب الغار الثلاثة أموراً عظاماً وتبين أنه لا ملجأ من الله إلا إليه مهما زيَّن الشيطان للإنسان استغناءه عن ربه، واستقلاله بنفسه فإنها دعوى سرعان ما يتبين للإنسان زيفها، ومخادعة نفس عن قريب يتبين بطلانها .
(ثم إذا مسَّكم الضرُّ فإليه تجأرون)
(وإذا مسَّ الناس ضرٌّ دعوا ربهم منيبين إليه)
(أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أأله مع الله قليلاً ما تذكرون).
أدركوا هذا وتبصروا به جيداً لا سيما في هذه الحقبة من الزمن وأنتم تسمعون وتتابعون أحداثاً عظيمة، اضطرابات متنوعة، وقتل وتفجير، وحروب وتدمير، شعوب يموج بعضها في بعض .
وأنتم في منأى عن هذا كله .
لئن ابتلي أولئك القوم بفتنة الضراء وصروف الدهر فإننا تعيش فتنة أخرى فتنة السراء ونعمة الأمن والتمكين في الأرض ورغد العيش وهذه الفتنة الابتلاء فيها لا يقل عن الابتلاء في فتنة الضراء والله تعالى يقول (ونبلوكم بالشر والخير فتنة)
فاصدقوا الله عباد الله واعلموا أنَّ للنعم قيداً تقيد به وهو شكرها وبذلها فيما يعين على طاعة الله .
وأنَّ لها أسباباً تزول بها وتمحق بركتها وذلك إذا استعين بها على ما يغضب الله أو كانت سبباً في ترك ما أوجب الله والوقوع في محارمه .
أيها الأخ المبارك : تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة حينما يهجم عليك ما لا طاقة لك بدفعه من مرض أو فقر أو قلق نفسي أو حاجة من حوائج الدنيا لك فيها مصلحة استعصى عليك حصولها فالله كاشف الملمات ومزيح بلطفه الكربات، فاحفظ الله يا عبد الله يحفظك .
أيها الإخوة لقد أجمل النبي صلى الله عليه وسلم أسباب الخروج من الأزمات والنجاة من المهلكات حينما حدث الصحابة بقصة هؤلاء الثلاثة النفر .
والأمة الإسلامية أحوج ما تكون إلى أن تتدارس أسباب خروجها من أزماتها التي حبكها أعداؤها وأتقنوا حياكتها وتحقق في الأمة المحمدية الغثائية التي حدث عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها، قال: قلنا يا رسول الله أمن قلة نحن يومئذ! قال: لا، أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل ينتزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن قال قلنا: وما الوهن ؟
قال حب الدنيا وكراهية الموت"
إن أسباب الخروج من ذلك كله هو بإخلاص العمل لله وهو أعظم حق لله ثم في حقوق الآدميين وأعظمهم الوالدان، برعايتهما وحسن برهما أحياء وأمواتاً، ثم حقوق غيرهم بحفظ أعراضهم وعدم التطلع إلى ما حرم الله منهم وتعظيم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
ثم حقوقهم المالية وعدم التساهل فيما لهم من متطلبات والتزامات بتأخير أو منع .
فهذه من أعظم أسباب الدفع عن الأمة وإعادة هيبتها في زمن هان المسلمون فيه على الأمم وأصبحت قضاياهم المشروعة عين الشمس محل استجداء من الأمم الكافرة في محافلهم ومؤتمراتهم ولكن (من يهن الله فماله من مكرم) .
(ومن تعلق بشيء وكل إليه) .
فاللهم هيئ لأمة محمد من أمرها رشدا ...