إنَّ الحمد لله نحمده ،
أما بعد :-
فيا أيها الناس ، اتقوا الله تعالى وأطيعوه ، وراقبوه في سركم وعلنكم ، ولا تعصوه ، واعلموا أنَّ الذنوب والمعاصي تضرُّ في العاجلِ والآجلِ، وأنَّ ضررَها في القلوب كضرر السُّموم في الأبدان بل أشدُّ .
فالمعاصي ما حلَّت في ديار إلا أهلكتها، ولا في قلوبٍ إلا أعمتها ، ولا في أجسادٍ إلا عذَّبتها ، ولا في أمة إلا أذلتها فهي سبب لهوان العبدِ على الله وخروجه من محبته رضاه
( ومن يهن الله فما له من مكرم )
فما زالت نعمةٌ إلا بذنب، ولا حلَّت نقمةٌ إلا بذنب
(ذلك بأنَّ الله لم يكن مغيراً نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )
فالله لا يغير نعمة أنعمها على عبدٍ في مال، أو ولد أو صحة، أو جاه وحسن سمعة أو غيرها، لا يغير ذلك إلا إذا غيَّر العبدُ، فيغير طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره ، وأسباب رضاه بأسباب سخطه
أيها الأخوة كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجمع في دعائه بين طلب الخير والاستعاذة من الشر .
فإن وفق العبد بدعاء الخير وأجاب الله دعاءه وحصَّل مطلوبه فقد حاز جانباً عظيما من التوفيق والسعادة .
ثم تتمة هذا النعمة أن يوفق مرة ثانية فيعاذ من الشر بأنواعه المتعددة والمتلونة ليلا ونهاراً سراً وجهاراً .
ومن أعظم سور القرآن سورتا المعوذتين (قل أعوذ برب الفلق) و(قل أعوذ برب الفلق) .
كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بهما في نفسه ويعوذ بهما غيره .
وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم أدعية كثيرة كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بها في مناسبات متعددة كلها يصدرها بكلمة (اللهم إني أعوذ بك)
تلك الكلمة العظيمة فما معنى (اللهم إني أعوذ بك) إنها افتقار إلى الله عز وجلًّّ ولجأ إليه واعتصام بجانبه، ودخول في سلطانه بعد أن أيقن العبد من داخل قلبه أن الله هو الواقي من كل مكروه، هو المدافع عن كل سوء وكيد يبيته إنس أو جن . (إن الله يدافع عن الذين آمنوا)
معاشر الإخوة: من جوامع استعاذات النبي صلى الله عليه وسلم ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِك ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِك، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِك، وَجَمِيعِ سَخَطِك) .
استعاذات نبوية أظهر من خلالها النبي صلى الله عليه وسلم افتقاره إلى الله .
فكم هو فقرها ونحن المقصرون إلى الله ؟
(يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد)
من منا ينكر نعمة الله عليه ؟
ثم يركب رأسه ويقول: ليس لله عليَّ نعمة !
إن فعل فهو الظالم لنفسه الذي سعى في ترديه وحتفه .
(ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة)
فنعم الله عرفها العارفون، ولا يقوى على جحدها إلا الكافرون .
فكيف بك حينما تزول عنك نعمة كنت تصبح وتمسي فيها فجاءت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم استعاذة من هذا بقوله (اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِك)
زالت النعمة مرة واحدة، أو مرة إثر مرة فأصبح صاحبها يقلب كفيه على ما فاته من فضل الله، ويقول: يا ليتني ، ثم يا ليتني ...
يندب حظه ويأسف على فقد موجود لم يعرف قيمته.
فالمال ذهب أدراج الرياح فبعد أن كان يعد المال في حسابه، ويرقب زيادته هو الآن يعد المال لغرمائه، ويرقب نقص رصيده الذي يذهب أقساطا لجهات عدة التزم لها فلا يقبلون حقوقهم إلا كاملة غير متأخرة.
وهذا ذهبت منه نعمة الزوجة والاستقرار البيتي فرغم جهوده في بقاء زوجته، وسعيه وسعي غيره في لـمِّ الشمل وإصلاح الحال أبت زوجته البقاء في البيت لأقل زمن، وربما اشترت فكاكها منه بمال دفعته له
فلم يلق إلحاحه إلا صدودا عريضا منها، وربما من وليها .
ما الذي حدث ؟ (زالت النعمة)
وهكذا الحال في بقية نعم الله الكثيرة (وإن تعدو نعمة الله لا تحصوها) .
الاستعاذة الثانية (وتحول عافيتك)
وَتَحَوُّلُ الْعَافِيَةِ انْتِقَالُهَا وَلَا يَكُونُ إلَّا بِحُصُولِ ضِدِّهَا وَهُوَ الْبلاء .
فإن كانت العافية في بدنه فقد تحول إلى عليل أنهكه المرض فهو يعد دقائق الوقت ليضبط دقائق حبات العلاج لعله يجد عافية فقدها .
فلم تكن الحياة منفتحة أمام ناظريه بعد بلاء المرض كما هي منفتحة زمن العافية فضاق ما اتسع في عيني غيره .
فلا ليله ليل ولا نهاره نهار .
تساوت الأوقات عنده لأن مرضه ساوى عنده المشاعر والأحاسيس .
فلم يعد يهنأ بنوم ولا طعام فطعامه بمقدار، فهو على حيطة من نسمات الهواء، يحذر تقلب الأجواء .
وليس الكلام أيؤجر على ذلك أم لا ؟
وإنما كلامنا في عافية تحولت، ونعمة عن صاحبها ارتحلت.
ثالثها، ثالث ما استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم (وَفَجْأَةِ نِقْمَتِك) الْفَجْأَةُ البغتة، يؤخذ الإنسان على حين غرة، فهو آمن في بلده مطمئن بين أولاده، يجد أنسه في أسفاره، ورحلاته .
رفاقه قد ملؤا عينه، عمله ووظيفته قد سدت حاجته .
ثم نقمة الله تفجؤه في ليل أو نهار .
فحلت به عقوبة الله، ونزل به عذابه .
فنقم الله عليه حينما أمن مكر الله فلم تكن نعم الله إلا محل استعانة منه على معاصي الله فوجده الله حين نهاه، وفقده حين أمره .
فحلت به العقوبة العاجلة التي لم تمهله حيث لا عذر له فصار عبرة لغيره والتعيس من اتعظ به غيره .
نسأله الله السلامة والعافية .. أقول قولي ...
الثانية : أما بعد:-
فآخر ما استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق (ومن جميع سخطك)
فاستعاذ بالله مما يوقع في سخط الله، أي: غضبك فربنا عزَّ وجل يغضب إذا انتهكت محارمه، أو ضيعت حدوده .
فالاستعاذة من سخط الله استعاذة أن يقع الإنسان في شيء مما يسخط الله وذلك بعد التعرف على حدود الله، ومراعاة حرماته .
فهل تقوى يا عبد الله على أن تسير في أرض الله وتأكل من نعمته وقد كتب اسمك فيمن غضب الله، وحل عليه سخطه .
ما أبعد السعادة عن هذا وما أقرب نكد العيش، وسوء العاقبة، وفشل الحياة عن قوم رضوا بسخط الله، وقنعوا بما حذرهم منه .
أيها الموفق: بعد أن عقلت هذه الاستعاذات النبوية فإن حقيقتها الاستعاذة من الذنوب، والخوف منها، فالله تعالى لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون .
فاتقوا الله عباد الله ، واستغفروه ، وحاذروا غضبه ولا تعصوه ، فالمعاصي تمحق بركة العمر والرزق والعلم ، فلا تجد أقلَّ بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله تعالى ، وما زالت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق قال تعالى (ولو أنَّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ) .
وإن من أعظم ما ساقته علينا الذنوب وجلبته علينا قسوة القلوب فقد قست قلوبنا فلم تعد آيات القرآن تؤثر فيها، أو تغير شيئا في حياتنا، وصلاتنا التي هي صلتنا بربنا نخرج بها بالقلوب التي دخلنا بها إن لم تكن أسوأ حيث كانت محلاً لخواطرنا وهواجيسنا فإلى الله المشتكى .
وهكذا الحال في هادم اللذات الموت فمرأى الجنائز ورؤية الميت فوق نعشه مناظر ألفتها نفوسنا فلم تصل إلى قلوبنا،
وتسلط الظالمين على الشعوب الممتحنة لا يردع السفيه، ولا يوقظ العاصي، والمتألم منا لتلك المصائب غاية تألمه، ونهاية تأثره حينما يشاهد تلك الجرائم، أو يسمع تلك الأخبار ثم هو على عهده الأول ليس لكثير من حرمات الله قدر في قلبه، ولا هيبة في نفسه فإلي الله نشكو قلوباً حق عليها قول الله تعالى (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) .