فيشق على الإنسان أن يرى نفسه مغلوباً في قضية، أو خاسراً في معاملة عالية أو دنية، ولكنَّ المؤمن مذعن للحق مسلم بما يلزمه من جهة الشرع، يقول الحق وإن كان مراً، ويرجع للصواب وإن كان ثقيلاً .
وحال الإنسان مبنية على فوز يفرحه، أو خسارة تحل به فتترحه ! ولكن ما الفوز الحقيقي وما الخسارة الكبرى ليجتهد في الأولى وينأى في الأخرى ؟ .
أما الفوز الحقيقي فاستمع إليه يقول الله تعالى (ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)
(ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون)
فعماد الفوز في طاعة الله والاشتغال بمراضية فهي سعادة الدنيا ويهجتها وهي النجاة في الأخرى (وإنما توفونا أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز)
(من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين)
وتاج هذا الفوز هو الرضا من الرحمن الرحيم
(رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك هو الفوز العظيم)، وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله تبارك وتعالى يقول: لأهل الجنة يا أهل الجنة ؟ فيقولون: لبيك ربنا وسعديك فيقول هل رضيتم ؟ فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب، وأيُّ شيء أفضل من ذلك؟ فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا)
(ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم)
أما عظم الخسارة فهي الخسارة الدائمة يقول الله تعالى (قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين)
(وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم)
فاللهم لطفاً ، خسروا أنفسهم وأهليهم !!
خسروا أنفسهم أين ذهبت أنفسهم ؟
بل وخسروا أهليهم أيضا فانقطعوا ، فلم يظفروا بزوج ولا ولد !! عن ابن عباس : ليس من أحد إلا وقد خلق الله له زوجة في الجنة فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله،
ولا خسارة أعظم من خسارة من فرق بينه وبين أحبته يوم الحسرة والندامة
قال ابن كثير : (أي: تفارقوا فلا التقاء لهم أبدا، سواء ذهب أهلوهم إلى الجنة وقد ذهبوا هم إلى النار أو أن الجميع أسكنوا النار ولكن لا اجتماع لهم ولا سرور) .
فلعلك يا عبد الله أدركت الفوز والخسارة الحقيقيين .
ولقد أقام الله مثلاً للفوز والخسارة في الآخرة بما يحصل ، أو يفوت من أمر الدنيا ولكن شتان بين أمر الدنيا وأمر الآخرة، فأي خسارة في أمور الدنيا تقارب الخسارة في الآخرة .
وأي فوت يؤسف عليه بعد فوت حظ الآخرة ؟!
(تعس عبد الدينار وتعس الدرهم )
قبل سنيات ليست كثيرة أسف بعض الناس على ذهاب بعض حظوظهم، أو كلها من مساهمات تردت أو خطط لها لتتردَّى فصارت المساهمات شركاً صيد به أناس زجوا بأموال طال جمعهم لها وربما باعوا ممتلكات لهم وحلياً لنسائهم ليدفعوا أثمانها رخيصة في شراء أسهم يرجون عاقبتها أضعافاً مضاعفة .
ناهيك عمن أخذ درهيمات من أقاربه فهو يجمعها من أمه وأبيه ونساء بيته ومعارفه ، وفاوض زملاءه ورفقاء عمله فلما جمع وأوعى لم يتردد في أن يكتتب في تلكم الشركة فهو قد أخذ طريقه في مصاف المكتتبين واقف على قدميه يرجو أن يصل إلى الموظف ليسطر اسمه.
تحدثه نفسه بنصيب وافر من التخصيص ثم بأوفر منه من الربح حينما يؤذن بالتداول .
وإن كان ينوي استثماره ولا يرغب في المضاربة فالأماني أوسع، والأحلام أرفع
ثم ها هي الأيام تأخذ دورتها والشهور تردفها الشهور، ومتابعو حركة الأسهم ، والعاكفون على الشاشات تتغير ملامح وجوههم ، ولهجة خطابهم .
ولكن بصيص الأمل لم ينغلق بعد فالتجارة عرض وطلب، ولا ربح إلا بعد خسارة .
أماني وتسليات نفس ، وما علم أنها خسارة تتبعها خسارة ومن سيقف في وجه حجر مترد من علو ، أو يصد مطراً أخذ مجراه إلى سفل .
تقشعت سحب الآمال واستيقظ أصحاب الأحلام يقلبون أكفهم على مساهمات خوت على عروشها يقولون: ياليتنا لم نساهم بأموالنا ، ولم نبذل فيها أوقاتنا .
فهل يجدي الكلام بعد هذا ؟
نعم يجدي إن شاء الله ، ومعاذ الله أن يكون كلام تشفي لأحد ضد أحد،أو شماتة بقوم لأجل آخرين .
(فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض)
إن تلك النازلة وهي تردي أسهم المساهمين وفيهم الفقير الذي يؤمل غنى ، والمدين الذي يرجو أن يسدد دينه، ومن طلب الربح ليؤمن مسكناً له، أو ليتزوج به أو يسد حاجة من حاجاته، وكذا من تطوع بجمع أموال من غيره
إنَّ تلك النازلة يتذكر الإنسان عندها قوله تعالى (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات)
فنزول مؤشرات الأسهم لا ريب أنها من نقص الأموال فكيف التعامل مع هذه النوازل ؟
وكيف يتغلب على ما طبع عليه الإنسان من حيث هو إنسان (إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر كان جزوعاً) .
معاشر من ابتلوا بخسائر في تلكم المساهمات : إن الله قال بعد ما بين أنه يبتلي بهذا كله (وبشر الصابرين)
فالصبر وظيفة للمنكسر، وعبادة المنتظر ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم "واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك" أخرجه أبو داود بسند صحيح .
ثم بعد أن عادت المساهمات فتية، وأطلت برأسها ضاحكة مستبشرة، تعد بالمكاسب، هذا لعلَّ الإنسان يقف مع نفسه وقفات تعقل يحتاط بها لنفسه في المستقبل ومنطلقه قول المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم « لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين » . متفق عليه .
مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم: لبيان كمال احتراز المؤمن ويقظته، كحال من أدخل يده في جحر فلدغته حية، فإنه إن عاد وأدخل يده في ذلك الجحر، فهو لم يستفد عظة مما أصابه فيه أول مرة .
فجمع الأموال في مجال واحد مع ما فيه من المخاطرة فيه من المفاسد تعطيل لمجالات أخرى يمكن أن تستثمر ، هذا لمن كان المال بيده وهو ملك له !
فكيف إذا كان المال قد استدانه وجعل سداده على مرتبه لسنين طويلة فزاحم دينه نفقة أولاده ، أو أخذه من يتيم بحكم ولايته له، أو أرملة أو هو ثمن بيته ومتجره .
ومن وقفات التعقل أيضاً أن يعيد الإنسان النظر في صحة هذه الشركة، وسلامة أسهمها من الربا الذي توعد الله بمحقه (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) .
ولعله ركبه طيش فتنة المال ، سكرة الربح فلم يسأل، ولم يرد أن يسأل عن صحة المساهمة في تلك ، أو ربما أخذ بعض فتوى وخيطاً من كلام، وفي صحيح البخاري عن النبي "يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ المال أمن حلال أم من حرام" رواه البخاري .
ومن وقفات التعقل والمراجعة لعلك يا عبد الله : كنت ممن انشغلوا أو ينشغلون بمتابعة حركة الأسهم حتى أخرَّت الصلاة عن وقتها، أو نقرتها مسابقة للزمن (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون)
ورزق الله لا يطلب بمعصيته (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لايحتسب)
أيها الناس مع إيماننا أن حركة الأسهم السابقة حركة غير صحيحة وأن لها ظاهراً وباطناً .
وأن هناك من عبثوا بها عبثاً أخرجها من كونها مساهمات شرعية إلى كونها مقامرات شيطانية يصبح الإنسان بعدها غانماً أو خاسراً في آن واحد .
ففي عجاجة ربح يغتني إنسان ، وفي عجاجة أخرى يفتقر، والبقاء لمن يحسن البقاء بدهائه ومزاحمته للضعفاء
أما أن يكون هناك تجارات ينتعش بها السوق الإسلامي ويرتزق بها أبناء المسلمين، وتقضي على جزء من البطالة بين الشباب فهذا لم نشهده منذ قيام الأسهم ، ولو قلنا شهدنا ضد ذلك لم نكن مبالغين إن شاء الله.
وإننا نسأل الله أن يوفق الجهات المسؤولة لتدارك الوضع الحالي من منطلق شرعي يكف تطاول الجشعين، ويرد حقوق المستضعفين . أقول قولي هذا ....
أما بعد :-
فلعل من الحاضرين الكرماء من تحدثه نفسه في دخول في مساهمة ما فمع ما سبق القول فيه نقول أيضا الله 000
مع حرصك على أخذ الأسباب الصحيحة للرزق، وكثرة الأموال فلا تنس الصدق مع الله، وصدق اللجأ إليه تعالى فإن ضاق عليك رزقك وعظم عليك همك وغمك وكثر عليك دينك فاقرع باب الله الذي لا يخيب قارعه، واسأل الله جل جلاله فهو الكريم الجواد، وما وقف أحد ببابه فنحّاه، ولا رجاه عبد فخيبه في دعائه ورجاه ، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم :" اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك "
"دخل النبي صلى الله عليه وسلم يومًا إلى المسجد فنظر إلى أحد أصحابه فرأى فيه علامات الهم والغم رآه جالسًا في مسجده في ساعة ليست بساعة صلاة فدنى منه صلوات الله وسلامه عليه ـ وكان لأصحابه أبر وأكرم من الأب لأبنائه ـ وقف عليه رسول الهدى فقال: يا أبا أمامة ما الذي أجلسك في المسجد في هذه الساعة ؟ قال: يا رسول الله، هموم أصابتني وديون غلبتني ـ أصابني الهم وغلبني الدين الذي هو همّ الليل وذل النهار ـ فقال : ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن أذهب الله همك وقضى دينك قال : بلى يا رسول الله ، قال : قل إذا أصبحت وأمسيت : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال قال: فقلتهن فأذهب الله همي وقضى ديني" رواه أبو داود في كتاب الوتر, باب في الاستعاذة (4/412) عون المعبود شرح سنن أبي داود، عن أبي سعيد الخدري .
ختام القول صحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم" إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها و تستوعب رزقها فاتقوا الله و أجملوا في الطلب " حديث صحيح رواه الحاكم وغيره .
فاللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ....