• ×

د.عبدالرحمن الدهش

خطبة الجمعة 2-4-1433هـ بعنوان قتل سبعون

د.عبدالرحمن الدهش

 0  0  2.8K
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

 

الحمدُ لله يبتلي المؤمنين بالكافرين ، ويرفعُ درجة الصابرين ، ولا يضيع أجر المحسنين . وأشهد ألا إله إلا الله هيأ لهذا الدين رجالاً عاملين ، وأتقياء مجاهدين . وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله بلغ عن ربه وجاهد الكفار والمنافقين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسانٍ إلى يوم الدين . أما بعد :- فما أعظم سيرة النبي r ، وما أبلغ هدي الصحابة في نصرة دينهم ، والقيام لربهم ، فقد كانوا رجالاً صادقين ، صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فبذلوا أموالهم ، وأوقاتهم ، وأريقت دماؤهم في سبيل تبليغ رسالة رب العالمين . فهم قدوة للمقتدين ، وسِيَرُهم مشرقة في خدمة هذا الدين ، فما أحوجنا لمعرفة أخبارِهم، وتدارسِ أحوالهم ، تتربَّي من خلالها أنفسُنا ، وينشأ عليها أولادُنا ، ويتعرَّفُ عليها ناشئتُنا ) لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون ( فعبادتهم )تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ( . وجهادهم ) فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ( ومعاملتهم ) أشدَّاء على الكفار رحماء بينهم ( . أو بعد هؤلاء يبقى تميزٌ لأحدٍ، أويُعْجَبُ معجَبٌ بشخصٍ أو يُرى فضلٌ في غيرهم إلا أن يكونَ من التابعين لهم بإحسانٍ . )والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسانٍ رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدَّ لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهارُ خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم ( . ومما حُفِظَ مِن أخْبارِهِم ، ودُوِّنَ في مَجْدِهم ما حصَلَ لطائِفِة من الصحابةِ بل مِن خَيْرِ الصَّحابِة . عددُهم سَبعونَ صحابياً من الأنصار، وقد قال النبي r (آية الإيمان حب الأنصار ، وآية النفاق بغض الأنصار) وقال : (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمنٌ ، ولا يبغضهم إلا منافق ، فمن أحبهم أحبه الله ، ومن أبغضهم أبغضه الله ) ([1]) . سبعون صحابياً من خيرة الصحابة ، وفضلائهم ، وساداتهم ، وقرائهم . من أوصافهم أنهم يحتطبون بالنهار ، ويشترون به الطعام فيتصدقون به على أهل الصفة وهم فقراء الصحابة في المسجد -، ويصلون بالليل ، ويتدارسون القرآن ، فهم القرآء ، وسَرِيَّتُهم عُرفت بسرية القرآء . فما خبرُ هؤلاء القرآء السبعين ! استمع ! فخبرهم محزن، وما حصل لهم مثالٌ سيئ للخيانة في موضع الائتمان ، وللغدر في وقت الوفاء بالعهد . كان هذا في شهر صفر من السنة الرابعة من الهجرة . جاء أبو البراء عامر بن مالك إلى النبي r في المدينة ، فدعاه النبي r للإسلام ، فلم يسلم، ولم يبعد ، أي : أن إسلامه قريبٌ مرجو . ولكنه عرض على النبي r أن يرسل بعض أصحابه دعاة إلى نواحي نجدٍ . فقال النبي r : إني أخافُ عليهم أهل نجد . فقال أبو البراء : أنا جارٌ لهم ، أي : يحميهم ممن يكيدهم. فاختار النبي r سبعين رجلا من أصحابه وبعثهم معه ، وجعل أميرهم واحداً منهم . فساروا إلى هذه المهمة ، محتسبين عند الله مسيرهم، فهم رسلُ رسول الله ، خرجوا يبلغون رسالةَ اللهِ ، ليخرجوا الناس من عبادةِ العبادِ إلى عبادةِ ربِ العباد ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، خرجوا دعاة إلى جنة عرضها السموات والأرض . فلما وصلوا مكاناً يسمى بئر معونة قريباً من منازل بني سُليمٍ ، وما علموا أنهم قد وصلوا إلى مضاجعهم ، وإلى المكانِ الذي تفيض فيه أرواحهم ، وتسجل فيه أسماؤهم شهداءَ عند ربهم . نزلوا بئر معونة ، وكان مع واحد منهم واسمه حرام بنُ ملحان، وهو خالُ أنس بن مالك - رضي الله عنهما كان معه كتاب من النبي r إلى عامر بن الطفيل أحد صناديد الكفر . فما أن وصل حرامٌ إلى عدو الله عامر هذا ، ومعه الكتاب إلا وأخذت عامراً العِزةُ بالإثم ، ومنعه كبره أن ينظر في كتاب رسول الله r ، وحينئذ يبدأ مشوار الخيانةِ ، ووجه النقض المسود يُطِل على هذا الثلة المؤمنة، بداية بهذا الرسولَ حرام بن ملحان حامل الكتاب . فأشار عامرٌ إلى رجلٍ عنده ، فطعن حراماً الصحابيَّ بالحربة من خلفه، غدراً وخيانة، فأنفذها فيه ، فخرج دمه في سبيل الله فلما رآه حرامٌ ، أخذ من دمه ، ونضحه على وجهه ورأسه ، ثم قال : الله أكبر ، فزت ، وربِّ الكعبة ! وصدق ! والله . فلأيِّ شيء خرج إلا طاعةً للهِ ورسولِه )ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما( . ماذا يريد بهذا العمل إنه يعطي درساً لهذا الكافر ولكل من سمع بخبره بعطي درساً أنَّ الخروج من الدنيا على وجه العزة في طاعة الله هو الفوز المطلوب . قتل حرامُ بن مِلحان ليسبق السبعين من إخوانه بعد أن ثُلِموا بقتله . وأصحابه نازلون في بئر معونة ، ينتظرون خبر صاحبهم . ومن قتل واحداً هان عليه قتل غيره ، فخرج الغادر عامر ابن الطفيل ، يستحثُ بني سليم على غدر مثلِ غدره فخرجت عُصية ، ورعلٌ وذكوان أحياءٌ من بني سليم ، خرجوا فأحاطوا بأصحاب النبي r . فما أعظمها من مفاجأة ، وما أشدَّه من كربٍ ، دعاة آمنون ، تجمَّع حولهم خونة كافرون ، ولكنَّه أمر نافذ ، وحكمته قد تخفى ، ويبوء بسوء العاقبة من عباده الأشقى تجمعت هذه الأحياء فرأى الصحابة الموتَ عياناً ، فهرعوا إلى سيوفهم باذلين قدرتهم ، مدافعين عن أنفسهم معتذرين إلى ربهم . فقاتلوا وقتلوا عن بكرة أبيهم ، ولم ينجُ منهم إلا رجلٌ كان قائماً على سرحهم ، علم بخبرهم لما رأى أفواج الطيور تحول حول جثثهم ، فأدرك الوقع ، وعلم الخيانة ، فرجع إلى المدينة رجع إلى النبي بالأخبار المحزنة ، والفاجعة العظيمة ، مقتلِ طائفة من أفاضل المسلمين ، وخيرة الصالحين . ولئن قتل سبعون رجلاً في أحد، وأسف عليهم النبي r ، ولكن قتلَ الآمنين، وتسلطَّ الخائنين ، أبلَغُ من قتل المقاتلين في معركة مستعدين . قال أنس رضي الله عنه : (ما رأيت رسول الله r وجد على أحدٍ ما وجد على أصحاب بئر معونة ) . فلقد حزن النبي r عليهم حزنا عظيماً، وقنت شهراً في صلاة الصبح يدعو علي رعلٍ وذكوان وعصية . وكان هذا بدء القنوتِ في النوازل، ولم يكن قنوتٌ قبلُ. فرضي الله عن هذه الطائفة ، وأكرم نزلهم ، وجمعنا بهم في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . برحمة ربنا أرحم الراحمين . الحمد لله ... إنَّ ما جري على الأمة الإسلامية في صدرها الأول مع نبيها صلى الله عليه وسلم أو بعده إنها دروس وعبر فتكالب الأعداء وكيدهم في الزمن الأول هو تكالبهم وكيدهم في الزمن الأخير ولكن قد تتغير أساليبه ويزداد مكره . ومن دروس هذه الواقعة المحزنة أنَّ اليأس لم يعرف إلى قلوب الصحابة سبيلاً (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم) فخيانات اليهود، وتسلط النصارى الصليبيين هو من جملة معاداتهم لهذا الدين وحنقهم على أتباع سيد المسلمين . واليوم سوريا هي قضية العالم فلقد أصبحت شغل الدنيا الشاغل.. الكل يتحدث عنها، عشرات المقالات اليومية، والتغريدات الصباحية والمسائية يتعب في ملاحقتها غير المتابع فكيف بالمتابع ؟! كل يقول من منظوره، ويتكلم وأمامه عينيه مصالحه، كل يعمل على شاكلته . فحينما قتل الصحفيون المخاطرون بأنفسهم لأجل الشهرة والذكر الإعلامي قامت قائمة رؤسائهم، وتغيرت نبرة الصوت . والعقل يقول: لا تثريب عليهم، قتل أبناؤهم فهل يلام من قتل ابنه ! فلم تعد تصريحات (إن الرئيس السوري فقد شرعية، على النظام أن يوقف سفك الدماء فورا) لم تعد كافية! عبارات ليس أبرد منها إلا وجوه أصحابها التي أنكرت، وقطبت في الظاهر، وتهللت واستبشرت في الخفاء فرجل أعمل سلاحه في شعبه، وكفى اليهود مؤنة قتلهم وصرف العالم فترة من الزمن ليفعل المحتل الغاصب ما شاء في فلسطين والمسجد الأقصى إن لم يمكنهم أن يكافئوه فلا أقل من أن تمد الحبال في قضيته، ويمنحوه الزمن الكافي ليصفي حساباته، وهي حساباته وحسابات أسياده ومن فرخوه . قد تقول: ما قيمة هذا الكلام في هذا الوقت ومن هذا المكان ؟ أقول والله له كل القيمة فالذي لم يرض دينك يوماً من الدهر، وفعل وافتعل ليلصق كل تهمة حول تدينك، ويلاحقك في نشاطك الدعوي والإغاثي والجهادي وفهم قوله تعالى (ولن ترض عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم ) أكثر فهما من كثير من المسلمين قادة وشعوباً . لا يمكن أن تكون قضاياك محل صدق منه مادامت تتعارض مع مصالح له، أو يتوقع تقاطعها. وماذا عليه أن يموت مائة أو مئتان من شعب مسلم، وما الضير لو بلغوا الألف أو الألفين أو أكثر من ذلك . وغداً من الشهر فما لا يتم اليوم يتم غداً أو بعده . إذن ليس للمسلمين إلا ربهم الذي دعاهم فهل يستجيبون له يصدق وينصرونه بحق والله يقول : (إن تنصروا الله ينصركم) ووعده لا يخلف (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذين ارتضى وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا) . فعبادة الله وتوحيده وعدم الشرك به هو طريق النصر والتمكين، والتمكين لن يكون لدين صنعوه، ولا لمنهج اختاروه ولكن للدين الذي ارتضاه لهم . أيها الإخوة لننصر قضايانا في أنفسنا طاعة لله، وتركاً لمعاصيه وأمرا بالمعروف ونهياً عن المنكر وتحقيق الولاء للمسلمين يؤلمنا ما يؤلمهم، ويسوؤنا ما يسوؤهم فهم على ذكر منا، ندعو لهم ونتواصل معهم بما ييسر الله لنا من السبل الواضحة، ومع كل هذا نعرف أن العدو مشترك فالذي تسلط على أخيك ما الذي يمنعه أن يتسلط عليك حينها نشفق من ذنوبنا، ونخاف أن يغير الله علينا بما كسبت أيدينا وبما تجرأ عليه سفهاؤنا . (ويا قومي لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد) (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) فلا حمى لأحد إلا بحمى الله (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) . فإلى الله المشتكي، ومنه الفرج والنصر يرتجى . فاصدقوا الله بالدعاء لإخوانكم ، ولا تسلطوا أعداءكم عليكم بذنوبكم ... فاللهم احفظ المسلمين بحفظك .



التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 02:38 مساءً الخميس 19 مايو 1446.