• ×

د.عبدالرحمن الدهش

خطبة الجمعة 26-11-1433هـ بعنوان الباقيات الصالحات

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  11.6K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

إن الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد :- فتشتاق النفوس في ظل هذه المتغيرات في هذه الدنيا التي بنيت على التقلبات والتحولات، فجديدها يبلى، وحيها يفنى ولا باقي إلا ما أريد به وجه الله تعالى . تشتاق نفسه إلى الباقي الذي يجده أحوج ما يكون إليه . يجده محفوظاً له عند الله وما عند الله خير وأبقى . أيها الإخوة: قد يعجب الإنسان ببيت بناه أو اشتراه، أو سيارة ملكها، أو استراحة أقامها. بل يعجب الإنسان بثوب أو نعل لبسه . والرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا أو نعله حسناً والله جميل يحب الجمال . ولكن إعجابه سرعان ما يخبو، وتعلقه بما أعجب به رويداً يتلاشى. وما ذاك إلا لأن الدنيا مبنية على إقبال وإدبار، ورغبة في الشيء ثم رغبة عنه، وتطلع إلى غيره. فكأن ما في الدنيا بمنزلة لعب الأطفال يتسلى بها الطفل ثم سرعان ما يتركها ويرمي بها، وربما كرهها فجعل يحطمها ويكسر فيها. إنه لا غنى للإنسان بعد ذلك بعد من شيء يبقى يعده، ويقدمه بين يديه . المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملا) إنه الباقيات الصالحات ذكرها الله في كتابه مرتين وأثنى عليها بثنائين (خير عند ربك ثواباً وخير أملا) أما أنها خير ثواباً فثوابها موفور وأجرها عظيم مشكور . وهي خير أملاً فخير آمالك التي تمنى بها نفسك هو في الباقيات الصالحات . وهي خير مردا، أي: عاقبة، فعاقبتها خير وينقلب صاحبها إلى خير . فاجتمع فيها خيران في الباقيات الصالحات . خير الحال، فهو يعيش على آمال صادقة، لثقته بوعد الله، وتصديقه بموعوده. وخير مآلا لأن ما ينتظره عند الله لا يصفه واصف ولا يحيط به حد (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) هذه حقيقة الباقيات الصالحات . وهي كل عمل صالح يبقى بعد صاحبه عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : أُهْدِيَ لَنَا شَاةٌ مَشْوِيَّةٌ ، فَقَسَّمْتُهَا كُلَّهَا إِلَّا كَتِفَهَا ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ : " كُلُّهَا لَكُمْ إِلَّا كَتِفَهَا " ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وصححه الألباني بِلَفْظٍ : أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا بَقِيَ مِنْهَا ؟ " قَالَتْ : مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا ، قَالَ : " بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا " ، وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ تَصَدَّقُوا بِهَا إِلَّا كَتِفَهَا . وقد خص النبي صل الله عليه وسلم من الأعمال أعمالاً يسيرة على من وفقه الله فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خذوا جنتكم قالوا: يارسول الله أمن عدو قد حضر قال لا ولكن جنتكم من النار . قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات ومجنبات وهن الباقيات الصالحات ) رواه الحاكم والنسائي وصححه. أربع كلمات فالكلمة الأولى (سبحان الله) تنزيه لله عما لا يليق به تنزيه لله في الربوبية (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله) تنزيه في الألوهية (من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) تنزيه في الأسماء والصفات (ليس كمثله شيء) ومن تنزيه الله ألا يظن العبد بربه إلا خيراً . فأحكامه عادله وأخباره صادقه. أفقر فلاناً لحكم عظيمه، واستوفى عمر فلان لحكم بالغة. فمن ظن بربه خلاف ذلك لم يسبح ربه ولم ينزه خالقه ، وإن نطق لسانه بأبلغ عبارات التسبيح وأجمع ألفاظ التنزيه إذ لا بد من توافق القلب واللسان . الكلمة الثانية وصف الله بأكمل الصفات وأتمها (الحمد لله) فهو محمود عز وجل على كمال صفاته ومحمود على سابغ نعمه ووافر فضله (وما بكم من نعمة فمن الله) ولا طاقة للعبد بشكر نعم الله فهي نعم لا تحصى وآلاؤه تترى . إلا أن النبي صل الله عليه وسلم قال (من قال حين يصبح اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر فقد أدى شكر ذلك اليوم ومن قال ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته )رواه أبو داود وهو حديث حسن . فالموفق من كان حمد الله على لسانه واعترافه بفضل الله مستقر بجنانه . وإذا أتته نعمة من أحد فإنه يعلم أن ذلك من الله وهذا الأحد هو وسيلة وآلة صرف الله قلبه لك فأحسن إليك . والله يقلب القلوب والأبصار . الكلمة الثالثة من الباقيات الصالحات كلمة التوحيد (لا إله الله) أفضل ما قاله القائلون وذكر به الذاكرون . ومن كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة. ورابع الكلمات الصالحات الباقيات (الله أكبر) الله أكبر في ذاته وفي صفاته وسع كرسيه السموات والأرض فكل كبير فهو دون الله، وكل عظيم فهو تحت قدرة الله . ولذلك شرع التكبير في الأذان لمناسبة العلو (علو الصوت والمكان) وعلو معنى ما يقوله وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا علوا الثنايا كبروا وإذا هبطوا سبحوا . فهذه الباقيات الصالحات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر قال النبي صل الله عليه وسلم (لا يضرك بأيهن بدأت) بارك الله ... الحمد لله رب العالمين ... إن من الباقيات الصالحات الأيام التي بين أيديكم وعما قريب تحل بكم وهي من أيام الله وهي مِن أفضلِ ، أو هي أفضلُ أيامكم ، قال النبي صل الله عليه وسلم (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ، يعني أيام العشر ، قالوا : يا رسول الله ، ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه ، وماله فلم يرجع من ذلك بشيء ) رواه البخاري . إنها أيام عشر ذي الحجة . قال ابن القيم رحمه الله ( وأيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام عشر رمضان ، وليالي العشر الأخير من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة ( ) . وما قاله رحمه الله في فضيلة هذه الأيام العشر هو ظاهر كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وكيف لا تكون كذلك ، وفيها يوم عرفة قال النبي صل الله عليه وسلم في صيامه (يكفر السنة الماضية والباقية ) رواه مسلم . وفيها يوم النحر ، وهو خير الأيام عند الله ، وهو يوم الحج الأكبر . فاعرفوا رحمكم الله لمواسم الفضيلة فضلها ، وتزودوا فيها ، واغتنموا عظيم أجرها . وإنَّ من أعمالكم ما يشرع في كلِّ السنة ، ولكن يتأكد فضله في مواسم الخير والمضاعفة . فهذه الصَّلوَاتُ الخمسُ جعلَها اللهُ صِلةَ بين العَبْد وربِّه فاحرِصوا رحمكم الله عليها فهي نجاتكم ، اشهدوها مع جماعة المسلمين ، لا يشغلكم عنها شغلٌ ، فلا خيرَ في عملٍ منعكم فريضة ربِّكم . ثمَّ اجتهدوا بعد ذلك في تكميلها بالنوافل . فما من عبدٍ مسلم يصلي لله تعالى كلَّ يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير الفريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنَّة ) وقال النبي ضلى الله عليه وسلم في راتب الفجر (ركعتا الفجر خير من الدنيا ، وما فيها ) رواه مسلم . ومن الأعمال المتأكدة في هذه العشر الصوم ، وهو مما اختصَّه الله لنفسه ، فقال تعالى (الصوم لي وأنا أجزي به ) فاغتنموا هذه الأيام القصيرة المعتدلة، بصيام التسع من ذي الحجة ، أو ما تيسر منها ، لا سيما يوم عرفة . ثم باب الذكر وقراءة القرآن ، وصلة الأرحام ، والصدقات ، وغيرها رياض للعاملين ، وسياحية ربَّانية للراغبين ، والذكر في هذه الأيام له مزيد خاصية ، ومتأكد بأفضلية لقوله تعالى ويذكروا اسم الله في أيام معلوماتٍ قال ابن عباس رضي الله عنهما هي عشر ذي الحجة ، فأكثروا من ذكر الله بالتكبير والتحميد والتهليل ، والتكبير آكد الذكر في هذا المقام ، فيكبر الإنسان في بيته ، وسوقه ، ومكتبه ، ومسجده ، وفي دخوله وخروجه ، يرفع الرجل بذلك صوته ، إظهاراً لهذه الشعيرة . عباد الله : عن أم سلمة عن النبي صل الله عليه وسلم ( إذا دخلت العشر ، وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمسَّ من شعره وبشره شيئاً) وفي رواية (ولا يقلمَنَّ ظُفُراً) ( ) . فهذا نهي النبي صل الله عليه وسلم لمن أراد أن يُضَحّي من رجلٍ أو امرأة من دخول شهر ذي الحجة حتى يضحي وأمَّا من يُضحَّى عنه من الأولاد وأهل البيت فلا يمتنع عن شيء من ذلك . وإذا كان لأحد وكيل في الأضاحي هو الذي يتولاها فالحكم متعلق به دون الوكيل . ومن كان يتولى وصايا ضحايا لأموات فلا يمتنع من أجل هذه الوصايا وما يسقط عند غسل الرأس أو تمشيطه فلا يضر ولو كثر لأنه بغير اختياره . عباد الله أيها المتبعون لنبيكم صلى الله عليه وسلم . لمَّا نهى النبي صل الله عليه وسلم عن أخذ شيء من الشعر ، لعلَّ إخواننا الذين اعتادوا حلق لحاهم لعلهم يعيدون النظر في إبقاء لحاهم مَوَفَّرَة امتثالاً لأمر نبيهم وهي جمال في وجوههم ، ووقارٌ في هيئتهم ، والإصرار على حلقها إصرارٌ على ما نهى عنه النبي صل الله عليه وسلم . يقول صلى الله عليه وسلم " أعفوا اللحى " ، " خالفوا المشركين وفروا اللحى " ، " أوفوا اللحى " ، " أرخوا اللحى " هذه ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بوجوب توفير اللحى ، وتحريم حلقها ، وقصها فأين أنتم يا حالقي اللحى عن هذه الأحاديث ؟ ألا فليتق الله أمرؤٌ قدَّم هواه على أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم " فليحذر الذين يخالفوا عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصبيهم عذاب أليم " استعينوا بالله على تركها تعظيماً لأمر نبيكم ، وتشبهاً بالمرسلين ، وموافقة لعمل المؤمنين . ولا تنس أنَّ فعلك هذا بحلق لحيتك قد يكون سبباً في تساهل أبنائك وأقرانك ومنهم تحت يدك فيحلقون لحاهم فصرت داعية سوءٍ من حيث لا تشعر . قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله - : " لقد أكرم الله الرجال باللحى ، وجعلها لهم وقاراً ، فياويح من حلقها وأهانها لقد عصى ربه جهاراً ، أيظنُّ هؤلاء أن حلقها يكسب الرجل بهاء وجمالا ؟! كلا والله إنه ليشين الوجوه ، ويذهب نورها ، ويزداد كل وقت إثماً ووبالاً ، ولكن الاقتداء الضار يحسن كل قبيح أما ترون وجوه الحالقين لها ، كيف يذهب بهاؤها ووقارها، لا سيما عند المشيب، وتكون وجوههم كوجوه العجائز قد ذهبت محاسنهم، وهذا من أعجب العجب " أ هـ رحمه الله . ينظر كلام للسعدي في الفتاوى (125) . اللهم أعنا على أنفسنا



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 07:49 مساءً الخميس 19 مايو 1446.