• ×

د.عبدالرحمن الدهش

تفسير سورة البينة

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  17.4K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
98 - ســــــورة الـبيّنــــــة

قال الله تبارك وتعالى: ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين )
- هذه السورة.. مدنية.. على ما هو مُعتَمد وإلا فقد قيل إنها مكية..

وهذه السورة.. لها أسماء، وأسماء كثيرة..
- لقد جاء أن اسمها (البيّنة).. كما هو المشهور المُثبت..
- وسميت أيضاً باسم (لم يكن) لأول السورة..
- وتُسمى أيضاً.. بسورة القَيّمة..
- وسورة البريّة..
- وسورة الانفكاك..
كل هذه مذكورة في تسمية هذه السورة..
البيّنة لم يكن القيّمة البريّة الانفكاك..

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها على أبيّ بن كعب رضي الله تعالى عنه -
ثبت أنه أتى إليه, وقال: إن الله سبحانه وتعالى أمرني أن أقرأ عليك سورة البيّنة..
فاستثبت أُبيّ رضي الله تعالى عنه وقال سمّاني يا رسول الله..
قال: نعم..
ثم بعد ذلك.. ما تمالك نفسه رضي الله تعالى عنه إلا أن أجهش بالبكاء هيّبة من الموقف.. لأن الشأن عظيم..
أن الله تعالى.. يُسميه, ويأمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقرأ عليه سورة البيّنة..
فقرأها عليه كما قال ابن كثير:-
قرأها عليه ابلاغاً وتثبيتاً وإنذاراً.
وهذا يدلُّ على فضيلة أبيّ رضي الله تعالى عنه ولذلك.. البخاري رحمه الله ذكر هذا الحديث في فضائل أبيّ بن كعب الأنصاري رضي الله تعالى عنه ولا يخفاك أن هذه فضيلة..
لكنك.. قد تسأل: لماذا خُصّ أبيّ بهذه السورة, مع أن التفضيل يحصل بغيرها؟.
هذا محل بحث أتركه لكم.. ولم أجد من شفى في المسألة.. شفاءً واضحاً.. لماذا اختيرت هذه السورة.. وما علاقة أبيّ بها.. هذا ضعوه في أذهانكم.. فمن وجد شيئاً.. فليُفدنا به..


الآية الأولى:

قال الله تبارك وتعالى:-
( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين )
ابتدأ الله تعالى.. السورة.. بهذا النفي.. فقال:
( لم يكن الذين كفروا )
ثم بيّن هؤلاء.. بأنهم..
( من أهل الكتاب والمشركين )
فالكافرون المعنيون في السورة, هما صنفان:
أهل الكتاب و المشركون..
* أما: أهل الكتاب: فهم معروفون:- اليهود والنصارى.
هؤلاء هم أهل الكتاب.
* والمشركون: يدخل فيه كل من أشرك بالله عز وجل فيدخل في ذلك:
- كفار مكة..
- وكذلك أيضاً: المشركون المعاصرون ممن يتسمون بالبوذيين, والهندوس, وأشباه هؤلاء..
فهؤلاء يُصنَفون على أنهم من المشركين ليسوا من أهل الكتاب وليسوا ملاحدة, لكنهم مشركون داخلون تحت هذه الطائفة..
إذن.. قوله تعالى ( من أهل الكتاب والمشركين ) هي بيان لقوله ( كفروا )
عليه.. نقول: إن..
كلمة ( من ) في الآية.. بيانية.. لأنها بيّنت الذين كفروا..
قال تعالى ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين )
قال تعالى: ( منفكين )
الانفكاك هو الانفصال, والمراد هنا أنهم:
لم يكونوا منفكين.. يعني تاركين ومقلعين فالانفكاك هنا.. يُراد بها الترك.. والاقلاع..
# ولم تبيّن الآية.. أنهم ينفكون عن ماذا؟ ويقلعون عن ماذا؟.
لكن:
على رأي كثير من المفسرين.. أنهم منفكين عن كفرهم وشركهم بالله عز وجل
هذا هو محل الانفكاك..
فإنهم لم يكونوا منفكين عمّا هم عليه من الضلال من الشرك والكفر..
فَقَدّر المتُعَلَقَ بالصورة التي ذكرت لك..
وهذا التقدير.. ليس محل اتفاق عند العلماء..
وأيضاً الذين قدروه.. ليس محل جزم عند بعضهم.. فالمسألة فيها اشكال..
# فهذه الآية.. والتي بعدها إلى أربع آيات.. هذه محلّ اشكال عند كثير من المفسرين..
بل.. قد ذكر الواحدي رحمه الله كلاماً قويّاً في المسألة..
وقال إن هذه الآية تخبط فيها الكِبار من العلماء..
مما يدلك.. على أن:-
الاشكال فيها ظاهر, وقديم أيضاً..
فكلمة التخبط.. تدل على أن المسألة.. ليس فيها الوضوح التام..
ولكن.. يبدو لي أن ما قاله الواحدي رحمه الله فيه شيء من المبالغة..
- الآية فيها نوع اشكال لا شك.. لكن لا يخلو الإنسان من قول راجح يتبيّن له بعد مراجعة ما كتبه المفسرون..
فأعود.. فأقول.. إن كلمة "منفكين" يعني منفكين عن ضلالهم.. بشركهم وكفرهم..
قال تعالى: ( حتى تأتيهم البيّنة )
إذن.. سوف يستمرون على عدم انفكاكهم إلى أي مدى؟
إلى أن تأتيهم البيّنة..
فـــ (حتى) هنا غائية.. يعني:-
يستمرون على ما هم عليه إلى أن تأتيهم البيّنة..
وقوله تعالى (البيّنة) يُراد بها:-
- ما يتبيّن به الصواب.
وما يتبيّن به الحق.
لكن الله تعالى.. بيّنه على الخصوص.. فقال:
(حتى تأتيهم البيّنة) (رسول من الله)

الآية الثانية :

(رسول من الله)
فما هي البيّنة المقصودة في الآية؟
الرسول الذي من الله, والمراد به.. محمد عليه الصلاة والسلام
يعني: حتى يأتيهم الرسول محمد..
قال (رسول من الله)
وأضاف الرسول هنا إليه عز وجل لشرفه..
لأن:-
(النسبة إلى الشريف يَشرُف بها الإنسان)
أما.. صفات هذا الرسول..
فقال: (يتلو صحفاً مطهرة)
يعني: يقرأ صحفاً مطهرة..
والمراد بذلك..
الصُحُف التي كُتِب فيها القرآن..
ولكن: ما هي الصحف التي كُتِبَ فيها القرآن؟
هل هي الصحف التي بأيدي الصحابة رضي الله تعالى عنهم - , لأن:-
الصحابة كتبوا القرآن, وكُتاب الوحي معروفون..
فهل هي هذه الصحف التي بأيدي الصحابة!!
أو هي الصحف التي بأيدي الملائكة؟
لأن الملائكة الكرام البررة بأيديها صحف..
فأيها المراد؟
الآية.. صالحة لهذا ولهذا.. وربما تكون في الصحف التي بأيدي الملائكة أقرب.
لأن:
النبي عليه الصلاة والسلام لا يتلو القرآن من الصحف التي بأيدي الصحابة, إنما كان: يتلو على الصحابة ليكتبوه..
لكن هو يتلو القرآن موافقاً للصحف التي بأيدي الملائكة.. والتي هي أيضاً قبل ذلك قد كتبت في اللوح المحفوظ..
والتلاوة هنا يُراد بها.. القراءة..
لكن:-
عن ظهر غيب أو نظر؟
عن ظهر غيب.. التلاوة الصدرية..
(يتلو صحفاً مطهرة) يعني.. يتلو من صدره عليه الصلاة والسلام
إذن.. هذه صفته:-
أنه: يقرأ ويتلو هذه الصُحُف..
# وأثنى الله تعالى.. على هذه الصُحُف.. بأنها..
(مطهرة)
وحُقّ لها أن تكون مطهرة.. لأنه قد كُتب فيها كلام الله عز وجل
كُتِبَ فيها الوحي..
-والطهارة هنا.. دَعْها.. بأشمل عبارة.. فإنها.. طهارة بأوسع ما تدل عليه - هذه الكلمة

الآية الثالثة:

قال الله تعالى: (فيها كتب قيّمة)
س/ الضمير في قوله (فيها), إلى أي شيء نعيده؟
إلى الصُحُف.. فيها كُتُب قيّمة..
ولو سألنا أحدكم الآن.. قلنا
كُتُب.. أهي جمع أم مفرد؟
كُتُب جمع.. مفردها كتاب..
والمراد بالكتاب الذي جُمِع على كُتُب هنا.. المراد به المكتوب..
يعني فيها.. مكتوبات.. قيمة.. هذا هو المعنى..
* يتبين لك الآن معنى الآية:
أنه.. يتلو صحفاً مطهرة, وهذه الصحف فيها مكتوبات قيّمة..
أما المكتوبات في هذه الصُحُف.. فإنه:
ما تضمنّه القرآن.. من الأخبار الصادقة, والأحكام العادلة هذا.. خلاصة ما كُتب..
ولذلك.. أثنى الله تعالى.. على المكتوبات.. فقال:
(فيها كتب قيّمة)
معنى قوله تعالى (قيّمة) يعني
غير معوّجة, موافقة للصواب, وموافقة للحق بالطريقة التي ذكرت..
إذن.. انتهينا الآن.. من الآيات في أول السورة وتبيّن لك ما فيها..
-وأن الله تعالى.. بيّن أن الذين كفروا من الطائفتين سوف يبقون غير منفكين, وغير مقلعين, حتى يأتيهم من الله سبحانه وتعالى رسول بالصفة التي ذكر الله تعالى..
- هذه الحال.. تجعلك الآن تتوقع حالاً.. لأهل الكتاب وأنهم سوف يبقون على ما هم عليه إلى أن يأتيهم الرسول.. إذاً
إذا أتاهم الرسول الذي وصفه الله تعالى.. بما وصف.. ماذا سوف تكون حالهم؟
سوف يؤمنون.. وسوف ينفكون عن كفرهم وضلالهم, وسوف يدخلون في دين الله أفواجاً..
هذا هو المتوقع بعد هذه المقدمة التي بيّنها الله عز وجل
إلا أنك.. سوف تتفاجأ بشيء آخر, بشيء ضدّ هذا تماماً..

الآية الرابعة:

قال الله تبارك وتعالى:
(وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة)
إذاً.. ما أقبح خسارة هؤلاء..
المقدمات.. خير بالنسبة لهم, والأشياء التي جعلها الله تعالى ارهاصات وتقدمات بين يدي هذا الرسول كلها تعينهم على قبول هذا الحق, وعلى الدخول في الدين.. لكن الذي حصل عكس ذلك..
(وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة)
كانوا قبل ذلك.. غير متفرقين, كانوا مجتمعين ينتظرون هذا الرسول, وكانوا يفتخرون بانتظاره, وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا, وكانوا يتوعدون به أيضاً أعداءهم..
لكن:
الذي حصل.. ما قال الله تعالى به هنا.. إنهم ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة..
إذاً.. الخير الذي بُعث لهم زادهم شرّاً, وزادهم كفراً إلى كفرهم, وهذه أيها الأخوة من المصائب والنوازل أن الخير يكون شرّاً على بعض الناس, وأن الهُدى يكون عمىً على آخرين..
الخير لا يأتِ إلا بخير.. في الغالب.. لكن إذا وافق غير محل.. فإن:-
الخير يكون شرّاً لأصحابه..
كما حصل لهؤلاء الذين بيّن الله تعالى صفاتهم..
قال: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب)
(إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة)
تفرقوا.. بعد ما جاءتهم البيّنة, وصاروا أحزاباً, وربما كَفّر بعضهم بعضاً, وربما عاب بعضهم طريقة بعض..
هذا الذي صوّرته الآية.. تجده واضحاً مع أهل الكتاب لما بُعث النبي عليه الصلاة والسلام -, فإنهم: حسدوه وأنكروا الصفات التي سُطّرت في كتبهم لتبيّن ما هو عليه وأنه صواب..
ومَن أسلم من اليهود وقَبلَ الحق كانوا يكيلون له من الاتهامات والتضليل والتكذيب.
وأقرب مثال على ذلك: ما فعلوه مع سيدهم, ومع حَبرِهم عبدالله بن سلام رضي الله تعالى عنه -, فإنه سيدهم, لكن لما آمن بالنبي عليه الصلاة والسلام وصفوه بضد ذلك فقالوا: هو شرُّنا وابنُ شِرّنا..
فهذا من التفرق الذي ذكرته الآية الكريمة إذاً.. تبين لك الآن.. معنى الآيات الأربع..
وأنها بيّنت حالاً, وتوقعت حالاً, لكن حصل خلاف ذلك

الآية الخامسة:

قال الله تعالى.. بعد ذلك..
(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)
ما الذي أوجب لهم التفرق بعد ما جاءتهم البيّنة؟
-هل أتاهم بأعمال شاقة؟!
-هل أمرهم أن يقتلوا آباءهم أو أن يقتلوا أنفسهم كما في شريعتهم السابقة؟!.
كل هذا لم يحصل:
ما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين..
هذا هو الذي جاءت به البيّنة..
-ولكن هؤلاء لشقاوتهم السابقة, ولزيغ قلوبهم الحاضر أُتبعوا بزيغ آخر, وضلال آخر.. فقال تعالى:
(وما أمروا إلا ليعبدوا الله)
إذن.. هذه هي خلاصة دعوة النبي عليه الصلاة والسلام أنه: أمرهم بعبادة الله..
قال الله تعالى: (مخلصين له الدين)
فلا يكون في عبادتهم حظّ لأحد, لابُدّ من:
الإخلاص الذي هو شرط العبادة
قال تعالى: (مخلصين له الدين)
ثم أكد ذلك.. فقال: (حنفاء)
والحنيف.. قالوا: هو المائل عن الشرك..
إذن:-
جمعوا إخلاصاً وعدولاً عن الشرك..
قال تعالى:
(ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة)
هذه هي دعوة النبي عليه الصلاة والسلام
- اخلاص بالعمل على جهة العموم
-ثم خصّ من العمل, عملين..
-خص إقامة الصلاة..
لأنها العلاقة بين الإنسان وربه..
-وخص ايتاء الزكاة..
لأن بها العلاقة بينه وبين خلق الله عز وجل
فالعبادتان عنوان العمل:-
الصلاة علاقة بين الإنسان وبين ربه..
والزكاة علاقة بين الإنسان وبين عباد الله يعطيهم إياها بشروطها وضوابطها
قال الله تعالى:
(وذلك دين القيمة)
هذا دين القَيّمة الذي كانوا ينتظرونه
-كما قلت ليس فيه أشياء: آصار أو أغلال, إنما هو دين القيمة..
والقيّمة هنا وصف لموصوف محذوف.. يعني وذلك دين الطريقة أو الملّة القيمة..
والقيمة = مأخوذة من القِوامة.. يعني أنها: دين, وأنها رملّة قائمة, ليس فيها شيء من النكوص.. ولا شيء من الإدبار
-القيمة لا إشكال فيها..
* بعد ذلك..
قَسّمت الآيات السابقة الناس إلى قسمين, بعد كل ما سبق

الآية السادسة:

قال الله تعالى:
(إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم)
هذا الكلام ليس بالجديد.. سبق في أول السورة.. (من أهل الكتاب والمشركين)
وأعاده الله تعالى هنا.. ليُسَجّل عليهم, وليبين أن المسألة مربوطة.. بهذه الأوصاف..
- كان بالإمكان أن يقال: إن السابقين
أو يُؤتي بالضمير, فيُقال: هم في نار جهنم..
لكن:
كل هذا.. يفوت فيه معنىً عظيم..
وهو كما قلت لك ما يُسمى بالتسجيل.. كيف التسجيل؟
التسجيل على هؤلاء..
وأن ما ذُكِرَ مُسَجّلٌ على هذه الأوصاف..
على الكُفر بالله سبحانه وتعالى - .
إذاً.. نقول.. في قوله تعالى:
(إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين)
ما نهايتهم؟
قال تعالى: (في نار جهنم)
مصيرهم.. أنهم: في نار جهنم.. يصلونها..
هذا من حيث المكان أنهم في نار جهنم..
أما:-
من حيث الزمان فقال تعالى:
(خالدين فيها)
يعني أنهم: دائمون فيها دواماً, لا انقطاع لهم
قال الله تعالى:
(أولئك)
السابقون..
(هم شرّ البريّة)
وشرّ.. قد سبق لك قريباً أن أصلها أشرّ, كما أن خير أصلها أخير
إذاً.. هؤلاء هم شرّ البرية..
و(البرية) من برأ الشيء يعني خلقه,
إذاً..
هم شر البرية يعني شرّ الخليقة..
- شر ما برأ الله عز وجل -, وما خلقه.. هؤلاء السابقون, وبئس الوصف, وصفاً لهم..
أما.. الصنف الثاني:- المقابل لهؤلاء..

الآية السابعة:

قال الله تعالى:-
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريّة)
ذكر الله تعالى وصفهم, قبل أن يذكر جزاءهم لأنه في الأول.. ذكر الجزاء ثم ذكر الوصف
وهنا.. ذكر الوصف وأخرّ الجزاء, ليُبيّن أنهم إنما أخذوا الجزاء بهذا الوصف الذي هو من صفاتهم..
قال الله تعالى:
(أولئك هم خير البرية)
يعني.. خير الخليقة:-
فمن حقق الإيمان, وعمل الصالح.. فهؤلاء هم خيرُ ما خلق الله سبحانه وتعالى..
فالبرية بمعنى الخليقة أي ما خلقه الله سبحانه وتعالى..
أما جزاؤهم:-

الآية الثامنة :

فقال: (جزاؤهم عند ربهم)
(جنات عدن)
فأثنى الله سبحانه وتعالى عليهم, ثم بيّن جزاؤهم..
قال (جزاؤهم) يعني ثوابهم عند ربهم
ما ثوابهم؟
(جنات عدن) تلك المكان الذي يُكرم الله سبحانه وتعالى به عباده الصالحين..
وقوله تعالى: (جنات عدن)
الجنات.. جمع, إذن هي جنات ليست واحدة بل هي جنات أُعِدّت لهؤلاء..
وقوله:
(عدن): العَدْنُ أصله يدلّ على الإقامة
يعني = جنات إقامة لا يخرجون منها..
وسوف يأتي التصريح به بعد ذلك
قال تعالى: (جنات عدن)
ما أوصافها؟
(تجري من تحتها الأنهار)
والمراد
(من تحتها) أي: من تحت أشجارها ومن تحت قصورها..
هذا هو مَحَلُ جريان الأنهار..
ولا يخفاك أن المكان سوف يكون حَسَناً بل هو من أحسن الأماكن.. إذا تُوّجَ وزُينّ بجريان الأنهار تحت أشجاره وتحت قصوره.. فسوف يكون المكان في أروع صورة..
إذن.. هؤلاء الآن.. حَصّلوا جانباً من السعادة
ما هذا الجانب؟
جانب حُسُن المكان..
* بقي الجانب الثاني.. وهو: حُسُن الزمان.
لأن الإنسان إذا كان في مكان حَسَن لكن قيل انتبه, سوف تخرج بعد خمس دقائق.. هل يشعر بالسعادة؟ لا يشعر..
لذلك.. جمع الله لهم الجانب الثاني.. وهو حُسُن الزمان.. فقال:-
(خالدين فيها أبداً)
فجمع الله لهم.. الجمال الثاني, وبيّن أنهم خالدون فيها.. إلى متى؟ قال
(أبداً) إلى ما لا نهاية لهم.. ثواباً منه عز وجل
وبهذا تُدرك أن ما عند الله سبحانه وتعالى للطائعين.. أنه لا يُقابل عملهم.. لكنه فضلٌ من الله عز وجل
فالله تعالى.. عامل الطائعين بفضله ولو.. عاملهم بعدله.. ما استحقوا إلا يسيراً من ذلك..
قالها الشيخ:
لكن من فضله أنه عاملهم بعدله [[ لعلها: من فضله أنه عاملهم بفضله ]]
فقال:
(خالدين فيها أبداً)
ثم ذكر سبحانه وتعالى ما يُؤَمّن في قلوبهم أنه تتغير حالهم..
يعني:-
ذكر بعد ذلك.. شيئاً يطمئنون به وأن هذه الحال لا يمكن أن تتغير..
كيف لا تتغير.. قال:
(رضي الله عنهم)
هذا.. إذا ادركوه سوف يُدركون, ويطمئنون إلى ما حصلّوه.. بحيث قال: إن هذا الذي آتاكم أتبع برضى الله عنكم, فلن يتغير.
- والإنسان إنما يفوته بعض ما عنده من الخير إذا تغيّر صاحبه عليه..
فإذا تغيّر.. ربما منعه الخير الذي يَصِلُه..
ربما قطع كما يقولون الرزق, وقطع المُرتَب الذي يُدرّه عليه لأن قلبه تغيّر..
لكن..
ربنا سبحانه وتعالى ليس كذلك..
قال الله تعالى:
(رضي الله عنهم) فأحلّ رضاه عليهم فلا يسخط عليهم بعده أبداً..
قوله تعالى: (رضي الله عنهم).. هذا كما قلت فيها اثبات رضى الله سبحانه وتعالى ومحبته لهؤلاء..

أما هُمْ.. فقابلوا الرضى بالرضى.. قال الله تعالى
(ورضوا عنه)
فالرضى مُتبَادل.. بين اللهُ سبحانه وتعالى, وبين عباده.. ولكن.. لكلّ ما يخفيه..
فرضى الله سبحانه وتعالى أكمل وأعظم وأتمّ.. لا يُقارن برضى خلقه.. ورضى المخلوق.. يُناسبه..
فهم رضوا عن الله سبحانه وتعالى -, ومن رضاهم عن الله:-
- أنهم رضوا عن نهايتهم التي صاروا إليها بحيث:
قَنعوا بما أعطاهم الله تعالى في الجنة مما أُشير إليه في الآيات..
على حَدّ قول الله تعالى في آية أخرى:-
(لا يبغون عنها حِوَلاً)
لا يبغون أن يتحولوا.. لأنهم رضوا عمّا أعطاهم الله تعالى..
قال الله تعالى.. بعد ذلك..
(ذلك)
الجزاء..
(لمن خشى ربه)
فالمسألة.. مربوطة بسببها..
ذلك الجزاء.. يناله من خشى ربه..
فرق بين: من خشى ربه مع خاف ربه..
أيهما أكمل في المعنى؟ الأكمل.. الخشية
لماذا الخشية أكمل من الخوف؟
لأن الخشية مقترنة بالعلم.. وأيضاً نقول:-
لأن الخشية خوف وزيادة, لكن:-
ما هذه الزيادة؟ الزيادة هي التعظيم..
فالخشية تكون:-
خوف وزيادة.. والزيادة التي معها هي التعظيم..
يعني.. يُعَظِمون الله عز وجل
- والتعظيم كما قال أحدكم لا بد أن يكون مقروناً بالعلم أيضاً..
إذاً.. أنت الآن تخاف الأسد.. وهل تخشاه؟
بالمعنى الذي ذكرنا لا تخشاه, تخافه فقط..
لكن.. تخاف الله عز وجل بمعنى تخشاه..
تخافه, ومع خوفك له تعظيم له..
وهنا مسألة بدهية:-
كل مَخُوفٍ تهرب منه,
إلا ربك سبحانه وتعالى فإنك تخافه وتُقْبِلُ عليه
(ألا إلى الله تصير الأمور)
إذاً.. هذا الجزاء الذي بيّنه ربنا سبحانه وتعالى هو.. لهؤلاء المتصفين بما ذكر..
(ذلك لمن خشىِ ربه)..
نعود بعد ذلك:-
لنقيد ما تيسر من الفوائد حول هذه السورة
فإنها:-
سورة مُكَتِنزة بالفوائد والعِظات..
( سورة البيّنة)
فوائد هذه السورة :

1) يستفاد من قوله تعالى:
(إن الذين كفروا..) إلى الآية الرابعة..
يستفاد من هذا ما أشرت إليه في الشرح وهو:-
أن الخير قد يكونُ شرّاً على بعض الناس..
وهذه واضحة في الآية.. فإن:-
بعثة النبي عليه الصلاة والسلام والبيّنة هي خير.. لكن كانت شرّاً على مَن ذُكِرَ في الآية..
وهكذا يا أخوان كلُّ شيء..
كل خير انتبه ألا يكون حظك منه حظ الشيطان.. بحيث يكون:-
نصيبك منه الشرّ.
- مثلاً -:-
العلم خير لا شك في ذلك
وقد يكون العلم لبعض الناس شَرّاً.. بحيث يفتخر به, يُعادي به أقرانه, يَكيدُ به لمن يريد الكيد بهم.. لأنه.. يكيد على بصيرة, وعلى علم فهذا العلم يكون شرّاً له..
واعتبر هذا.. بالأمم السابقة واللاحقة, فإن الله تعالى.. فتح العِلمَ لأناسٍ فكان حُجة عليهم صاروا حرباً على الإسلام والمسلمين..
وهؤلاء يكون حربهم أشدّ وأنكى..
لأنهم:
وقفوا على ثغرات المسلمين, ووقفوا على المداخل إليهم, فصاروا يدخلون على المسلمين من أبوابهم, ومن العلم الذي أوتوه..
اعتبر هذا.. في الجهمية في الأشاعرة في الماتوريدية في الطوائف المعاصرة.. التي ارتكبت المذاهب المنحلة والأفكار الرديئة مع علم سابق لهم فإن:-
هؤلاء من أوضح ما يُمَثل به أن الخير الذي حصلوه صار شرّاً عليهم..
بل إنك تعجب أحياناً.. من سَرْد مثلاً بعض الشُبَه وبعض الأدلة من هؤلاء.. وتقول: لو كان يتكلم بالحق ربما.. ما وجد هذه الأدلة, وما وجد هذه الأوجه التي يُنظر بها..
وهذا قد أشار إليه ابن القيم رحمه الله -,:
وأن الشيطان ربما يُعين بعضهم, وربما يُجري على ألسنتهم ما لا يجري على ألسنة أهل الحق وهذه:-
من تمام الفتنة.. أنه يجري على لسان أهل الباطل من الأدلة واستحضارها, واستنباط فوائد, واستنباط وجوه.. ما لا يستطيع أن يأتي به أهل الحق.. هذه فتنة..
وليس معنى هذا.. أن الحق ضعيف ولكن معنى هذا:-
أن الحق مُمْتَحَن..
ولابُدّ أن يُصابَر من أجله واحقاقه وألا.. يغتر الإنسان بظاهر القول, وبزخرف حاضر.
فالعبرة بالنتائج..
والعبرة بالحقائق
وليس بالبهرجة الظاهرية..
إذاً.. هذه من أهم ما يُعلق في فوائد هذه الآية الكريمة..

2) يستفاد من هذه الآية الكريمة أيضاً -:-
أن أهل الكتاب كفار.. كيف ذلك؟
(لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب)
فقال الله تعالى (الذين كفروا)
ثم قال (من أهل الكتاب)
فيُستفاد من هذا.. هذه الفائدة المُهمّة..
وهي:-
أن أهل الكتابِ كُفارٌ بالله عز وجل
وإذا كانوا كفاراً فما الذي يترتب على هذا؟.
يترتب أنهم من أصحاب النار, لأن الله سبحانه وتعالى ذكر أن النار أُعِدّت للكافرين.
(واتقوا النار التي أعِدّت للكافرين)
-وهذا الذي ذكرته, هو ولله الحمد مُسَلَم عند المسلمين..
أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى إذا استمروا على ما هم عليه بعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام فإنهم من أصحاب النار وكفار بالله..
نقول هذا مُسَلَم لكن ربما سمعتم وربما قرأتم مَن يُناقش في هذا.. ويقول:-
إن أهل الكتاب ليسوا بكفار.. أو هُمْ كفار لكن ليسوا من أصحاب النار.. في كلام زَبَد لا خير فيه.
وربما يتمسكون بأشياء يظنونها أدلة, وليس كذلك..
فإن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر المسألة وأقسم عليها.. بشيء لا مجال للمناقشة فيه:-
(والذي نفسي بيده ما من يهودي ولا نصراني يسمع بي ثم لا يُؤمن بي إلا كان من أصحاب النار)
إذاً.. انتبهوا لهذا, فإن أهل الكتاب اليهود والنصارى كفار..
وربما يحمل صاحب هذا القول.. ربما يحمله على ذلك هو:-
تزلفه إلى هؤلاء, وما يرى من سيطرتهم في السنوات الأخيرة ويظن بهذا أنه يُصلح الكون وأنه يقضي على الخلافات ويقضي على التسلط وليس كذلك.
والعجب.. أن هؤلاء المتزلفين لليهود والنصارى.. أن اليهود والنصارى لا يُبادلونهم هذا الشعور لا نراهم يتزلفون إليهم, بل كلما قربوا منهم.. أبعدوا عنهم..
هذا بحدّ ذاته كافي أن الإنسان يُعيد النظر في قرابينه التي أنهرها على غير اسم الله عز وجل وأنها ميقات لا يَحِلُّ لأحدٍ أن يتعاطاها.
هذا الكلام.. لسنا بحاجة إليه, لكننا قد نُبتلى به في كلام يُقال أو في كلام يُكتب.
والدين والحمد لله واضح, والشرع ليس ملكاً لأحد ليُجَيّزه كما يقال على مراده.
إذاً: قلنا:
إن أهل الكتاب كفار, وأنهم من أصحاب النار إن لم يقلعوا عما هم عليه..


قال الله تبارك وتعالى بعد ذلك:-
(رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة)
في الآية الكريمة..

3) بيان فضيلة هذه الصُحُف.. وأنها مُطَهَرة..
وأن الرسول الذي من عند الله عز وجل يتلوها.. وهذا من فضيلتها..

وفي الآية من الفوائد..

4) أن هذه الصُحُف.. فيها مكتوبات قيّمة..
ما هذه المكتوبات؟ بماذا لخصناها..
- أخبار صادقة..
- وأحكام عادلة..
قوله تعالى:-
(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)

5) يستفاد من قوله تعالى (إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)
يُستفاد أن الإخلاص.. في العمل.. سببٌ لعدم الفُرْقَة
وهذه الفائدة.. نفيسة.. لو تأملتها..
لأن المُخِلص يريد ما عند الله عز وجل
والمخلص الثاني يريد ما عند الله عز وجل, والثالث وهكذا.. إذاً:-
لن يَدُبَّ بينهم خلاف..
فالجميع سوف يكونون متوجهين إلى.. ربّ واحد, إلى خالق واحد..
فالإخلاص.. سبب في دفع الفرقة والشقاق والخصام..
إذاً.. إذا دبّ.. خصام وشقاق وسوء تفاهم بين العاملين في أيّ مجال هم فيه..
فاعلم أن هذا.. يُؤشر إلى شيء في اخلاصهم فلينتبهوا لذلك.. فإذا أخلصوا فهم سيقضون على تلك الخصومات, وإن استمروا فربما يعود هذا إلى اخلاصهم..
وبالتالي.. إلى قبول عملهم, وبالتالي إلى استمراره.. إلى مفاسد يجُرّ بعضها بعضاً.
* وأخبار السلف في الأخلاص وتصحيح النيّة معلومة..
(ممكن للإنسان أن يُطالعَ منها شيئاً)
أيضاً.. مما يُقَيد ونحن لا نريد أن نمرّ على كل كلمة لكن ننتقي ما يكون بارزاً فيها.

يستفاد من قوله تعالى:
(أولئك هم شر البرية)

6) يستفاد أنه قد يكون في بعض مخلوقات الله - عز وجل شرّ.
س/ كيف تجمع بين هذا وبين قوله عليه الصلاة والسلام
"والشرّ ليس إليك"؟!!
فالجواب والجمع مَرّ علينا كثيراً..
أن قوله: "والشر ليس إليك" يعني بذلك فعل الله - عز وجل
فعل الله ليس فيه شرّ, لكن: مفعوله, مخلوقاته.. قد يكون في بعضها شرّ.
إذاً هذه الفائدة نلخصها:-
أنه قد يكون في بعض مخلوقات الله تعالى شرّ لقوله تعالى (أولئك هم شرّ البرية)

أيضاً:-
مما يستفاد من الآيات:-

7) بيان فضل الله - عز وجل على المؤمنين, حيث كافئهم بحُسْن المكان, واتبعه بُحُسن الزمان, فحصّلوا الفضيلتين..

أيضاً
مما يستفاد من الآية الأخيرة في السورة

8) اثبات صفة الرضى لله عز وجل
وصفة الرضى.. هل هي صفة ذاتية أو فعلية؟
صفة الرضى صفة ذاتية وفعلية..
هي.. ذاتية باعتبار أصلها..
وفعلية باعتبار آحادها..
فالله تعالى "يرضى عن الصالحين, ويرضى عن المصلين.. رضىً متجدد لكن.. أصل الرضى.. ثابت لله عز وجل

أيضاً:
مما يستفاد من الآية..
9) اثبات أو صحة القول: إن فلاناً رضي عن الله
صحة عبارة [رضىَ عن الله]
من أين تؤخذ هذه؟
(ورضوا عنه)
فالعبارة هذه لا إشكال فيها..
أن يُقال: فلان راضٍ عن ربه..
أو: أنا راضٍ عن ربي..
لا إشكال, لأن معناها صحيح.. ودلّ عليه ما بين يديك

في قوله تعالى (ذلك لمن خشيَ ربه)
10) فضيلة وعِظَم هذه الصفة, صفة الخشية لله عز وجل -..
فإن: الخشية سبب للثواب الذي أشار الله تعالى إليه.. (ذلك)
- والخشية كما عرفت: هي:
خوف الإنسان مع تعظيمه لربه..
خوف مع تعظيم, والتعظيم يستدعي العلم لأنك لا تُعَظِم مجهولاً, لا تُعَظِم إلا معلوماً وهو ربك عز وجل
هذا ما تيسر من هذه الفوائد..
نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بها..



ــــــــــــ انتهى الشريط الثالث ـــــــــ


التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 03:11 مساءً الخميس 19 مايو 1446.