الحمد لله رب العالمين ، يبتلي ما في الصدور . ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى وهو الغفور الشكور . وأشهد ألا إله إلا الله، إليه تصير الأمور . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بين ما ينفع الناس في معاشهم ويوم النشور، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :- فلا وصول للسعادة إلا بالعلم والعبادة فالناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون (ألا لله الدين الخالص) .
أيها الإخوة : قصرت بنا الأعمار فلن تتسع لقضاء حاجاتنا . وضعفت منا الأجسام فهي دون مراداتنا . وكلَّت أذهاننا حين أطالت خيوط آمالنا . ومع كل هذا جعل الله لنا عزاء نتعزَّى به ، وعوضاً عما فاتنا نتعوض منه . فالمؤمن يسطر بنيته ما عجز أن يباشره بعمله . وهذا سر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال (نية المؤمن خير من عمله) ، وفي لفظ (نية المؤمن أبلغ من عمله) . وفي رواية (إن الله عز وجل ليعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله) والحديث له طرق يتقوى بمجموعها ويرتقي إلى درجة الحسن [1]. فما أعظم النية إذن !! لا تحدها أزمنة ولا تحول دونها أمكنة . ولا يدخل الرياء النية كما يدخل الرياء العمل . وكيف يدخل الرياء النية ؟ وحقيقة النية الصادقة هي الإخلاص (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) .
أجل أيها الموفق : أنت تنوي الخير وتهم بفعل الصالحات ولكن من الخير ما لا تستطيعه أصلاً ، فهل يفوتك أجره ؟ تأمل معي هذا الحديث عن أبي كبشة الأنماري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالا وعلما . فهو يعمل في ماله ينفقه في حقه . ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا ، فهو يقول : لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فهما في الأجر سواء). رواه ابن ماجه وغيره وقال الألباني : صحيح. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي ليس عنده مال ولكن من نيته الجازمة أن لو كان له مال لتصدق مثل المتصدقين جعل هذا بنيته الحسنة شريكاً للمتصدقين (فهو بنيته فهما في الأجر سواء) وأما من فاته الخير لمانع حلَّ به ، وعذر لم يستطع مدافعته ففي هؤلاء يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه فيهم (إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم المرض) وفي رواية : (إلا شركوكم في الأجر) رواه مسلم وروى البخاري عن أنس قال : رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (إن أقواما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبا ولا واديا ألا وهم معنا حبسهم العذر) . وفي عموم من ترك العمل ولم يأت منه إلا بالنية يقول عليه الصلاة والسلام (إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات ، ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله تعالى عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة) متفق عليه .
أيها الإخوة : لقد فتح النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمات أبواباً من الخير نوشك أن نكون في غفلة عنها . وحاصلها أنك : ما دمت تنوي الخير فأنت في خير . قال سفيان الثوري رحمه الله : "كنا نتعلم النية كما تتعلمون العمل" وكيف لا يتعلمون النية وشأنها عظيم في ميزان الشريعة . فاستبشر يا صاحب النية ممن أقعده المرض وفاته عمل تعلقت به نفسه ، وصرفت الآلام عنه نشاطه فهو راغب في الصالحات بنيته راغب عنه بعمله لعلته . يقول صلى الله عليه وسلم (إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل مقيما صحيحا) متفق عليه . وانظر إلى فضل الله كيف قرن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المريض مع ما يكابده من المرض قرنه بالمسافر والسفر قطعة من العذاب . فمن كان ذا عمل صالح في حال صحته وإقامته فهو المحافظ على صلاته فرضِها ونفلِها ، وله ورد من صيام يصومه أو صلة لأقاربه يحرص عليها، أو صدقة يمضيها فحال دون ذلك مانع مرض أو سفر فهو على عمله وأجره مثبت في صحيفته لأنه من نيته، وتركه بغير اختياره واسمع فضلاً آخر كيف تجلبه النية الصالحة يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى أصبح كتب له ما نوى وكان نومه صدقة عليه من ربه عز وجل) رواه النسائي ، قال الشيخ الألباني : صحيح . والأحاديث في فضل النية وكيف تبلغ بصاحبها ما يقصر عنه عمله أكثر من أن تذكر ، ففي صحيح مسلم عن سهل بن حنيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من سأل الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) ويجمع ما ورد في عظيم فضل النية قول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات) فالعمل بغير نية مشقة وعناء، والنية وإن فارقها العمل أجر و زكاء . وإن العبد يأتي المباح من شأنه أكله وشربه ونكاحه ثم ينوي بذلك نية حسنة تكون مباحاته أجوراً تزيد بها مقاماته . والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (وفي بضع أحدكم صدقة ، قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر ! قال أرأيتم لو وضعها في حرام أيكون عليه وزر) . ورضي الله عن معاذ بن جبل حينما قال لأبي موسي الأشعري رضي الله عنه لما سأله "كيف تقرأ القرآن يا معاذ؟ قال أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم فأقرأ ما كتب الله لي فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي" يعني بذلك أنه يحتسب الأجر في نومته مع ما في النوم من لذة وراحة كما أنه يحتسب الأجر ويطلب الثواب في حال قيامه وصلاته على حد سواء .
عباد الله : هذه النية الحسنة فكيف إذا ظلم الإنسان نفسه ونوى النية السيئة يقول النبي صلى الله عليه وسلم في تتمة الحديث السابق (ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما) . فهو يخبط في ماله ينفقه في غير حقه . ورجل لم يؤته الله علما ولا مالا . فهو يقول لو كان لي مثلُ هذا عملت فيه مثل الذي يعمل ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فهما في الوزر سواء) .فاللهم إنا نسألك حسن النية وسلامة القصد .. أقول قولي هذا ...
الحمد لله رب العالمين ...
أما بعد :- فيا أيها الموفق : لعلك أدركت أنَّ الإنسان بنيته الصالحة قد حصَّل عُمُرا ثانياً يضيفه إلى عمره الذي يعيشه ، ويضيف عملاً ما كان ليضيفه لو وكل إلى حوله وقوته . ألا وإن من خير ما يدخر عند الله نيةً صالحة . و هي من خير ما يستفتح به يومه، ويختم به آخر النهار سعيه. أيها الإخوة : إنه من بركة النية الصالحة ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: (قال رجل: لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على سارق، فقال: اللهم لك الحمد على سارق، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على غني، فقال: اللهم لك الحمد على سارق وزانية وغني، فأتى (أي في المنام) فقيل له: أما صدقتك على سارق: فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية، فلعلها أنت تستعف من زناها، وأما الغني فلعله أن يعتبر، فينفق مما أعطاه الله) متفق عليه، وفي لفظ : (أما صدقتك فقد تقبلت) . إنَّ من أعظم ثمار هذا الحديث أن الله تعالى يصحح لك العمل الذي نويته على وجه فخرج على وجه لا تريده، فتكون بنيتك كأن عملك وقع على ما نويت . فهذه صدقة وقعت ثلاث مرات في يد من لا يريد الصدقة عليهم فرجي أن ينفع الله بها بنيته، فنقبل عمله . فعلينا عباد الله أن ننوي النية الحسنة فيما نأتي ونذر . ثم ندع ما بعد ذلك على اللطيف الذي يعلم دخائل النفوس ونواياها (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) لننو النية الحسنة في عباداتنا ومعاملاتنا، في تربيتنا لأولادنا، وزياراتنا لأقاربنا، في عملنا الوظيفي، في دراستنا وأدائنا امتحاناتنا، وفي قضاء إجازاتنا . لننو النية الحسنة في كل دقيقة نستقبلها حتى إذا حال بيننا وبينها أجل الله المحتوم إذا لنا نصيب منها بنيتنا من ثواب الله المعلوم . فاللهم أحسن نياتنا، وصوب وجهاتنا، وأخلص لنا سرائرنا ....