• ×

د.عبدالرحمن الدهش

خطبة الجمعة 12-4-1434هـ بعنوان العبرة من قصة يونس عليه السلام

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  12.9K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

 

فلقد صدق الله ومن أحسن من الله قيلا ! (لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب) أجل أيها الإخوة في قصصهم في قصص أنبياء الله صفوة الخلق عبرة لأولي الألباب أصحاب العقول عبرة في أخبارهم التي ظهر فيها تأييد الله لهم وثناؤه عليهم . وفي أخبارهم التي استدركها الله عليهم وعتب فيها عليهم حينما غلبت عليهم الصفة البشرية ليبرز موقف لم يوافقوا عليه . ومع ذلك سجله القرآن ليقف القارئ على الخطأ وتصويبه وفي كلٍ درس وعظه فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) القصص جند من جنود الله يثبت الله به القلوب ويدفع عنها السآمة والكروب . فتستجم لتواصل سيرها إلى الله وتستجد نشاطها وتعرف أن الحياة جبلت على تقلبات . فتدفع مرها بحلوها، وعسرها بانتظار يسرها . (فإن مع العسر يسرا)، (وإن النصر مع الصبر) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيرا) والاختلاف الكثير لا يزال الإنسان يشهده يشتد بروزه حينا، ويخف حيناً آخر إلا أن المؤمن على بينة من ربه يلهج: يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك . (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) . أيها الإخوة: لنا تأملات ووقفات مختصرة حول نبي ذكره الله باسمه ست مرات، وفي مرة سابعة وصف بأنه ذو النون، وفي ثامنة قال عنه: صاحب الحوت إنه يونس بن متى أحد أنبياء الله من ذرية إبراهيم عليه السلام . بعثه الله إلى قومه وعادة الظالمين أن يعادوا المرسلين . فلم يتحمل أن يرى قوماً يعادون خالقهم، ويختارون غير طريق ربهم . فاشتدت غيرته أن رأى قوماً معرضين وعلى حرمات الله مجترئين . ورحم الله يونس بن متى غاضب قومه وأبق منهم وولى هارباً، وظن أنه بلغ معذرة عند ربه، وأدى ما عليه، و أنه في حل من رسالة ربه قال الله تعالى (فظن أن لن نقدر عليه) أي: لن نضيق عليه بسبب خروجه منهم وعدم صبره عليهم . وهنا بدأ الابتلاء وسجل الموقف ليحفظ ليجتنب ويحذر أن يتكرر من أحد آخر فصاحبه غير معذور (فاصبر لحكم ربك ولاتكن كصاحب الحوت) وأعظم به من درس فأفعال الأفاضل قد يكون منها ما ليس بفاضل، ولكن لا يلغي فضله ولا يجوز أن تطوى بسببه مناقبه، وتمحى سيرته . ألم يقل الله في أبينا آدم (وعصى آدم ربه فغوى) ما أعظمها من أوصاف! عصيان وغواية . الله أكبر: عصيان وغواية ممن خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته . ولكن العارف بربه الذي يدرك حقيقة الاختبار، وعظم الابتلاء إن كان لم يحسن الخروج فهو بتوفيق الله يحسن العودة والولوج (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) فيونس خرج من قومه ولكن إلى أين !؟ قال الله تعالى (إذ أبق إلى الفلك المشحون) سفينة في البحر، والبر والبحر وما تحتهما وما فوقهما كله ملك لله، ومسخر بأمره . (الله الذي لكم سخر البحر لتجري الفلك بأمره) (وخلق الله السموات والأرض بالحق) (لله ما في السموات وما في لأرض) ركب يونس الفلك فشقت طريقها في عرض البحر، فالماء من تحتهم والسماء من فوقهم، ومدبر الأكوان مطلع عليهم، لجت بهم ثم اضطربت وماجت بهم، وثقلت بما فيها وكادوا يغرقون، على ما ذكره المفسرون. فتشاوروا فيما بينهم، واستقر قرارهم على أن يقترعوا، فمن وقعت عليه القرعة ألقوه من السفينة ليتخففوا منه، ويهلك البعض لينجو الجميع. فلما اقترعوا وقعت القرعة على نبي الله يونس، فلم تطب نفوسهم ولم يسمحوا به فأعادوا القرعة ثانية فوقعت عليه أيضاً، فشمر ليخلع ثيابه ويلقى بنفسه فأبوا عليه ذلك. ثم أعادوا القرعة ثالثة فوقعت عليه أيضاً، لما يريده الله به من الأمر العظيم. قال الله تعالى: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) وقعت عليه القرعة فألقى في البحر، فساق الله له حوتاً عظيماً فالتقمه، وأمر الله تعالى الحوت أن لا يأكل له لحماً، ولا يهشم له عظماً، فليس لك برزق. فلبث في بطنه ما شاء أن يلبث! وقد اختلفوا في مقدار لبثه في بطنه. قيل: بعض يوم، وقال قتادة: مكث فيه ثلاثاً. وقيل: بل مكث في جوفه أربعين يوماً، والله أعلم كم مقدار ما لبث فيه. الله أكبر ! أين نبي الله يونس عليه السلام . في جوف بطن حوت في وسط ظلمات بحر . غاب عن قومه الذين لم يصبر عليهم بل غاب عن الدنيا كلها، ولكنه لم يغب عن الذي يعلم السر والنجوى، ويكشف الضر والبلوى، سامع الأصوات وإن ضعفت، وعالم الخفيات وإن دقت، ومجيب الدعوات ومفرج الكربات. (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) في تلك الساعة العصيبة والوحشة المريبة نادى يونس ربه. فاستمع إلى تصوير القرآن (إذ نادى وهو مكظوم) مهتم مغموم . (فنادى في الظلمات) ظلمة الحوت وظلمة الليل وظلمة البحر . سمع الله نداءه وهو غير خافي عليه مكانه، ولا حاله . سمع نداء الافتقار، وتنزيه الباري الغفار، والاعتراف بالظلم (لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) تم الابتلاء وتبين صدق اللجأ فجاء غوث الله (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِين) فأدركته رحمة الله والحوت الذي التقمه بأمرالله ها هو يخرجه من بطنه بأمر الله (فنبذناه بالعراء وهو سقيم) مريض متعب، (فَنَبَذْنَاه)، أي: ألقيناه قال ابن مسعود: كهيئة الفرخ ليس عليه ريش. (بِالْعَرَاء) وهو المكان القفر الذي ليس فيه شيء من الأشجار بل هو عار منها. فاستبقى الله حياته، قال تعالى (وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) . قال ابن عباس، وغير واحد: هو القرع. لما فيه من القيمة الغذائية، والألطاف الدوائية . فرد الله عليه عافية، وفتح على قومه ورفع عنهم العذاب . قال الله تعالى في سورة يونس: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)

 

الحمد لله ... من أعظم عظات قصة يونس مع قومه أنها سلوة للذين تضيق صدورهم بالمعرضين عن دين الله والمتخاذلين عن التمسك به، والمفرطين في حدوده! فسنة الله في خلقة أن تبقى طائفة من عباده لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله . (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم) وقد حفظ لنا التاريخ أناساً بدلوا نعمة الله كفراً ! حفظ التاريخ أول شرك وقع في الأرض وأول من جلب الأصنام لمكة . ولم يعكر هذا على صفاء التوحيد، وتعظيم الرب المجيد! وحفظ لنا التاريخ أول فتنة لبني إسرائيل وأنها كانت في النساء . وفي العصور المتأخر حفظ لنا التاريخ أيضاً أول من دعا إلى نزع الحجاب وأول من فرضه، ودعا للاختلاط . وأول من سن القوانين الوضعية، واحتفى بالحياة على الطريقة الغربية في التعليم والإعلام . كل هذا محفوظ وحفظ الله أعلم (أحصاه الله ونسوه) ولم يعكر هذا على العفة لمن لم يتنازل عنها، ولم يلغ التميز للحياة المسلمة لمن تمسك بالعروة الوثقى ! وتجاه هذا كله وما هو أعظم أعطى الله التوجيه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بقوله (فلعلك باخع نفسك على آثارهم) أي: مهلكها أسفاً حينما ترى الإعراض وعدم الإذعان والتسليم (لعلك باخع نفسك ألا يكون مؤمنين) (ولو شاء الله لانتصر منهم) فالدين دين الله من قام به نصر، ومن حققه ظهر . (فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين) ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ولا يضر الله شيئا . من عظات قصة يونس بيان قرب الله لمن عرفه في الرخاء فلن يتخلى عنه في الشدة والضراء. فهذا يونس كان من المسبحين أي: الطائعين في زمن الرخاء فكان ذلك سبباً في خلاصه ونجاته من ورطته (فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) احفظ الله يحفظك. .

 

وقال تعالى في سورة الأنبياء: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} وقال تعالى في سورة الصافات: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} قال أهل التفسير: بعث الله يونس عليه السلام إلى أهل نينوى من أرض الموصل، فدعاهم إلى الله عز وجل فكذبوه وتمردوا على كفرهم وعنادهم، فلما طال ذلك عليه من أمرهم، خرج من بين أظهرهم ووعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث. فلما خرج من بين ظهرانيهم، وتحققوا نزول العذاب بهم، قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة، وندموا على ما كان منهم إلى نبيهم، فلبسوا المسوح وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجوا إلى الله عز وجل وصرخوا وتضرعوا إليه، وتمسكنوا لديه، وبكى الرجال والنساء، والبنون والبنات والأمهاب، وجأرت الأنعام والدواب والمواشي، فرغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وحملانها، وكانت ساعة عظيمة هائلة، فكشف الله العظيم بحوله وقوته ورأفته ورحمته عنهم العذاب، الذي كان قد اتصل بهم بسببه، ودار على رؤوسهم كقطع الليل المظلم. ولهذا قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} أي: هلاّ وجدت فيما سلف من القرون قرية آمنت بكمالها، فدل على أنه لم يقع ذلك بل كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} وقوله: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} أي: آمنوا بكمالهم. وقد اختلف المفسرون هل ينفعهم هذا الإيمان في الدار الآخرة، فينقذهم من العذاب الأخروي، كما أنقذهم من العذاب الدنيوي؟ على قولين؛ الأظهر من السياق: نعم والله أعلم. كما قال تعالى: {لَمَّا آمَنُوا} وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} وهذا المتاع إلى حين لا ينفي أن يكون معه غيره من رفع العذاب الأخروي، والله أعلم. وقد كانوا مائة ألف لا محالة، واختلفوا في {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أن نضيق. وقيل معناه: نقدر من التقدير وهي لغة مشهورة قدَر وقدّر كما قال الشاعر: فلا عائدٌ ذاك الزمانُ الذي مضى * تباركتَ ما يقدَرْ يكن فلك الأمر. {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} قيل : ظلمة الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل. وقوله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} قيل معناه: لولا أنه سبح الله هنالك، وقال ما قال من التهليل والتسبيح والاعتراف لله بالخضوع والتوبة إليه، والرجوع إليه للبث هنالك إلى يوم القيامة. ولبعث من جوف ذلك الحوت. هذا معنى ما روي عن سعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه. وقيل معناه: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ} من قبل أخذ الحوت له {مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} أي: المطيعين المصلين الذاكرين الله كثيراً. كما روى عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: ((يا غلام إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)). عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قالت: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت، أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش لحماً ولا تكسر عظماً، فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه من البحر، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حساً فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت إن هذا تسبيح دواب البحر. قال فسبح وهو في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه. فقالوا: يا ربنا إنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة. قال: ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر. قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح! قال: نعم. قال: فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل)). حدثني أبو صخر أن يزيد الرقاشي حدثه، سمعت أنس بن مالك ولا أعلم إلا أن أنساً يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن يونس النبي عليه السلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت قال: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. فأقبلت الدعوة تحن بالعرش، فقالت الملائكة: يا رب صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة. فقال: أما تعرفون ذاك؟ قالوا: يا رب ومن هو؟ قال: عبدي يونس. قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عملاً متقبلاً، ودعوة مجابة. قالوا: يا ربنا أو لا ترحم ما كان يصنعه في الرخاء فتنجيه من البلاء؟ قال: بلى، فأمر الحوت فطرحه في العراء)). ورواه ابن جرير، عن يونس، عن ابن وهب به. و روى عن أبى هريرة يقول: طرح بالعراء وانبت الله عليه اليقطينة. قلنا: يا أبا هريرة وما اليقطينة؟ قال: شجرة الدباء. قال أبو هريرة: وهيأ الله له أروية وحشية تأكل من خشاش الأرض، أو قال: هشاش الأرض. قال فتنفشخ عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة، حتى نبت. وقد ذكرنا كلام أبي هريرة في تسخير الله تعالى له تلك الأروية التي كانت ترضعه لبنها، وترعى في البرية وتأتيه بكرة وعشية، وهذا من رحمة الله به ونعمته عليه وإحسانه إليه ولهذا قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} أي: الكرب والضيق الذي كان فيه. {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي: وهذا صنيعنا بكل من دعانا واستجار بنا. سمعت سعد بن مالك - وهو ابن أبي وقاص - يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اسم الله الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى: دعوة يونس بن متى)). قال: فقلت يا رسول الله: هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: ((هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامة إذا دعوا بها. ألم تسمع قول الله تعالى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} فهو شرط من الله لمن دعاه به)). عن ابن أبي وقاص قال: مررت بعثمان بن عفان في المسجد فسلمت عليه، فملأ عينيه مني ثم لم يردد عليّ السلام، فأتيت عمر بن الخطاب، فقلت: يا أمير المؤمنين هل حدث في السلام شيء؟ قال: لا، وما ذاك؟ قلت: لا، إلا أني مررت بعثمان آنفاً في المسجد فسلمت عليه، فملأ عينيه مني ثم لم يردد علي السلام. قال فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه فقال: ما منعك أن لا تكون رددت على أخيك السلام؟ قال: ما فعلت. قال سعد: قلت: بلى حتى حلف وحلفت. قال ثم إن عثمان ذكر فقال: بلى، وأستغفر الله وأتوب إليه، إنك مررت بي آنفاً وأنا أحدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا والله ما ذكرتها قط إلا تغشى بصري وقلبي غشاوة. قال سعد: فأنا أنبئك بها، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا أول دعوة، ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته، فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض، فالتفت إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((من هذا أبو إسحاق؟)) قال: قلت: نعم يا رسول الله. قال: ((فمه؟)) قلت: لا والله إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة، ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك. قال: ((نعم دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له)).‏ فضل يونس قال الله تعالى: {وإن يونس لمن المرسلين} وذكره تعالى في جملة الأنبياء الكرام في سورتي النساء والأنعام، عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)). ورواه البخاري من حديث سفيان الثوري به. عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا عند الله خير من يونس بن متى)). أخرج الترمذي والحاكم وقال صحيح الإسناد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر من الدعاء في الرخاء) حسنه الألباني قال الشنقيطي قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وكذلك ننجي المؤمنين يدل على أنه ما من مؤمن يصيبه الكرب والغم فيبتهل إلى الله داعيا بإخلاص إلا نجاه الله من ذلك الغم ، ولا سيما إذا دعا بدعاء يونس هذا . وقد جاء في حديث مرفوع عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في دعاء يونس المذكور : " لم يدع به مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له " رواه أحمد ، والترمذي ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وغيرهم . والآية الكريمة شاهدة لهذا الحديث شهادة قوية كما ترى ؛ لأنه لما ذكر أنه أنجى يونس شبه بذلك إنجاءه المؤمنين . وقوله ننجي المؤمنين صيغة عامة في كل مؤمن كما ترى . ‏قال السعدي: (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ‏) وهذا وعد وبشارة، لكل مؤمن وقع في شدة وغم، أن الله تعالى سينجيه منها، ويكشف عنه ويخفف، لإيمانه كما فعل بـ ‏"‏ يونس ‏"‏ عليه السلام‏.‏ 



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 02:37 مساءً الخميس 19 مايو 1446.