نقاط الخطبة :-
1. حقيقة الأيام والعظة منها.
2. أعظم العظة العظة بالقرآن .
3. تعليق على سورة التكاثر، وبيان مجالات التكاثر المذموم .
4. تنبيهات حول حفظ الأولاد في أبدانهم وأخلاقهم.
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لإله إلا هو إليه المصبر . وأشهد ألا إله إلا هو العليم الخبير . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير . صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم ... أما بعد :-
فهاهي أيام ما تسمى بالإجازة تفرش بساطها، تؤذن أيامها بالنزول ، وتنادي ساعاتها بالمقام والحلول . سنة كونية ودورة زمنية، أيام شاهدة، ومحطات عمرية، نسميها إجازة وما هي بإجازة لأنَّ الله يقول (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين) ، (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) معاشر الفضلاء : هل رأيتم يوماً انقضى وقد انقضت منه رغبتكم، هل مرَّ عليكم وقت قلتم هاتوا ما بعده فقد ملأناه بما نريد من عمل الدين والدنيا . أبداً والله لولا طول الأمل وحديث النفس أن ما لم تقضه اليوم تقضيه غداً لولا هذا الهاجس لتقطعت قلوبنا على أيامنا وسرعة تصرم أعمارنا . امتلأت المقابر بأناس ماتوا ولم تمت مشاغلهم، انقضت أنفاسهم ، ولم تقض مراداتهم . فيا سبحان الله ! ما أعظم بأس الإنسان، وشدة مكره وهو الظلوم الجهول (إنه كان ظلوماً جهولا) فاتقوا الله عباد الله وتأملوا في حالكم، واستعدوا لنهايتكم، وانظروا في أعمالكم فإنكم لم تخلقوا عبثاً، ولن تتركوا سدى، فإنَّ اليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون) . إنَّ أعظم الذكرى التذكير بكلام الله (فذكر بالقرآن مع يخاف وعيد) . وأعظم ما أصلحت به القلوب التأمل في كلام علام الغيوب (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء)
عباد الله : سورة قصيرة آياتها ثمان، يذكر الله فيها حال هذا الإنسان ، وكيف اغترَّ بهذه الدنيا ، وركن إلى موعودها الزائل . يقول الله تعالى (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر) فالله تعالى يعيب على هؤلاء المتكاثرين في أمور دنياهم ناسين ما خلقوا من أجله ، متغافلين عن آخرتهم . لقد ألهاهم التكاثر فهذا يكاثر في ماله ، وسعة تجارته ، وضخامة رصيده، فهو صاحب العقارات التي تدرُّ سنوياً ما الله به عليم . وهو مالك الأسهم الكثيرة التي سلم معظمها من الانكسار الذي أصاب أسهم الناس . ثم هو مكاثر في سعة بيته وحسن أثاثه ، وجمال موقعه ، ونفاسة فرشه وتحفه . وهو مكاثر بكثرة مركوباته فهذا المركوب له وحده ، والآخر له مع عائلته، وثالث للمناسبات ومجالس المفاخرات . وهذا يكاثر في أولاده عدداً فهو أب لجملة أولاد، وله من أولاده أحفادٌ وأسباط . أحد أولاده مسؤول في كذا والآخر يدرس في كذا وثالثهم يجيد كذا (جعل الله له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً) ومما تكاثر به بعض الناس وصار محلَّ تباه منهم الجاه والسمعة، فقد ألهى جاه الوظيفة مدنية أو عسكرية ألهى فئاماً منهم فصارت وظائفهم ورتبهم ، وفخامة مكاتبهم نقصاً عليهم في دينهم، فلا يزالون يلهثون خلف الترقيات، ويسعون إليها في شتى المجالات . ومن التكاثر بالجاه أن يتبجح أنه يعرف المسؤول الفلاني ، ويجالس الأمير والوزير الفلاني، وليس بينه وبين المدير الفلاني كلفة، وصديقه المسؤول في الجهة الفلانية، وهكذا. وقد يكون بعض هذا أو أكثره من التكاثر بما لم ينل فهو كلابس ثوبي زور . ومن التكاثر الذي قد تبتلى به بعض الناس التكاثر بحسن النسب وشرف الحسب فهو ينتهي إلى القبيلة الفلانية فنسبه محفوظ فهو مكاثر بنسبه نصب شجرة عائلته في مدخل بيته، ولا إنكار في هذا لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام) ولكن قال بعدها إذا فقهوا . فمحل الخيرية في الأنساب إذا جمعوا مع هذا الخير خير الدين والعلمَ النافع والعملَ الصالح فأمَّا إذا بقوا على جهلهم أو على فسقهم أو شيء من عصيانهم فلا شرف ولا كرامة . أما علم هؤلاء أنَّ أبا لهب عمَّ النبي صلى الله عليه وسلم سيصلى ناراً ذات لهب ، وأنَّ أبا طالب عمَّه الآخر في ضحضاح من نار وعليه نعلان يغلي منهما دماغه .
عباد الله : اعلموا أنَّ الله تعالى يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين . فالرفيع من رفعه الله والوضيع من وضعه الله (ومن يهن الله فماله من مكرم) . واحذر أن ينطبق عليك قول الأول :
إذا افتخرت بأقوام لهم نسب قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا
ثم يبين الله في الآيات أنَّ مصيبة هؤلاء المكاثرين هو إصرارهم على هذا التكاثر في أقوالهم و أحوالهم ولا يزال هذا طبعاً لهم ، فهو خلق شبَّ عليه الصغير، وشاب عليه الكبير ، قال الله تعالى (حتى زرتم المقابر) . فقد استمر اغترارهم بالدنيا حتى فاجأهم الموت ، ونقلوا على غير عدة واستعداد إلى مقابرهم ، قصرت أطماعهم الفارغة أن تستوعبها أعمارهم مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين في حب الدنيا ، وطول الأمل) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب) .
عباد الله : إنَّ الله تعالى ذم التكاثر الذي سببه الإعجاب بالدنيا والاغترار بنضرتها ، والذم أشدُّ حين يحمل التكاثر الإنسان على ترك واجب، أو يوقعه في محرم فيلهيه عن صَلاته لربه، أو صِلاته لوالديه وأقاربه ، ويلهيه عن أولاده، ورعاية أسرته ، وحفظ مراهقي بيته ، ثم إنه قد يتبع ذلك تساهل في محرم، أو انكباب على معصية وأثم فيقسو القلب ، ويعظم الران (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) . ثم بعد هذا كله يقول الله تعالى (كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون) أي : لو تعلمون ما أمامكم علماً يصل إلى القلوب لما ألهاكم التكاثر، ولبادرتم إلى الأعمال الصالحة، ولكن عدم العلم الحقيقي صيركم إلى ما ترون. ثم أقسم الله أنَّ هؤلاء المكاثرين اللاهين سوف يرون الجحيم، وسوف يتيقنون ذلك (لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) . نفعني الله وإياكم بآياته، ووفقنا لحسن ملاقاته، أقول قولي هذا واستغفروا الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
أما بعد :- فعن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم : وهو يقرأ (ألهاكم التكاثر)، قال : (يقول ابن آدم : مالي ! مالي ! وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت) رواه مسلم . إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن للإنسان في هذا الحديث حقيقة المال وأنه منقسم إلى قسمين :
مال كان عوناً لك على مصالحك فمنه تأكل و منه تلبس وتفضي به حوائجك فهذا القسم تكف به نفسك وتغني به حالك عن غيرك .
ومال آخر نظرت فيه إلى حظك في الآخرة فبادرت بالصدقة به إلى مستحقه من فقير ونحوه .
وما سوى ذلك فهو مال لوارثك يؤخذ قهراً عنك وربما تمتع به من أقاربك من هو أشد أقاربك تقصيراً في حقك واستهانة بمقامك . فهذا المال لوارثك غنمه وربحه، وعليك غُرمه وخسارته فأنت المحاسب عن الخلل الذي فيه . هل هو خال من الربا؟ وهل شابه شيء من حق الغير ؟ ثم تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم (أو تصدقت فأمضيت) كيف قال النبي صلى الله عليه وسلم (أمضيت) أي: نجزت و أخرجته في حياتك . فلم تدع الأمر معلقاً بوفاتك في وصية تكون محلَّ حرج على ورثتك من بعدك فإن كانت الوصية في مال كثير تباطؤ في تنفيذها طمعاً فيها والاستفادة من تأخيرها . وإن كانت في مال قليل تململوا من تنفيذها وكل يلقيها على الآخر فتمضي السنوات ولم يحرك لها ساكن . فضلاً عن بعض الوصايا التي صارت سبباً في اتهام الورثة بعضهم بعضاً ، وقادت إلى محاكم وتدخل مصلحون ولم يغنوا شيئاً . فسبحان الله كيف صرنا خدماً للمال الذي خلق لخدمتنا؟ (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) فاللهم استعملنا في طاعتك وأعنا على ذكرك ...
أيها الإخوة : لا نغفل الوصية بأمر من آكد أمورنا، ورعايته من أعظم واجباتنا، فالله الله في حفظ بيوتنا ورعاية أهلنا، وملاحظة أبنائنا وبناتنا وهم يستقبلون أيام عطلة الربيع، فلئن قلَّ ربيع أرضنا، وأغبرت أماكن رحلاتنا - وهي من آثار ذنوبنا - فلا يجوز أن يقلَّ ربيع قلوبنا، أو بغبر إيماننا فنفرط في رعاية فلذات أكبادنا، فيقعون فيما يضرهم أو هو خطر على أبدانهم، أو فيما يضرهم في أخلاقهم وأديانهم . فقد تبين ضرر الدبابات البرية على الأولاد، وحوادثها المتعددة عظة كافية . وتبين أنَّ صعود الطعوس بالسيارات ليست دليل قوة بدن، ولا قوة عقل وإنما هو سفه يجد المراهق أو شبهه من يغره بتصفيقه أو تصويره . وحوادث الانقلابات التي ألقت فيها السيارات من فيها على الرمال، ثم تدحرجت وتقلبت على ركابها مناظر تبعث الأسى، وتعصر القلوب . وسوف يسأل المفرط عن تفريطه، والولي القادر المتغافل عن تغافله . حفظ الله أبناء المسلمين .
أيها الإخوة: التنيه أشد، والتساهل أعظم في أمور النساء وزجهن قرب أماكن الرجال في أسواق، أو احتفالات، أو مهرجانات . فراقبوا الله أيها الأولياء واجعلوا رعاية بناتكم وأخواتكم وزوجاتكم من أهم مشاغلكم خصوصاً في أيام سكرة الإجازات، ونشوة الفراغ من الاختبارات . واعلموا أنَّه لا معنى لما جدَّ في حال النساء من تلك العباءات الضيقة اللامعة، والنقابات الواسعة، والتجمهرات النسائية خلف كل دعوة يلوح بها لا معنى لذلك إلا تساهل الأولياء وعدم حسبانهم للعواقب . والله المستعان في أمورنا كلها . فاللهم أعنا على حفظ حرماتنا، واحفظنا في أبنائنا وبناتنا، وقنا الفتن ما ظهر منها وما بطن .