الحمد لله رب العالمين
أما بعد :-
فدعونا في هذه الجمعة نجعل حديثنا بعيداً كل البعد عن الأرض المباركة عن أرض الإسراء والمعراج .
دعونا نبعد حتى لا نسمع دوي الغارات على قوم عزل، وأزيز المجنـزرات تدك البيوت والمساجد والمدارس والمستشفيات على من فيها .
أجل أيها الإخوة سوف نبعد بالحديث مكاناً قصياً ولكن يبعد المكان وتأبى القلوب أن تبعد، و سنبعد وإن كانت صور القتلى من أبناء فلسطين، ومن يحملون على النقالات، وأصوات سيارات الإسعافات لا تفارق مخيلة الأذهان الحية ولا تغادر الآذان الوعية .
ثم يزيد الأسى أسى آخر وآخر أنَّ الجهود السياسية لم تأت بجديد يذكر، والقرار المطلوب من مجلس الأمن لوقف الغارات اليهودية تعسرت ولادته، رغم الجهود العربية من وزراء الخارجية، وقد يولد معوقاً ناقصاً بعض أعضائه الأساسية حتى لايؤذي بعضوه الناقص بهودا تسوء قوماً أذيتهم .
أيها الإخوة: كل ما تسمعه هو تحقيق لقول من لا ينطق عن الهوى \"بل أنتم يومئذ كثير؛ ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن . فقال قائل : يا رسول الله ! وما الوهن ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت \" .
أيها الإخوة نبعد أين ؟
نعم نبعد إلى أقصى المغرب إلى الأندلس .
فهل سمعت بقرطبة وغرناطة هي من كبرى مدن الأندلس محل الحديث .
فإنَّ لم تعرفها فهي المسماة الآن بأسبانيا بلد السوَّاح، وجنة الدنيا، ومهد حضارة إسلامية سابقة .
فماذا نريد من أسبانيا ؟
نريد امتثال قول الله تعالى (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) .
(أفلم يسروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثاراَ في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون)
والسير في الفكر وتقليب صفحات التاريخ هو من الاعتبار المأمور فيه (فاعتبروا يا أولى الأبصار)
أيها الإخوة إن لله سنناً لا بدَّ أن يمضيها، وحكماً تقصر الأذهان عن مراميها .
كانت بلاد الأندلس إحدى بلاد المسلمين التي اغتبط المسلمون بفتحها وضمها تحت دولة الإسلام فتحها المسلمون سنة اثنتين وتسعين من الهجرة على يد القائد المسلم طارق بن زياد (رحمه الله)
فكيف حال الجيش الذي فتحها، وما هي صفته، وكيف تمسكه بهذا الدين لقد دخل المسلمون الفاتحون بلاد الأندلس، كل واحد منهم يرى أنَّه رسول هذا الدين إلى كل الأمم، حيث تأدبوا بآدابه، فاتبعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، مثلوا أخلاقياته وما يدعو إليه واقعاً ملموساً، أدركها جميع أهل تلك الديار، فأعجبوا بها.
والحق ما شهدت به الأعداء - قال أحد قادة الكفار في رسالة بعث بها إليه يصف بها جيش المسلمين الأول الذي عبر إلى الأندلس (لقد نزل بأرضنا قوم لا ندري أهبطوا من السماء أم نبعوا من الأرض) (1) .
لماذا وما قصده ؟
إنه رأي قواما بالليل وفرساناً بالنهار، معاملتهم أحسن معاملة، صدق بالعهود، ووفاء بالمواثيق، همهم إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها فما أعظم القصد لتكون كلمة الله هي العليا، وينكس الصليب، وتطبل عبادة غير الله.
بقي المسلمون خلال القرون الثلاثة الأولى من وجودهم هناك، محافظين على تلك القيم، معتزين بها.
حتى جدَّ ما جدَّ وليته ما جدَّ- في حالهم فنسوا حظاً مما ذكروا به، وبدأ التملص من أسباب العزة، وأسباب المهابة في قلوب الأعداء فغيروا فبدأ تغيير الله عليهم (ذلك بأن الله لم يكن مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن سميع عليم، كدأب آل فرعون والذين من قبلهم) سنة ماضية، وطريقة محكمة
يقول ابن خلدون موضحاً هذه القضية: (إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طريقها، وهذا ما حدث في الأندلس وأدى فيما أدى إلى ضياعه) (1).
كما أدركها كوندي - أحد الكتاب النصارى - حيث قال: (العرب هَوَوْا عندما نسوا فضائلهم التي جاؤوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب يميل إلى الخفة والمرح والاسترسال بالشهوات) (1).
وأصدق من أقوال البشر قول الله تعالى رب البشر (وإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) .
أيها الإخوة: إنَّ هناك تلازماً واضحاً لا انفكاك فيه بين تسلط الأعداء وانغماس الشعوب في معاصيهم، وتساهلهم فيما حرَّم الله.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \" إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم\" رواه أبو داود وغيره .
فالعينة نوع من الربا، إلا أنه لا يؤتاه من بابه ولكن يتحايل عليه.
وأخذ أذناب البقر إشارة إلى الاهتمام بأمور الدنيا، والركون إليها وعدم الاهتمام بالشريعة وأحكامها فهو مشغول في حرثه وفلاحته، ورضي بالزرع ولزمه أما أمور دينه، والدعوة إليه والذود عنه فهو أبعد ما يكون عنه، وهو منه في واد سحيق .
أيها الإخوة إنَّ من فوائد العدوان الأخير على أهل غزة في فلسطين فـ(لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم) من فوائده أنَّ الله محص فيه الناس وعرف الإنسان فيه قدر نفسه، فتبين الغيورون على دينهم الذين لم تطب حياتهم منذ بداية القصف الغاشم على أولئك المستضعفين فهم من ذنوبهم خائفون، ولربهم مخبتون، ولإخوانهم يدعون ويستغيثون .
وتبين من هم في غيهم سائرون فهم على ما هم عليه في ترفهم وإضاعة أوقاتهم فلم تقطعهم مشاهد الجراحات، وزحف الدبابات عن متابعة المباريات، وتقليب الأنظار في سيء القنوات.
وقد يكون بعض هؤلاء ممن تورطوا في النيل من إخوانهم المستضعفين فأطلقوا ألسنتهم في أعراضهم، ولسان حالهم يقول هذه جنايتهم مالنا وما لهم .
وقد يكونون ممن يجرون أمتهم إلى هاوية الردى فهم سوس ينخر في أخلاقيات الأمة ينادون بالسينما في بلاد الحرمين، ويبدون ويعيدون في قضايا المرأة .
ثم الويل لمن يتعقب أو يناقش في شيء من هذه القضايا إلا مقررا لقناعاتهم وإلا فليحذر فجور أقلامهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف قوم (وإذا خاصم فجر) .
لقد كان من أسباب ضياع الأندلس وتسلط النصارى أن الناس انكبوا على ما حرَّم الله عليهم فأضيعت الصلاة وشربت الخمور، وتنافس الناس في تقليد أعدائهم في بناء دور الخنا، والتساهل بالزنا، والطرب والغناء فأقبل الناس عليها لا يكاد يتورع عنها أحد حتى الفلاحون، والفقراء والعمال في مصانعهم ولعوا بالغناء والطرب .
فرقَّ الدين، وخفت الذمم فتبع ذلك فساد إداري وإضاعة لحقوق الخلق .
وأعجب الجهال بالكفار فاندرست معالم الولاء والبلاء فقلدوهم في نواح كثيرة من حياتهم حتى إن منهم اقتنى القردة وافتخر بها مشابهة لبعض ملوك النصارى (1).
فما أشبه الليلة بالبارحة !
ما أقرب صفات المسلمين أيام ضعفهم حين أضاعوا الأندلس وجثم العدو على بلادهم ونهب خيراتهم من صفاتهم الآن !!
فاللهم سلم سلم .
الحمد لله رب العالمين . أما بعد :-
فبعد أن عرفت من هلك كيف هلك ؟
فأعظم منه وأهم أن تعرف من نجا كيف نجا ؟
ولا نجاة من أمر الله إلا لمن لجأ إلى الله (ففروا إلى الله)
وأبدأ بنفسك ثم بمن تعول ؟
فقلب حساباتك ما دمت في زمن السراء وممن حولك هم في عسر وضراء .
وادفع عن نفسك بلزوم ما أمرك به ربك فصلاتك لا غنى لك عنها، قم له حيثما ينادى لها، وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها . احفظ جوارحك عن محارم الله، أطب مطعمك .
عظ نفسك وأهل بيتك بما يرونه من أحداث الفلسطينيين رجال ونساء وأطفال يهرعون لا يدرون أين يذهبون ؟
أعظم الرجاء بربك، توكل عليه .
يقول شيخ الإسلام في وصف المؤمنين \"والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها قلوبهم واحدة موالية لله ولرسوله ولعباده المؤمنين معادية لأعداء الله ورسوله وأعداء عباده المؤمنين، وقلوبهم الصادقة وأدعيتهم الصالحة هي العسكر الذي لا يغلب والجند الذي لا يخذل فإنهم هم الطائفة المنصورة الى يوم القيامة \" ا هـ
فاعتصموا بحبل الله جميعاً وانتظروا فرج الله، وألحوا على ربكم في دعاء القنوت وغيره
فبعد أن يرفع المصلي رأسه من الركعة الأخيرة في صلاة ليل أو نهار فإنه يدعو لإخوانه المستضعفين في غزة ويسميهم ويأتي بجوامع الأدعية، ويدعو على اليهود ومن عاونهم من النصارى والمنافقين من غير إطالة ولا تكلف، ولا اعتداء تاركاً التفصيلات التي لا تناسب المقام، و لا يظهر أنه يسمي رؤوس الكفر في دعائه، لأن قضيتنا مع العدو نفسه والأشخاص يذهبون ويجيء غيرهم، ولا يعمم في دعائه، ولا يدع بمغفرة ولا جنة ولا نزول مطر، لأنه دعاء ذو سبب فليخصه بسببه، وليدع بما شاء من حوائجه في دعائه الخاص .
وإن دعا في بعض الصلوات وترك البعض مراعياً حال الناس واجتماع الناس فلا حرج .
ونحن في ساعة يرجى أن تكون ساعة إجابة ...
فاللهم هيئ للمسلمين من أمرهم رشداً .
(1) أخبار الأندلس مستفادة من مقال بعنوان \" أثر الضعف الخلقي في سقوط الأندلس \" د. حمد بن صالح السحيباني
نقاط الخطبة :-
1. حال الأمة في ظل أحداث غزة الأخيرة .
2. وصف حال الجيش الذي فتح الأندلس .
3. بدأ الضعف مقرون بانغماس الشعوب في المعاصي والركون إلى الدنيا .
4. من فوائد العدوان على غزة .
5. تنبيهات حول قنوت النوازل .