إن الحمد لله ... أما بعد : -
فما أقرب القاصي من الداني، وكل ما هو آت آتي. أين أيام عشر ذي الحجة، ويوم الحج الأكبر، وأيام التشريق المعدودات أيام عظيمة، ومواسم كريمة لا رجعة لها إلا في عام قادم، والله أعلم من يدركها، وهو سبحانه أعلم بمن يدركه مفرق الجماعات، (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) فاحمدوا الله على فضله، واشكروه على تيسيره ، ونية المؤمن خيرٌ من عمله . فأبواب الخير للراغبين مشرعة، وطرق تحصيل الثواب متنوعة . وجماع ذلك كله تقوى الله تعالى، وهي وصية الله للأوَّلين والآخرين، ولا أنفع من وصية الله تعالى (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " يا معاذ: اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن " فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقوى الله في كل مكان في حضر أو سفر ، في سرٍ أو علانيةٍ (حيثما كنت) ثم بعد تقوى الله ، مجتهداً في فعل أمره ، تاركاً كل نهيه ، يأتي التسديد والإصلاح لما قد يقع فيه العبد من زلةٍ إثر غفلة، أو معصية بسبب جهالة (واتبع السيئة الحسنة تمحها) (إنَّ الحسنات يذهبن السيئات) فالسيئة نكتة سوداء في صحيفة ابن آدم، وإنما سميت سيئة لأنها تسوء صاحبها فهي ضيقٌ في صدره ، وسببٌ لنزعِ البركة من عمره ، وعمله وماله . وهي كذلك حسرة في آخرته (يوم تجد كل نفس ما عملت من خيرٍ محضراً وما عملت من سوء تودُّ لو أنَّ بينها وبينه أمداً بعيداً ) وإنَّ نعمة الله على العبد بالعمل الصالح نعمة عظيمة، الناس غافلون وأنت مشتغل بعبادة الله، رخصت أوقات قوم فهم على لهوهم مقبمون وأنت أدركت فضائل الأوقات، وتبصرت مواسم الأجور فشحت نفسك بدقائقها، واستمسكت بلحظاتها . فماذا بعد نعمة العمل؟ بعد نعمة العمل تأتي نعمة القبول ومعنى القبول أن عملك مرضي عند الله موافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فهو مسطر في صحيفة حسناتك، تزداد به درجاتك، ويحط الله به ما شاء من سيئاتك. واستمع إلى خسارة من عمل عملا لم يصادف قبولاً عند الله يقول تعالى (وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى ناراً حامية) فهي خاشعة ذليلة أجهدت نفسها فهي عاملة نصبت أي تعبت من العمل، ثم نهايتها تصلى ناراً حامية؛ لأنها كانت مرائية في عملها فهي خاشعة خشوع النفاق، أو هي عاملة على وفق الهوى، ليس على وفق الهدى . فهم على يهودية محرفة، ونصرانية باطلة . ومن هؤلاء الفرق التي اجهدت نفسها بعبادات ما أنزل الله بها من سلطان فهم من أصحاب تعظيم القبور، وتأليه الأسياد، والترنم بالأدعية والتوسلات الشركية . خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين . فاطلب القبول بعد تيسر العمل (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) فأحسن الظن بالله مع خوفك أن يكون في عملك شيء من موانع القبول ورد العمل . ألا وإن من أعظم أسباب عدم القبول العجب بالعمل، والمنة به على الله (قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان)، وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم (لا تمنن تستكثر) . قال الحسن البصري في معنى الآية: لا تمنن بعملك على ربك تستكثره . وقد أثنى الله تعالى على الذين عملوا واجتهدوا ومع ذلك خافوا عدم القبول قال الله تعالى " والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون" أي يعطون العطاء وهم خائفون وجلون أن لا يتقبل منهم لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشرط الإعطاء وهذا من باب الإشفاق والاحتياط فعن عائشة أنها قالت: " يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل ؟ قال : لا يا بنت الصديق ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجل" رواه الإمام أحمد، وفي رواية : لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون وهم يخافون ألا يتقبل منهم" فأعظم يا عبد الله الرجاء وأكثر الدعاء . والزم الاستغفار فمهما حرص الإنسان على تكميل عمله، وتحسينه فانه لابد من نقص أو تقصير وبالاستغفار بعد العبادات يسد الخلل ويستدرك ما فات . "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم". أيها العبد الموفق العمل الصالح شجرة مباركة بالسقي تزداد ثمارها، وتورق أغصانها، وسقيها بالعمل الصالح فمن علامة القبول صلاح الحال بعد العمل الصالح، والإتيان بعمل صالح آخر فالحسنة بعد الحسنة منة ونعمة ودليل على صدق ورغبة، فمن فضل الله ورحمته أنه يكرم عبداً من عباده إذا فعل حسنة واخلص فيها لله أن يفتح له باباً وهمة إلى حسنة أخرى ليزداد قربه، وتبقى صلته بخالقه، قال الله تعالى " ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه " . فالله الله بداوم العمل، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ... الثانية: فعظموا ما عظم الله ، واعلموا أنَّ حياة الإنسان الحقيقية هي بطاعة الله عزَّ وجلَّ . فبالطاعة يطمئن الإنسان في حياته (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) ويأمن في عيشه، ويهتدي في أموره (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) . والطاعة سبب لتفريج الكربات والخروج من الورطات (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) والطاعة سبب للبسط في الرزق والتوسعة في العيش (وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً) . ويبقى فوق كل ذلك أن الطاعة سبب لنيل رحمة الله التي يدخل بها الإنسان الجنة (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) . (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً قد أحسن الله له رزقاً) . أيها الإخوة شهدت الأيام القريبة أحداثاً عجيبة آلمت الناس وسببت هلعاً في نفوس بعضهم، وجزعاً عند بعض آخر . علاوة على الحدث المتجدد الدائم حدث إخواننا في بلاد الشام، وغيرها وتلك المجازر اليومية، والوجبات المرتبة ممن لايرقبون في مؤمن إلا ولاذمة . إن لنا وقفات في أحداث تقاربت أيامها ويستوي فيها الداخل والخارج فتدبير الله وكمال قدرته، وسلطان أمره ليس له حدود ولا قيود فالملك ملكه، والخلق خلقه (وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) إلا أن الحدث العالمي الذي أخذ حظه من الكلام وتسابقت في رصده وسائل الإعلام هو حدث إعصار أمريكا. وماذا نقول والصورة التي شاهدتموها أبلغ من كل قول ؟ شاهد الناس قدرة الله حينما أذن للرياح أن تأخذ قوتها وتعمل عملها الذي أذن لها فيه . فهيجت البحر وقلعت الشجر ورمت بما خف مما هو في طريقها وزحزحت ما ثقل، فتبدلت الأرض غير الأرض وتنكست معالمها وتغير وجهها . أمور يفوت المتكلم نقله، وتسجله الصورة . هذا لم يكن مفاجئاً لأهله بل من تمام قدرة الله في هذه الأحداث والتقلبات أن أطلع عباده على تحركه وسيره. فلقد تابع الكثير منا ما تناقلته وسائل الإعلام المختلفة المرئية والمسموعة والمقروءة . وتم رصده من أهل الاختصاص ومراقبة تنقلاته لحظة بلحظة عبر الأقمار الصناعية ونقل أحداثه وحوادثه على الهواء مباشرة للعالم أجمع . فاستوى في إدراك هذا الحدث البر والفاجر ، واطلع على آثاره أثناء وقوعه وبعده المؤمن والكافر . ثم انتهى أمره وسكنت ثورته لتعلن الجهات الرسمية مبلغ الخسارة المادية والأضرار العمرانية بالأرقام الخيالية . ولا عجب فالخسارة متوقعة . ولكن العجب أن أعلنوا وفيات في تلك الحدث، ومفقودين ! قال لي صاحبي: كيف ماتوا ؟ ألم تجل الحكومة الأمريكية سكان تلك المناطق طوعاً أوكرهاً ؟ وهل تركت الحكومة بعض شعبها كبش فداء قدمته لهذا الإعصار ؟ أو هؤلاء لم تعلم بهم الحكومة واستخفوا عن السلطات حتى ماتوا بعنادهم ! الواقع ليس هذا ولا ذاك وجواب السؤال يكون بسؤال آخر. وهل تظن أن أمريكا سوف تفرط في واحد من شعبها والرجل الأمريكي والحكومة الأمريكية أحرص الناس على حياة . إذن هؤلاء الذين ماتوا وإن قل عددهم مقارنة بالحدث، وبالجهود الوقائية الاستباقية . كان موتهم درساً من الله للحكومة الأمريكية ولكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد درس مضمونه أن قدرتهم لها حدود، واحتياطاتهم لا ترد ما سبق به الكتاب الأول المعقود . (أينما تكونوا يدرككم الموت) إذن ما أضعفك يا ابن آدم . فخذها عظة ودرساً أجله في خاطرك. إن هذا الحدث رسالة لأمريكا نفسها والرسالة قد بلغت ولكن من يشرح هذه الرسالة ويفسرها حتى يعيها أصحاب القرار المتغطرسون في أمريكا . ويفهمون أنه إن كان ساءهم أن تموت حفنة من شعبها، ثم يتجول الرئيس الأمريكي في المناطق المتضررة ليواسيهم ويعانق المنكوبين ويمسح دموعهم . أين هذه المواساة حين غضوا الطرف عن حلفائكم وأعطوهم الشارة الخضراء والابتسامة المخفية مباركة لأعمالهم متسترة على جرائمهم ليعملوا سلاحهم في أطفال المسلمين، ونسائهم فضلاً عن رجالهم . أين هم عن العملاء في سوريا في وجباته اليومية يجوسون خلال الديار قتلاً وتخريباً . أما إن ربك بالمرصاد ! (وما تغن الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) . نعم، وإن من هذه الحوادث ما قد يسوقه الله عقوبة للظالمين، أو تكفير ورفع للطائعين، والقدر سر الله في خلقه (وما يعلم جنود ربك إلا هو) . ثم ليس من شرط العقوبة أن تستأصل الظالمين، وتنهي الفساد ولو كان كذلك لفاتت الحكمة من تقابل الشر والخير (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) وليس باللازم أن يعاقب شر الناس وأبعدهم عن الله بل قد يسلم هذا العاصي إلى حين، وتأتي عقوبة الله إلى من هو أخف ذنباً وأحسن حالاً منه ما دام سبب العقوبة قائماً فيه . = أيها الأخ المتبصر: الحكمة ضالة المؤمن . ومما يتنبه له اللبيب في تلك الحدث تلك المبادرة من الحكومة الأمريكية في استرداد الحياة الطبيعية بعد تلك الحدث فما أن هدأت العاصفة إلا ومعداتهم وأفرادهم يباشرون نقل ما ينقل وإرجاع ما يرجع ليعود لدنياهم الذين أتقنوها . فالحوادث والكوارث لم تجعل لليأس إلى نفوسهم سبيلاً ولا للإحباط إليهم طريقاً وقد تنبه لهذه الخصلة فيهم الصحابي الذكي عمرو بن العاص حينما وصف النصارى الروم بقوله:- كما في صحيح مسلم - : "أسرعهم كرة بعد فرة، وأوشكهم إفاقة بعد مصيبة " أليس المسلمون أولى بهذه الصفة؟ وألا تكون المصائب، والنكبات وتسلط الأعداء، وحتى المعاصي التي تزل بها القدم ألا يكون شيء من ذلك سبباً في إعاقتهم عن مصالحهم الدنيوية ناهيك عن مصالحهم الدينية . بلى والله هو أولى، كيف والمسلم يؤجر على ما يصيبه، ومأمور بالحرص على ما ينفعه . ثم بعد الحدث المتوقع تأتي الأحدث غير المتوقعة في حريق في الشرقية، وحادث باص الحجاج، وانفجار في الرياض . والمسلم يرضى بما يقدر الله ويقول ما أمر به (إنا لله وإنا إليه راجعون) فنسأل الله أن يرحم المتوفين وأن يكتبهم في الشهداء وأن ينزل سكينة على من أصيب بهم وأن يشفي المرضى والمصابين منهم . ثم على المسلم أن لا يكون جسراً تمر من عنده الشائعات والتحليلات التي تخيف الناس، وتنزع الثقة من نفوسهم وليكن الواحد منا مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر فيما يقوله أو ينقله أويغرد به . فاللهم اجعل ما قدَّرته على عبادك عظة للمتعظمين