• ×

د.عبدالرحمن الدهش

خطبة الجمعة 11-7-1433هـ بعنوان تأمل في سورة التكاثر‎

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  8.4K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لإله إلا هو إليه المصبر .

وأشهد ألا إله إلا هو العليم الخبير .

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير .

صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم ...

أما بعد :-

فيا معاشر الفضلاء : هل رأيتم يوماً انقضى وقد انقضت منه رغبتكم ، هل مرَّ عليكم وقت قلتم هاتوا ما بعده فقد ملأناه بما نريد من عمل الدين والدنيا .

أبداً والله لولا طول الأمل وحديث النفس أن ما لم تقضه اليوم تقضيه غداً لولا هذا الهاجس لتقطعت قلوبنا على أيامنا وسرعة تصرم أعمارنا .

امتلأت المقابر بأناس ماتوا ولم تمت مشاغلهم ، انقضت أنفاسهم ، ولم تقض مراداتهم .

فيا سبحان الله ! ما أعظم بأس الإنسان ، وشدة مكره وهو الظلوم الجهول (إنه كان ظلوماً جهولا)

فاتقوا الله عباد الله وتأملوا في حالكم ، واستعدوا لنهايتكم ، وانظروا في أعمالكم فإنكم لم تخلقوا عبثاً ، ولن تتركوا سدى ، فإنَّ اليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل (أ فحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنتم إلينا لا ترجعون) .

إنَّ أعظم الذكرى التذكير بكلام الله (وذكر بالقرآن مع يخاف وعيد) .

وأعظم ما أصلحت به القلوب التأمل في كلام علام الغيوب (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء)

عباد الله : سورة قصيرة آياتها ثمان ، يذكر الله فيها حال هذا الإنسان ، وكيف اغترَّ بهذه الدنيا ، وركن إلى موعودها الزائل .

يقول الله تعالى (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر) فالله تعالى يعيب على هؤلاء المتكاثرين في أمور دنياهم ناسين ما خلقوا من أجله ، متغافلين عن آخرتهم .

لقد ألهاهم التكاثر فهذا يكاثر في ماله ، وسعة تجارته ، وضخامة رصيده، فهو صاحب العقارات التي تدرُّ سنوياً ما الله به عليم .

وهو مالك الأسهم الكثيرة .

ثم هو مكاثر في سعة بيته وحسن أثاثه ، وجمال موقعه ، ونفاسة فرشه وتحفه .

وهو مكاثر بكثرة مركوباته فهذا المركوب له وحده ، والآخر له مع عائلته، وثالث للمناسبات ومجالس المفاخرات .

وهذا يكاثر في أولاده عدداً فهو أب لجملة أولاد، وله من أولاده أحفادٌ وأسباط .

أحد أولاده مسؤول في كذا

والآخر يدرس في كذا

وثالثهم يجيد كذا جعل الله له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً .

ومما تكاثر به بعض الناس وصار محلَّ تباه منهم الجاه والسمعة ، فقد ألهى جاه الوظيفة مدنية أو عسكرية ألهى فئاماً منهم فصارت وظائفهم ورتبهم ، وفخامة مكاتبهم نقصاً عليهم في دينهم ، فلا يزالون يلهثون خلف الترقيات ، ويسعون إليها في شتى المجالات .

ومن التكاثر بالجاه أن يتبجح أنه يعرف المسؤول الفلاني ، ويجالس الأمير والوزير الفلاني، وليس بينه وبين المدير الفلاني كلفة ، وصديقه المسؤول في الجهة الفلانية ، وهكذا .

وقد يكون بعض هذا أو أكثره من التكاثر بما لم ينل فهو كلابس ثوبي زور .

ومن التكاثر الذي قد يبتلى به بعض الناس التكاثر بحسن النسب وشرف الحسب فهو ينتهي إلى القبيلة الفلانية فنسبه محفوظ فهو مكاثر بنسبه نصب شجرة عائلته في مدخل بيته ، ولا إنكار في هذا لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام " ولكن قال بعدها إذا فقهوا .

فمحل الخيرية في الأنساب إذا جمعوا مع هذا الخير خير الدين والعلمَ النافع والعملَ الصالح

فأمَّا إذا بقوا على جهلهم أو على فسقهم أو شيء من عصيانهم فلا شرف ولا كرامة .

أما علم هؤلاء أنَّ أبا لهب عمَّ النبي صلى الله عليه وسلم سيصلى ناراً ذات لهب ، وأنَّ أبا طالب عمه الآخر في ضحضاح من نار وعليه نعلان يغلي منهما دماغه .

عباد الله : اعلموا أنَّ الله تعالى يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين .

فالرفيع من رفعه الله والوضيع من وضعه الله

(ومن يهن الله فماله من مكرم) .

واحذر أن ينطبق عليك قول الأول :

إذا افتخرت بأقوام لهم نسب قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا
إنَّ مصيبة هؤلاء المكاثرين هو إصرارهم على هذا التكاثر في أقوالهم و أحوالهم ولا يزال هذا طبعاً لهم ، فهو خلق شبَّ عليه الصغير ، وشاب عليه الكبير ، قال الله تعالى (حتى زرتم المقابر) .

فقد استمر اغترارهم بالدنيا حتى فاجأهم الموت ، ونقلوا على غير عدة واستعداد إلى مقابرهم ، قصرت أطماعهم الفارغة أن تستوعبها أعمارهم مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين في حب الدنيا ، وطول الأمل " .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو كان لابن آدم واديان من مال لا بتغى ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب " .

عباد الله : إنَّ الله تعالى ذم التكاثر الذي سببه الإعجاب بالدنيا والاغترار بنضرتها ، والذم أشدُّ حين يحمل الإنسان على ترك واجب ، أو يوقعه في محرم فيلهيه عن صَلاته لربه ، أو صِلاته لوالديه وأقاربه ، ويلهيه عن أولاده ، ورعاية أسرته ، وحفظ مراهقي بيته ، ثم إنه قد يتبع ذلك تساهل في محرم ، أو انكباب على معصية وأثم فيقسو القلب ، ويعظم الران (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) .

ثم بعد هذا كله يقول الله تعالى (كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون) أي : لو تعلمون ما أمامكم علماً يصل إلى القلوب لما ألهاكم التكاثر ، ولبادرتم إلى الأعمال الصالحة ، ولكن عدم العلم الحقيقي صيركم إلى ما ترون.

ثم أقسم الله أنَّ هؤلاء المكاثرين اللاهين سوف يرون الجحيم ، وسوف يتيقنون ذلك (لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) .

نفعني الله وإياكم بآياته ، ووفقنا لحسن ملاقاته ، أقول قولي هذا واستغفروا الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

الثانية

أما بعد :-

فعن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم : وهو يقرأ (ألهاكم التكاثر)، قال : " يقول ابن آدم : مالي ! مالي !

وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت " رواه مسلم .

إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن للإنسان في هذا الحديث حقيقة المال وأنه منقسم إلى قسمين :

مال كان عوناً لك على مصالحك فمنه تأكل و منه تلبس وتفضي به حوائجك فهذا القسم تكف به نفسك وتغني به حالك عن غيرك .

ومال آخر نظرت فيه إلى حظك في الآخرة فبادرت بالصدقة به إلى مستحقه من فقير ونحوه .

وما سوى ذلك فهو مال لوارثك يؤخذ قهراً عنك وربما تمتع به من أقاربك من هو أشد أقاربك تقصيراً في حقك واستهانة بمقامك .

فهذا المال لوارثك غنمه وربحه، وعليك غُرمه وخسارته فأنت المحاسب عن الخلل الذي فيه .

هل هو خال من الربا ؟ وهل شابه شيء من حق الغير ؟

ثم تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم (أو تصدقت فأمضيت) كيف قال النبي صلى الله عليه وسلم (أمضيت) أي نجزت و أخرجته في حياتك .

فلم تدع الأمر معلقاً بوفاتك في وصية تكون محلَّ حرج على ورثتك من بعدك فإن كانت الوصية في مال كثير تباطؤ في تنفيذها طمعاً فيها والاستفادة من تأخيرها .

وإن كانت في مال قليل تململوا من تنفيذها وكل يلقيها على الآخر فتمضي السنين ولم يحرك لها ساكن .

فضلاً عن بعض الوصايا التي صارت سبباً في اتهام الورثة بعضهم بعضاً ، وقادت إلى محاكم وتدخل مصلحون ولم يغنوا شيئاً .

فسبحان الله كيف صرنا خدماً للمال الذي خلق لخدمتنا ؟

(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا)

فاللهم استعملنا في طاعتك وأعنا على ذكرك ...

أيها الإخوة: تأتي أيام الإجازة لأبنائنا وبناتنا بعد عام دراسي انقضى بجده ومثابرته .

وإن أيام الإجازة مظنة للتكاثر من بعض الناس في أمور ينساقون فيها خلف بعضهم بعضاً غافلين عن عواقبها غير سائلين عن حكمها الشرعي .

فالمجتهد من أبنائنا وبناتنا حق علينا تشجيعه بما يدفعه إلى معالي الأمور، ويحببه في البذل والعطاء .

ولكن احذروا التكاثر فالهدية قيمتها الحقيقية بمعناها لا بثمنها، وإن كان فيها خطر على من أهديت له فلا يجوز تعريضه لما يضر به لا في دينه ولا في بدنه .

فالأجهزة التي يتوصل من خلالها إلى ما كان غائباً عن باله غافلاً عنه ويدخل عن طريقها إلى عالم آخر فيرى ويسمع مالم يكن متأهلاً له دينا وعلماً هذه لا تصح أن تكون هدية نجاح، وإن اضطر الإنسان وترجحت مصلحة إعطائه على مفسدة منعه فأهده وراقبه وكن عينا راعية من بين يديه ومن خلفه، والله المستعان .

احذروا التكاثر في حفلات النجاح فلا تخرج عن حيز المباح إلى حيز الإسراف بطعام أو شراب أو طول وقت .

ثم حفلات النجاح التي تقيمها بناتنا هي مواطن للمكاثرة أكثر من غيرها.

ومن تلك المكاثرة المكاثرة في التجهيزات الشخصية فالبنت هاهي تعد نفسها في أماكن التجهيزات النسائية كأنها تعد نفسها لعرسها لتظهر أمام زميلاتها أكثرهن حسنا، وأكثرهن قدرة على صرف المال في أرقى محلات التجهيز .

وربما كان سندها في ذلك أمها المسكينة ذات العاطفة التي لا ترغب في كسر خاطر بنتها.

ثم المكاثرة في استئجار مكان لهذه الحفلة !

وماذا عن ضرب الدف في تجمعهن ؟!

وهل من حرج في رقصهن ؟!

وماذا عن تصوير ذلك الحفل ؟ وهو تصوير خاص في جولاتنا الخاصة .

والتي لا تريد التصوير لزميلاتها تكتفي بتصوير المكان، وربما وهن جالسات عن بعد لا تظهر الوجوه، أو تظلل الوجوه فيما بعد.

أرأيت كيف عاد التكاثر قلة مؤذنة بفتح أبواب شر على من أمر الله برعايتها من أخواتنا وبناتنا .

أرجو أن تعيها حينما تفرح لفرح بنتك أنها تعد نفسها لحفلة نجاحها مع قريباتها وزميلاتها.

أعاننا الله جميعاً على حفظ الأمانة والقيام بحق الرعاية!

ثم همسة من غير إطالة لمنظمي البرنامج التنشيطية السياحية احذروا التكاثر الدعائي الإعلامي في مناشط أنتم في عافية منها قد تسيء إليكم باعتباركم جهة مؤتمنة منظمة، أو تسيء إلى سمعة بلدكم . والأعوام الماضية فيها دروس !

أيها الإخوة: لم يأت في خطبتنا حديث عن الجرح النازف في بلاد الشام مع أن الحديث عنهم بعض حقهم علينا وقد كتبت في ذلك مسودة نقاط ثم بدا لي أن أريح مسامعكم ولا أزعجها وأنتم ترون الأحداث في وقتها وهي أحداث فوق الحديث .

أحداث يقوم بها النظام النصيري متحالفاً مع النظام الصهيوني متستراً بالنظام الصليبي مدعوما من النظام الإيراني واللبناني الرافضي، هز له الرأس موافقاً النظام الروسي الملحد، والوثني الصيني .

فلله أمرهم كم هي محنتهم، وما أشد كربهم .

تتابعون تلك العظائم بالصورة الثابتة والمتحركة ومن تلك المشاهد ما لا يستطيع القلب تحملها واستكمال مجرياتها فرفقاً بحاله يغلقها متأسفاً على هوان المسلمين على الخلق، متعزياً بقوله تعالى (لايغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل)

(ولاتحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون)

وأما المتغطرسون من الشبيحة وغيرهم فإليهم قول الله تعالى (ألم يعلم بأن الله يرى كلاً لئن لم ينته لنسفعن بالناصية)

وقد رأيتم، ورأى العالـمُ كله كيف جرت نواصي من الشبيحة وذوي الرتب العسكرية العالية في الجيش النظامي! وتكلموا بحقيقة جرائمهم وجرائم من وراءهم .

وهذه بوادر النصر القريب بإذن الله، ونسأل الله أن يعجل بنواصي الذين تولوا كبر الفساد، وأذية العباد .

والله يقول (وما كان الله ليضيع إيمانكم) ومن أعظم الإيمان الدعاء بالصدق من غير تباطؤ ولا استبطاء، ولا تواطؤ على ساعة معينة للدعاء كل يدعو بنفسه متحينا ساعات الإجابة من ليل أو نهاراً .

فاللهم انصر ....


التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 04:11 مساءً الخميس 19 مايو 1446.